زياد الرحباني (1 يناير 1956 -) هو فنان وملحن ومسرحي و كاتب لبناني اشتهر بموسيقاه الحديثة وتمثيلياته السياسية الناقدة التي تصف الواقع اللبناني الحزين بفكاهة عالية الدقة. تميز أسلوب زياد الرحباني بالسخرية والعمق في معالجة الموضوع، كما أنه يعتبر طليعيا شيوعياً وصاحب مدرسة في الموسيقى العربية والمسرح العربي المعاصر. نشأته. ولد زياد في 1 يناير 1956. أمه هي نهاد حداد المغنية ذات الشهرة العالمية والمعروفة بفيروز. ووالده هو عاصي الرحباني أحد الأخوين رحباني الرواد في الموسيقى والمسرح اللبناني. كلا الأبوين كانا مشهورين وموهوبين، ولم يظنا أبدا أن مولودهما هذا، سيتحول إلى شخصية مثيرة للجدل في عصره من خلال موسيقاه وشعره ومسرحياته في ما بعد عامه السادس، اعتاد الرحباني الصغير أن يقطع فروضه المدرسية بسؤال والده عن مقطوعاته. فقد كان عاصي يسأل زياد دائما عن كل لحن جديد يقوم به، إن كان جميلاً أم لا. كان زياد يتوقف في عمر الست سنوات عن كتابة فروض المدرسة ليحكم على لحن كتبه عاصي والده، إن كان جميلاً أم لا، وليرى ما كان ينقصه. وبعد كان زياد يدندن لحناً انتهى إلى أذن عاصي، الذي سأل ابنه: " أين سمعت هذا اللحن من قبل؟!! ", فكانت إجابة الصغير: " لم أسمعه مطلقاً، بل هو يتردد في ذهني منذ حين، حينها فقط أدرك عاصي الموهبة الموسيقية لابنه. أعماله الأولى. أولى أعمال زياد لم يكن عملاً موسيقياً، بل كانت أعمالاً شعرية بعنوان "صديقي الله" والذي كتبه بين عامي 1967 و1968. هذه الأعمال التي كانت تنبأ بولادة "شاعر مهم"، لولا انه اختار الموسيقى فيما بعد. عام 1971 كان أول لحن له لاغنية ضلك حبيني يا لوزية .وفي عمر السابعة عشرة، أي في عام 1973 تحديداً قام زياد بتقديم أول لحن لوالدته فيروز وكان والده عاصي حينها في المشفى، وقد كان مقرراً لفيروز أن تلعب الدور الرئيسي في مسرحية المحطة للأخوين رحباني، ولهذا كتب منصور (أحد الأخوين رحباني) كلمات أغنية تعبر فيها فيروز عن غياب عاصي لتغنيها في المسرحية، وألقى بمهمة تلحينها إلى زياد. كانت تلك أغنية "سألوني الناس" والتي تقول: لاقت تلك الأغنية نجاحاً كبيراً، ودهش الجمهور للرصانة الموسيقية لابن السابعة عشرة ذاك، وقدرته على إخراج لحن يضاهي ألحان والده، ولو أنه قريب من المدرسة الرحبانية في التأليف الموسيقي. وكان أول ظهور لزياد على المسرح في المسرحية ذاتها أي "المحطة"، حيث لعب فيها دور الشرطي. كما ظهر بعدها في "ميس الريم" بدور الشرطي أيضاً والذي يسأل فيروز عن اسمها الأول والأخير، وعن ضيعتها في حوار ملحن. وفي ذات المسرحية قام زياد بكتابة موسيقى المقدمة، والتي أذهلت الجمهور بالرتم الموسيقي الجديد الذي يدخله هذا الشاب على مسرحيات والده وعمه. ومن جديد طلبت إحدى الفرق المسرحية اللبنانية التي كانت تقوم بإعادة تمثيل مسرحيات الأخوين رحباني، والتي كانت تضم مادونا المغنية الاستعراضية التي كانت تمثل دور السيدة فيروز في تلك المسرحيات، طلبت من زياد أن تقوم ولو لمرة واحدة على الأقل بتمثيل مسرحية أصلية بنص جديد وأغان جديدة وبقصة جديدة، وكان جواب زياد إيجابياً، واستلم تلك المهمة، وقام بكتابة أولى مسرحياته "سهرية"، وقد نسخت تلك المسرحية شكل مسرحيات الأخوين رحباني وتعاملت تماماً مع مقولاتها فكانت كما يصف زياد "حفلة أغاني" لا أهمية للقصة فيها بقدر ما هو مهم استمرار الأحداث كوسيلة لتمرير المقطوعات والأغاني. بعدها توالت المسرحيات، ولكن بأسلوب مختلف جداً عن الأسلوب السابق (الرحباني) حيث اتخذت مسرحيات زياد الشكل السياسي الواقعي جداً، الذي يمس حياة الشعب اليومية، بعد أن كانت مسرحيات الأخوين رحباني تغوص في المثالية وتبتعد قدر الإمكان عن الواقع، ويعيش فيها المشاهد خيالاً آخر وعالماً آخر. هذا ما لم يقبله زياد لجمهوره، وخاصة أن الحرب الأهلية كانت قد بدأت. حياته العاطفية والاجتماعية. تزوج زياد رحباني من السيدة دلال كرم، وأنجبا عاصي (الابن)، (تبين لاحقاً أنه ليس ابن زياد)، ولكن هذا الزواج كان مقدراً له الفشل، الأمر الذي اعترف زياد بأن له اليد الكبرى فيه، واكتشف الزوجان أن علاقتهما الزوجية ليست ناجحة، فقامت السيدة دلال كرم بالكتابة عن حياتها مع زياد في إحدى مجلات الفضائح المعروفة، مجلة الشبكة، كما قام الرحباني بتأليف عدة أغاني تصف هذه العلاقة، مثل "مربى الدلال"، " بصراحة ".. و قد أدى انفصالهما، مع الأخذ بعين الاعتبار أن زياد كان يقطن في غرب بيروت (الغربية) ودلال كرم تقطن في شرق بيروت (الشرقية) وذلك أثناء الحرب، أدى إلى حرمان زياد من رؤية ابنه حتى بلغ التاسعة من عمره.. بعد انفصاله عاش زياد مع الممثلة اللبنانية المشهورة "كارمن لبس" بعلاقة دامت 15 عاماً، انتهت تلك العلاقة عندما اكتشفت كارمن أن زياد غير قادر على تحقيق الاستقرار التي كانت ترغب بالحصول عليه.. في واحدة من مقابلاتها النادرة والتي قبلت فيها التحدث علناً عن علاقتها بزياد صرحت كارمن بأن: " زياد هو شخص جدلي، يعامل المديح والنقد على حد سواء، ببساطة، كان زياد الشخص الوحيد الذي أحببت"، وأضافت: " طوال الأعوام الخمسة عشر، لم أتعلق بزياد رحباني الشخص الذي تكلله الأضواء، والتي يراه الناس من خلالها، بالنسبة لي هو الرجل الذي أحببته وعشت معه، هو الشخص الذي شربت معه القهوة كل صباح..." زياد من جانبه صرح بأن: "كارمن كان لديها كل الحق لهجري، طوال الفترة التي عشتها مع كارمن، كنت أعدها بأن هذا الوضع، المكان الذي يعيشان فيه، الحي، الشقة، الغموض والتشويش في حياتهما، كلها أشياء مؤقتة، وأني سأحاول إصلاح الوضع بأكمله.." ولكن زياد كان يعلم أنه غير قادر على ذلك.. ولهذا آمن زياد بأنه ليست فقط كارمن ستهجره، بل أي امرأة أخرى... و منذ تلك اللحظة، بإمكاننا بسهولة أن نلاحظ أن أغلب أعمال زياد الغنائية كانت تتعلق بأسلوب حياته مع كارمن، وقد صرح زياد بأن إحدى أغانيه الخاصة تتكلم بشدة عن امرأة عاشت معه لفترة طويلة، وأحبها وعاش معها.. تلك الأغنية هي.. " ولعت كتير " من ألبوم "مونودوز " والتي غنتها سلمى مصفي... كما ترددت مؤخراً أخبار عن نسب ابنه عاصي له تفيد بنفي زياد لأبوته لعاصي الابن، فقد تقدم زياد الرحباني بدعوى أمام محكمة الدرجة الأولى في المتن شمال لبنان، والمسجلة برقم 910/2008 وموعد نظرها في 23/4/2009 وموضوعها "إنكاره أبوته لعاصي زياد الرحباني وطلب شطبه عن خانته ومنعه من استعمال شهرة الرحباني وتدوين خلاصة الحكم في سجل النفوس". الخبر الذي تناقلته الصحف اللبنانية كان أشبه بإشاعة والبعض ذهب إلى الاعتقاد انها كذبة أول أبريل، غير أن سجلات المحكمة أثبتت صحة القضية، وأن زياد أجرى فحصاً للحمض النووي عام 2004، بهدف التثبت من أبوته لعاصي إلا أن النتيجة العلمية جاءت سلبية. زياد أوضح في حديث لجريدة "الأخبار" أن الوضع أصبح محرجاً، ما اضطره إلى التسريع ببتّ الأمر بشكله القانوني الصرف، أي "الدعوى" وأوضح انه لم يكن بنيته أن يتكلم في هذا الموضوع، خصوصاً أنه يتعلق بعاصي، وقال "لم أتكلم سابقاً احتراماً لحياة هذا الإنسان، كما كان من الممكن أن تسوّى هذه القضية من دون إعلام، لكن والدة عاصي لم تقم بأي خطوة قانونية متكتمة"، وأكد زياد أن هناك جهتين متضررتين، ويهمه أمرهما: هما عائلته التي لها عليه حق إنساني وغريزي، وعاصي الذي لا ذنب له بهذا الواقع، وأكد زياد أن عاصي مثله، عالق في وسط هذه القضية، حيث "إنني أنا أيضاً لا ذنب لي". الصحفي والسياسي. لم تقتصر أعمال زياد الرحباني على الكتابة المسرحية وكتابة الشعر والموسيقى فكان الوجه الثاني لزياد هو "السياسي"، وقد تميز بجرأة منقطعة النظير، وفي مهرجان الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني ألقى كلمة إلى جانب كلمة الأمين العام وتتطرق فيها لإعادة هيكلة الحزب الشيوعي اللبناني قائلاً أنه لم يخرج من الحزب إلا من كان يجب أن يخرج، وعبر عن انتمائه العميق قائلاً الشيوعي لا يخرج من الحزب إلا إلى السجن أو البيت. أما زياد الرحباني الصحفي الذي كتب في أكثر من جريدة لبنانية منها جريدة النداء والنهار أثناء الوجود السوري في لبنان، فقد تميزت كتاباته بالجرأة والقدرة الهائلة على التوصيف. وقد كتب لفترة في جريدة الأخبار اللبنانية دعماً لانطلاق الجريدة الجديدة في زحمة الإعلام والصحافة اللبنانية. يكتب عمود مانيفستو في جريدة الأخبار. أعماله الفنية. مسرحياته مرتبة زمنيًا. مسرحية المحطّه كانت البداية ومن ثم تلتها المسرحيات التالية أعماله للمغنية فيروز. كما كتب ولحّن العديد من الأغنيات بصوت السيدة فيروز وكل من جوزيف صقر وسامي حواط وسلمى مصفي وغيرهم. من أعماله الموسيقية: كما عمل عدة برامج إذاعية كانت تبث من إذاعة صوت الشعب في لبنان عبر فيها عن مواقفه السياسية من الأحداث اللبنانية الجارية والمتسارعة وهي: حَمْلَةُ الْفُقَرَاءِ الصَّلِيبِيَّةِ أو الْحَمْلَةُ الصَّلِيبِيَّةُ الشَّعْبِيَّةُ أو حَمْلَةُ الْفَلَّاَحَيْن الصَّلِيبِيَّةَ أو مَجْمُوعَةُ الْعَامَّةِ الصَّلِيبِيَّةِ أو حَمْلَةُ الْعَامَّةُ الصَّلِيبِيَّةِ، هي أولى الحملات الصليبيَّة، وأكبر وأشهر حملة شعبيَّة نُظِّمت وأحسنُها توثيقًا. انطلقت قبل الحملة الصليبيَّة الأولى، ويعتبرها البعض جُزءًا مُتمِّمًا لها، بينما يراها آخرون حملةً مُنفصلةً عنها. سُمِّيت بِحملة الفُقراء أو الحملة الشعبيَّة نظرًا لِأنَّ جميع من شارك فيها كان من عوام الناس، وأكثرهم من الفُقراء والمساكين والفلَّاحين الذين رغبوا بِهجر ديارهم والذهاب إلى الديار المُقدَّسة طمعًا في حياةٍ أفضل، أو لِغسل ذُنُوبهم وآثامهم، أو حُبًّا في تحرير القبر المُقدَّس من المُسلمين. وتُسمَّى بِالشعبيَّة أيضًا تمييزًا لها عن حملات النُبلاء والأُمراء الأكثر تنظيمًا والأفضل تسليحًا وتمويلًا. انتظمت هذه الحملة وتشكَّلت بِقيادة كاهنٍ إفرنجيّ يُدعى «بُطرس الأمياني» واشتهر باسم «بُطرس الناسك» ، وهو من دُعاة البابا أوربان الثاني الداعي إلى المسير نحو الديار المُقدَّسة واستخلاصها من أيدي المُسلمين، فهجر بُطرس الدير وراح يتجوَّل في أنحاء شمال شرقيّ فرنسا ولوثارينجيا داعيًا إلى حملة البابا، واستقطب مظهره الرث، وحماره الأعرج وفصاحته، الفُقراء في كُلِّ مكان. ولم يلتزم هؤلاء بِالموعد الذي حدَّده البابا لِخُرُوج الحملة، أي يوم 15 آب (أغسطس) 1096م المُوافق فيه 22 شعبان 489هـ، فخرجوا قبل ذلك على شكل مجموعاتٍ مُصطحبين معهم نساءهم وأولادهم واليسير من المُؤن والسلاح، كالعصيّ والسكاكين والسُيُوف الخشبيَّة، وتوقعوا حُدُوث المُعجزات والنصر على المُسلمين بِعون الملائكة. وكان أوَّل الخارجين مُساعد بُطرس الناسك، وهو فارسٌ إفرنجيٌّ فقير اشتهر باسم «والتر المُفلس» ، فسار على رأس من اجتمع عليه على طول نهر الطونة (الدانوب) وانحدروا جنوبًا باتجاه القُسطنطينيَّة، وتبعهم بُطرس الناسك وجماعته بعد فترةٍ قصيرة. بِالإضافة إلى الإفرنج، وصلت أصداء دعوة بُطرس الناسك ومن خلفه البابا إلى الإمارات الألمانيَّة، فنهض أحد النُبلاء وهو القُمَّسُ «أميتش الليننجي» وانضمَّ إليه راهبان أحدهُما يُدعى الراهب ڤولكمار والآخر الراهب گوتشالك ، وساروا بِنيَّة الالتحاق بِالصليبيين الفرنجة والزحف إلى بيت المقدس، وأوقعوا بِيهود بلاد الراين مذابح مُروِّعة، على أساس أنَّهم مُرابين استغلاليين وقتلة المسيح وأعدائه، ولم يسلم منهم إلَّا من تنصَّر. ولم تنجح الجحافل الألمانيَّة بِالوُصُول إلى القُسطنطينيَّة بسبب ما افتعله الصليبيُّون من استفزازاتٍ وتخريباتٍ وقتلٍ لِلمدنيين العُزَّل في بلاد المجر، فقام في وجههم الملك المجري كولومان بن گزاي، وفتك بِمُعظمهم، وعاد الباقين إلى بلادهم. أمَّا بُطرس الناسك ووالتر المُفلس فقد وصلا إلى القُسطنطينيَّة، فاستقبلهما الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس الأوَّل كومنين، وسارع إلى نقل جيشيهما عبر مضيق البوسفور إلى آسيا خاصَّةً بعدما أخذ الصليبيُّون يعتدون على القُرى والبلدات الروميَّة. تقابل الصليبيُّون بُعيد عُبُورهم مع المُسلمين بِقيادة الملك السُلجُوقي قلج أرسلان بن سُليمان، فحلَّت بِالإفرنج سيئي الاستعداد وعديمي الخبرة العسكريَّة كارثةٌ كُبرى، فقضى عليهم المُسلمون وأفنوا ثلاثة أرباع الجيش، ووقع بِالأسر قسمٌ من الذين نجوا، في حين تمكَّنت فئة قليلة من الهرب، فكانت تلك نهاية حملة الفُقراء الصليبيَّة، بعد أن دامت بضع شُهُورٍ فقط. الخلفية. يُجمع المُؤرخون على أنَّ لِلحملات الصليبيَّة، وبِالأخص الحملة الصليبيَّة الأولى، جُملة أسبابٍ منها ما يتعلَّق بِالأوضاع الدينيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لِأوروپَّا الغربيَّة، ومنها ما يتعلَّق بِالعلاقات الإسلاميَّة المسيحيَّة في المشرق العربي والأناضول. الأسباب الدينيَّة. كان المشرق العربي، قُبيل انطلاق الحملات الصليبيَّة، مُقسَّمًا بين الدولتين العبَّاسيَّة في بغداد والفاطميَّة في القاهرة، وكان المسيحيُّون في ديار الإسلام آنذاك من أصحاب العلم والنُفُوذ والشأن، بِالأخص في الدولة الفاطميَّة، التي تساهل خُلفائها مع أهل الذمَّة لِدرجةٍ كبيرة، فقدَّموهم في الوظائف ممَّا جعلهم يستأثرون بِالنُفُوذ في الدولة، فاقتنوا الأرزاق والأموال ما مكَّنهم من العيش بِرغد، وبنوا الكثير من الكنائس والأديرة. لكنَّ الحال تبدَّل بدايةً من سنة 393هـ المُوافقة لِسنة 1003م، خِلال خلافة الحاكم بأمر الله، فقسا على اليهود والنصارى في المُعاملة، ويُحتمل أنَّهُ كان مدفوعًا في ذلك من النقمة الشعبيَّة الإسلاميَّة العامَّة، إذ ساء المُسلمون أن يتقرَّب الخليفة إلى غيرهم بِهذا الشكل المُبالغ فيه، وأن يتقلَّص نُفُوذهم وهم الأكثريَّة، لِصالح الأقليَّة، التي عمل بعض أفرادها على إقصاء المُسلمين عن الوظائف الحُكُوميَّة وتقديمهم لِأبناء دينهم. وتشدَّد الحاكم بدايةً مع النصارى الملكانيين بِسبب ازدياد نُفُوذهم في البلاد مُنذُ عهد أبيه العزيز بالله، ورُبَّما كان لِلحُرُوب بين الفاطميين والبيزنطيين الملكانيين دافعٌ آخر لِاضطهاد أتباع هذه الطائفة، كما يبدو أنَّ هذه الخُطوة كانت تستهدف استقطاب الأكثريَّة القبطيَّة في مصر التي كانت على المذهب اليعقوبي، المُخالفة لِلملكانيين. لكنَّ تشدُّد الحاكم لم يلبث أن طال النصارى بِعامَّةً، وبلغ ذُروته سنة 399هـ المُوافقة لِسنة 1009م، عندما أمر بِهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس، وكتب إلى «باروخ العضُدي» والي الرملة أن يُزيل أعلامها ويقلع آثارها، فهُدمت واقتُلعت المعالم المُقدَّسة المسيحيَّة فيها ومُحقت آثارها، كما هُدمت كنائس وأديرة أُخرى في مصر والشَّام خلال السنة المذكورة. وأنزل الحاكم بِاليهود والنصارى المزيد من ضُرُوب الإذلال، فأجبرهم على الالتزام بِأشكالٍ معيَّنة في اللباس والرُمُوز، فكان المسيحيُّون مُرغمون على تعليق صُلبانٍ في أعناقهم زنة الواحد منها خمسة أرطال (نحو كيلوغرامين) عندما يرتادون الحمَّامات، وكذلك اليهود كان عليهم أن يجعلوا في أعناقهم إطارًا من الخشب بِالوزن نفسه يُشدُّ إليه جُلجُلًا عوض الصليب. ولم يكن لِأهل الذمَّة عهدٌ بِمثل هذه الإجراءات والمُضايقات، فعانوا من هذه المحن والشدائد أعوامًا، وأخذ بعضهم يُهاجر سرَّا إلى بلاد الروم، وعندما علم الحاكم بِذلك، أصدر قرارًا في سنة 404هـ المُوافقة لِسنة 1013م، سمح بِموجبه لِلنصارى واليهود بِالهجرة إلى البلاد الروميَّة أو الحبشيَّة أو النوبيَّة، وأن يحملوا معهم أموالهم وأهلهم وما تحويه أيديهم، فهجر الكثير من النصارى الشوام والمصريين أوطانهم والتحقوا بِديار الروم. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ أخبار اضطهاد المسيحيين وصلت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وأجَّجت الرأي العام، وما زاد الأُمُور سوءًا كان التعدِّيات التي طالت الحُجَّاج الأوروپيين بعد ضعف الدولة الفاطميَّة وخُرُوج العديد من بلاد الشَّام من تحت جناحها، ففي سنة 414هـ المُوافقة لِسنة 1024م، خرجت حلب من يد الفاطميين ودخلت في حوزة أعراب بني مرداس، ولم تلبث إمارة هؤلاء أن تمدَّدت بِاتجاه الشَّام الجنوبيَّة، ثُمَّ خرجت هذه البلاد من حوزة المرداسيين وانتهى بها الأمر أن دخلت في حوزة السلاجقة، وخِلال هذه الفترة المُضطربة كثُر التعدِّي على الحُجَّاج الأوروپيين بِشكلٍ خاص بِسبب ما كانوا يحملونه معهم من النفائس والأموال، ولمَّا عاد الحُجَّاجُ إلى أوطانهم ونشروا أخبار الاضطهاد الذي تعرَّضوا له في المشرق، أثاروا حماسة المسيحيين وجعلوهم يُفكرون في تأمين حُريَّة الوُصُول إلى الأماكن المُقدَّسة بِأمان. والحقيقة أنَّ بعض جماعات الحُجَّاج الأوروپيين كانت تأتي بِسلاحها الكامل وتسعى وراء المتاعب والأذى، اعتقادًا منهم بأنَّهم كُلَّما تعرَّضوا لِمزيدٍ من هذا كانت رحلتهم أكثر نجاحًا وتطهَّروا من خطاياهم، إذ كان لِلحج عند الأوروپيين في القُرُونُ الوسطى قيمة اجتماعيَّة، فابتعاد الساعي إلى التوبة لِمُدَّة سنة أو أكثر، وهي الوقت الذي تستغرقه الرحلة عادةً، وما تتكلَّفه رحلته من نفقاتٍ ومشاق، يُعدُّ عقابًا وتأديبًا لهُ، وما يغلب عليه من جوٍّ عاطفيٍّ سوف يهبه الشُعُور بِالقُوَّة والطهارة الروحيَّة، فيعود إلى بلده إنسانًا صالحًا. ويعتقد البعض أنَّ الحملة الصليبيَّة الأولى كانت التطوُّر المنطقي لِلحج المسيحي إلى فلسطين، ذلك أنَّ تيَّار الحج الأوروپي المُستمر كان لا بُدَّ لهُ أن يُؤدي بِالضرورة إلى فكرة أنَّ الأرض التي شهدت حياة المسيح وقصَّته لا بُدَّ أن تكون تحت سيطرة أتباعه، ولم يكن السبب هو الرغبة في حل المُشكلات والصُعُوبات العمليَّة التي كانت تُواجه الحُجَّاج الغربيين، ولكن لِأنَّ أوروپَّا الغربيَّة التي بدأت تشعر بِقُوَّتها، رفضت بقاء أرض المسيح بِأيدي المُسلمين الذين صوَّرتهم الدعاية الكنسيَّة في صورة الكُفَّار المُتوحشين. وتركَّزت فكرة تخليص الديار المُقدَّسة منهم في أذهان أبناء الغرب الأوروپي في أواخر القرن الحادي عشر الميلاديّ، وقد أدَّى هذا بِالضرورة إلى أهميَّة القيام بِحملة حجٍّ مُسلَّحةٍ لِتحقيق هذا الهدف، وهكذا صار الحج من أهم جُذُور فكرة الحملات الصليبيَّة. وكانت البابويَّة ترمي إلى الاستيلاء على الأماكن المُقدَّسة وجعلها تحت سيطرتها المُباشرة، لِذلك أيَّدت الحركة الصليبيَّة بِكُل قواها وعطفت عليها، ومنحت الغُفران عن الخطايا لِمن يتجنَّد في الجُيُوش المُسافرة إلى المشرق على أمل تحقيق هذه الأُمنية الغالية، فأقبل كثيرٌ من الأتقياء على السفر أملًا بِأن تُقبل توبتهم ولِينالوا الغُفران ويدخلوا الجنَّة. الأسباب السياسيَّة. لا تقُل الأسباب السياسيَّة لِلحملات الصليبيَّة أهميَّةً عن الأسباب الدينيَّة، بل يعتبرها البعض مُجرَّد حلقةٍ من الصراع العنيف الطويل بين الشرق والغرب الذي تجلَّى من قبل في حُرُوب الفُرس والإغريق وفي حُرُوب قرطاج وروما وغيرها من الحُرُوب. ففي سنة 13هـ المُوافقة لِسنة 634م، ابتدأ الشرق يُهاجم الغرب، هذه المرَّة بِحُلَّةٍ إسلاميَّة، فتمكَّن المُسلمون من إلحاق الهزيمة بِالروم في عدَّة وقعات وافتتحوا الشَّام ومصر والمغرب الأدنى وانتزعوها نهائيًّا من الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. ولم يكتفِ المُسلمون بِهذه البلاد والمناطق، بل تخطُّوها إلى المغرب الأقصى وبلغوا ساحل المُحيط الأطلسي، واتخذوا من تلك المناطق قاعدةً لِلوُثُوب إلى أوروپَّا، فغزوا جزيرة سردانية سنة 92هـ المُوافقة لِسنة 711م، وفي السنة ذاتها عبر القائد الكبير طارق بن زياد المضيق الفاصل بين شبه الجزيرة الأيبيريَّة والمغرب الأقصى واستطاع افتتاح شبه الجزيرة المذكورة بِحُلُول أواخر سنة 95هـ المُوافقة لِسنة 714م. وبِفتح أيبيريا بدت خسارة الكنيسة واضحةً جليلة، إذ فقدت بلادًا ارتبطت بها أُصُول المسيحيَّة الأولى مثل الشَّام ومصر، فضلًا عن بلادٍ أُخرى كانت بِمثابة أعضاء أساسيَّة في العالم المسيحي مثل إفريقية وأيبيريا. وفي جميع البلاد التي فتحها المُسلمون أقبلت نسبة كبيرة من الأهالي على اعتناق الإسلام عن اختيارٍ وإرادةٍ حُرَّة، كما يقول المُستشرق البريطاني طوماس أرنولد. ولكنَّ المسيحيين في الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وأوروپَّا الغربيَّة، الذين لم يتثاقفوا مع المُسلمين أو يتعايشون معهم، لم يفهموا طبيعة الديانة الجديدة التي خرجت من شبه الجزيرة العربيَّة، وكُل ما أدركوه هو أنَّ المُسلمين خرجوا لِيبتلعوا بلدًا بعد آخر من البُلدان التي كانت المسيحيَّة قد سبقت إليها، وانتشرت فيها، وصارت تعتز بِبقائها في حوزتها، وبِعبارةٍ أُخرى فإنَّ كنيستيّ القُسطنطينيَّة وروما ورجالاتهما لم يروا في الإسلام والمُسلمين إلَّا خطرًا جاثمًا هدَّدهم وهدَّد كيانهم، ولم يستطيعوا حتَّى نهاية العُصُور الوُسطى أن ينسوا الخسارة التي لحقت بهم نتيجة لِانتشار الإسلام، ممَّا جعلهم يشعرون دائمًا بِالرغبة في الانتقام من الإسلام والمُسلمين. وكانت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة أقرب القوى المسيحيَّة إلى حُدُود المُسلمين، وربطتها بِالدولة الإسلاميَّة الناشئة علاقاتٍ مُباشرةٍ وفصلت بينهما حُدُودٌ مُباشرةٌ أيضًا، ممَّا جعل الاحتكاك لا ينقطع بين القُوَّتين. وقد ظهر المُسلمون على البيزنطيين خلال فترة ضعف هؤلاء، وظهر البيزنطيُّون على المُسلمين خلال فترة تشرذمهم وتفرُّق كلمتهم. واستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن تُوفي الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني سنة 416هـ المُوافقة لِسنة 1025م، فشكَّلت وفاته انعطافة سلبيَّة في تاريخ الروم، دخلت خلالها الإمبراطوريَّة في مرحلة اضطرابٍ سياسيٍّ ودينيٍّ واقتصاديٍّ استمرَّت حتَّى سنة 474هـ المُوافقة لِسنة 1081م. فخلال هذه الفترة، تعاقب على العرش البيزنطي أباطرة ضعاف افتقدوا المقدرة والكفاءة التي تمتَّع بها أباطرة الأُسرة الهرقليَّة أو الأُسرة الإيساوريَّة أو بعض أعضاء الأُسرة المقدونيَّة مثل باسيل الأوَّل وباسيل الثاني. وشهدت هذه الفترة أيضًا وُقُوع الانشقاق العظيم بين كنيستيّ روما والقُسطنطينيَّة نتيجة الخلافات اللاهوتيَّة والسياسيَّة بين الغرب والشرق المسيحيين، كما تراجع الاقتصاد البيزنطي، وأخذت الإمبراطوريَّة تفقد السيطرة على أطرافها. وفي سنة 463هـ المُوافقة لِسنة 1071م، التحم المُسلمون بِقيادة السُلطان السُلجُوقي ألب أرسلان مع الروم بِقيادة الإمبراطور رومانوس الرابع، في معركةٍ طاحنةٍ على تُخُوم مدينة ملاذكرد، وقد أسفرت المعركة عن هزيمة الروم ووُقُوع الإمبراطور في أسر المُسلمين، فأطلق السُلطان سراحه لقاء فديةٍ كبيرة وشريطة أن يُطلق سراح أسراه من المُسلمين، ويمد السُلطان بِالعساكر اللازمة عند الطلب. شكَّلت معركة ملاذكرد أقصى ما بذله الروم من جُهدٍ لِوقف الفُتُوحات الإسلاميَّة بِاتجاه الغرب، وأنهت دور الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة في حماية المسيحيَّة من ضغط المُسلمين وفي حراسة الباب الشرقي لِأوروپَّا من غزو الآسيويين، فانساب السلاجقة إلى جوف آسيا الصُغرى وفتحوا أغلب بلادها بِقيادة سُليمان بن قُتلُمش الذي أسَّس دولةً جديدةً عُرفت باسم دولة سلاجقة الروم، واتخذ مدينة نيقية عاصمةً له. اتخذت البابويَّة، ومن ورائها أوروپَّا الغربيَّة، من نتيجة هذه المعركة مُبررًا لِتدخُّلها العسكري في المشرق، لِأنَّ بيزنطة لم يعد بِوسعها حماية العالم المسيحي من المُسلمين نظرًا لِتدمير قُوَّتها العسكريَّة، ومن ثُمَّ فقد جرت العادة على اعتبار هذه الوقعة إحدى حُجج الغرب لِشن حربه المُقدَّسة على ديار الإسلام. الأسباب الاقتصاديَّة. تشيرُ جميع الوثائق المُعاصرة لِحملتيّ الفُقراء والصليبيَّة الأولى إلى سُوء الأحوال الاقتصاديَّة في غرب أوروپَّا - وبِخاصَّةٍ فرنسا - في أواخر القرن الحادي عشر الميلاديّ. فالمُؤرِّخ المُعاصر «گويبيرت النوگينتي» يُؤكِّد أنَّ فرنسا بِالذات كانت تُعاني مجاعةً شاملةً قُبيل الدعوة لِلحملة الصليبيَّة الأولى، فندر وُجُود الغِلال وارتفعت أثمانها ارتفاعًا فاحشًا، ممَّا ترتب عليه حُدُوث أزمة في الخُبز، فاضطرَّ الناس إلى أكل الأعشاب والحشائش. ويعتبر المُؤرِّخ المصري المُعاصر سعيد عبد الفتَّاح عاشور أنَّ هذا يُفسِّر لِمَ كانت نسبة الصليبيين الفرنجة المُشتركين في الحملة الصليبيَّة الأولى أكبر من الوافدين من أي دولةٍ أُخرى في غرب أوروپَّا. وزاد من سوء الأحوال الاقتصاديَّة في الغرب الأوروپي في ذلك الوقت كثرة الحُرُوب المحليَّة بين الأُمراء الإقطاعيين، وهي الحُرُوب التي لم تنجح الكنيسة أو المُلُوك في وقفها، ممَّا أضرَّ بِالتجارة وطُرُقُها والزراعة وحُقُولها أبلغ الضرر. وهكذا جاءت الحملات الصليبيَّة لِتفتح أمام الجوعى في غرب أوروپَّا بابًا جديدًا لِلهجرة، وطريقًا لِلخلاص من الأوضاع الاقتصاديَّة الصعبة التي عاشوا فيها داخل أوطانهم. فضمَّت حملتا الفُقراء والصليبيَّة الأولى جُمُوعًا غفيرةً من المُعدمين والفُقراء والمساكين وطريدي القانون، وجميعهم كانوا يُفكرون في بُطُونهم قبل أن يُفكروا في دينهم، بِدليل ما أتوه طوال طريقهم إلى القُسطنطينيَّة من أعمال العُدوان والسلب والنهب ضدَّ إخوانهم من النصارى الذين مرُّوا بِأراضيهم، دون أي وازعٍ دينيّ. ويُلاحظ أنَّ الدُويلات البحريَّة الإيطاليَّة القائمة على التجارة، كجُمهُوريَّات البُندُقيَّة وجنوة وپيزة، رأت في الدعوة الصليبيَّة فُرصةً طيِّبةٍ يجب اقتناصها لِتحقيق أكبر قدرٍ مُمكنٍ من المكاسب الذاتيَّة على حساب البابويَّة والكنيسة والصليبيين جميعًا، فأخذت تعرض خدماتها لِنقل الجُند عن طريق البحر إلى المشرق العربي، وفيما بعد لِنقل المُؤن والأسلحة وكافَّة الإمدادات إلى الصليبيين في الشَّام وتقديم المعونة البحريَّة لِلدفاع عن الموانئ الشاميَّة المُحتلَّة ضدَّ هجمات الأساطيل الإسلاميَّة. وهكذا اصطبغت الحركة الصليبيَّة من أوِّل أمرها بِصبغةٍ اقتصاديَّةٍ بعضها كان استغلاليَ واضح، فالكثير من الجماعات والأفراد الذين أيَّدوا تلك الحركة وشاركوا فيها لم يفعلوا ذلك لِخدمة المسيحيَّة وحرب المُسلمين، وإنما جريًا وراء المال وجمع الثروات وإقامة مُستعمراتٍ ومراكز ثابتة لهم في قلب ديار الإسلام بِغية استغلال مواردها والمُتاجرة فيها. الأسباب الاجتماعيَّة. تألَّف المُجتمع الأوروپي في العُصُور الوُسطى من ثلاث طبقات: طبقة رجال الدين، وطبقة المُحاربين من النُبلاء والفُرسان، وطبقة الفلَّاحين من الأقنان ورقيق الأرض. وكانت الطبقتان الأوَّلتان تُمثلان الهيئة الحاكمة من وجهة النظر السياسيَّة، والأرستقراطيَّة السائدة من وجهة النظر الاجتماعيَّة، والفئة الثريَّة من وجهة النظر الاقتصاديَّة؛ في حين كانت طبقة الفلَّاحين تُمثِّل جُمُوع الكادحين المغلوبين على أمرهم، المحرومين من النُفُوذ والثروة، والتي كان على أفرادها أن يعملوا ويشقوا لِيسُدُّوا حاجة الطبقتين الأوَّلتين. والواقع أنَّ آلاف الفلَّاحين عاشوا في غرب أوروپَّا عيشةً مُنحطَّة في ظل نظام الضِيَاع، حيثُ شيَّدوا لِأنفُسهم أكواخ قذرة من جُذُوع الأشجار وفُرُوعها، غُطيت سُقُوفها وأرضيتها بِالطين والقش دون أن يكون لها نوافذ أو بداخلها أثاثٌ عدا صُندُوقٍ صغيرٍ من الخشب وبعض الأدوات الفخَّاريَّة والمعدنيَّة البسيطة. وكان مُعظم أولئك الفلَّاحين من العبيد والأقنان الذين ارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بِالأرض التي يعملون عليها، وقضوا حياتهم محرومين من أبسط مبادئ الحُريَّة الشخصيَّة، فكُلُّ ما يجمعه القن يُعتبر مُلكًا خاصًّا لِلسيِّد الإقطاعي لِأنَّ القن محرومٌ حتَّى من المُلكيَّة الشخصيَّة. وعاش أولئك الفلَّاحين مُثقلين بِمجموعةٍ ضخمةٍ من الالتزامات والخدمات، فكان عليهم أن يُقدِّموا خدماتٍ مُعيَّنةٍ لِلسيِّد الإقطاعي مثل فِلاحة أرضه الخاصَّة، فضلًا عن تسخيرهم في أعمالٍ شاقَّةٍ مثل شق الطُرُق وحفر الخنادق وإصلاح الجُسُور. كذلك كان على الفلَّاحين دفع مُقرَّرات مُعيَّنة مثل ضريبة الرأس التي يتعيَّن على كُلِّ قنٍ دفعها سنويًّا رمزًا لِعُبُوديَّته، هذا عدا عن الضرائب المفروضة على ماشيته وما تُنتجه أرضه من خُضروات. أضف إلى ذلك، أُلزم الفلَّاحون بِقُبُول احتكاراتٍ عديدةٍ أُخرى، فالسيِّد الإقطاعي صاحب الضيعة كان وحده يمتلك طاحونةً وفُرنًا ومعصرةً، بل أحيانًا البئر الوحيدة في الضيعة، وفي هذه الحالة يُصبح كُلُّ قنٍ مُلزمًا بِإحضار غلَّته إلى طاحونة السيِّد لِطحنها، ويحمل خُبزه إلى فُرن السيِّد لِخبزه، وكُرُومه وزيتونه وتُفَّاحه إلى معصرة السيِّد لِعصرها، كُلُّ ذلك لقاء أُجُورٍ مُعيَّنةٍ يُقدِّمها الأقنان لِسيِّدهم الإقطاعي وهُم صاغرون. فإذا امتلك فلَّاحٌ طاحونةً أو غير ذلك من الأجهزة التي من حق السيِّد الإقطاعي وحده أن يحتكرها، صار ذلك جُرمًا خطيرًا يُحاكمُ عليه. وهكذا كانت الغالبيَّة العُظمى من الناس في أوروپَّا الغربيَّة يحيون حياةً شاقَّةً مليئةً بِالذُل والهوان عشيَّة الدعوة إلى الحملة الصليبيَّة الأولى، وممَّا زاد الطين بلَّة كان الظُرُوف الطبيعيَّة التي داهمت الفلَّاحين سنة 1095م، فهطلت كميَّات هائلة من الأمطار جرفت المزارع وأتلفت الأرزاق وخرَّبت بُيُوت الفُقراء والمساكين، وكوَّنت مُستنقعاتٍ آسنةٍ عملت على نشر الملاريا والطاعون في أوروپَّا، فمات مئات الآلاف من الناس جوعًا ومرضًا، ومن تبقَّى على قيد الحياة من الأقنان والفلَّاحين عاش جائعًا عاريًا، فلم يكن غريبًا والحالة هذه أن تجد دعوى الحرب لدى هؤلاء التُعساء كُلَّ حماسٍ وتأييد، لِيتخلَّصوا ممَّا كانوا يقبعون فيه من ذُل العيش ونكد الدُنيا، لا سيَّما بعد أن قيل لهم أنَّ في الديار المُقدَّسة نهرين من لبنٍ وعسل، وما على أحدهم إلَّا أن يجلس بين النهرين ويغرف بيمينه لبنًا وبِيساره عسلًا، والشرط الوحيد لِامتلاك ذينيك النهرين قتل المُسلمين وتخليص بيت المقدس منهم، فيكون بِذلك قد ضمن الدُنيا بِلبنها وعسلها والآخرة بِجنَّاتها الوارفة. مجمعا بلاصانس وكليرمونت. يرجع الفضل في ابتكار وتنفيذ فكرة إرسال حملةٍ صليبيَّةٍ إلى المشرق لِلبابا أوربان الثاني. ففي ضوء ما سمعهُ هذا البابا عن وُقُوع الأذى والضرر لِلحُجَّاج المسيحيين المُتوجهين إلى الديار المُقدَّسة، بدأ يُفكِّرُ في مشروعٍ لِطرد المُسلمين من آسيا الصُغرى، بِنفس الجُهُد والعزيمة التي كان يجري بها طردهم من الأندلُس. كما أنَّ البابويَّة كانت قد بلغت حينذاك درجةً كبيرةً من سعة النُفُوذ والسُلطان ممَّا جعلها تُفكِّر في انتهاز فُرصة ضعف الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وعدم قُدرتها على صد الخطر الإسلامي، لِتبسط سيطرتها على الكنيسة الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة. والواقع أنَّ البابا أوربان كان أصلح شخصيَّة مُعاصرة لِتنفيذ المشروع الصليبي؛ إذ كانت لديه الجُرأة على الدعوة لِهذه الحرب المُكتسية بِغطاءٍ دينيٍّ ورعايتها، فضلًا عمَّا عُرف به من بُعد النظر ومقدرة في اختيار الرجال وتوجيههم والتأثير عليهم. ثُمَّ إنَّ البابا أوربان الثاني لم يقل مُرونةً عن الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس الأوَّل كومنين، فلم يكد ذلك البابا يتولَّى منصبه حتَّى فتح باب المُفاوضات مع الإمبراطور البيزنطي لِتسوية المُشكلات المُعلَّقة بين الطرفين، كما رفع الحرمان الكنسي الذي كان مُوَقَّعًا على ذلك الإمبراطور، الأمر الذي أدَّى إلى نوعٍ من التقارب بين الكنيستين الشرقيَّة والغربيَّة وإلى منح الكنائس الكاثوليكيَّة في البلاد الأرثوذكسيَّة قسطًا من الحُريَّة في تصريف شُؤونها. وفي سنة 1090م أرسل الإمبراطور الرومي سفارةً إلى البابا أوربان الثاني تحملُ لهُ إخلاص الإمبراطور ومحبَّته. على أنَّ تبادُل السفارات والمُجاملات لم يكفِ لِتخليص آسيا الصُغرى من خطر السلاجقة، لِذلك أراد الإمبراطور البيزنطي استغلال تلك العلاقات الطيِّبة مع البابويَّة لِلحُصُول على مُساعدةٍ عمليَّةٍ من الغرب ضدَّ المُسلمين، فانتهز فُرصة عقد مجمعٍ كنسيٍّ بِرآسة البابا في مدينة بلاصانس - بِشمال إيطاليا - في شهر آذار (مارس) سنة 1095م، وأرسل بعثةً من القُسطنطينيَّة لِحُضُور المجمع وطلب مُساعدة البابا. ولمَّا حضر الوفد البيزنطي، لفت أعضاؤه الأنظار بِسبب ملابسهم الشرقيَّة الفاخرة غير المألوفة عند الغربيين، ثُمَّ رفعوا أصواتهم وأوصلوا رسالة إمبراطورهم المُلتمسة المعونة من مُلُوك أوروپَّا بِأن يُوجِّهوا قُوَّة أسلحتهم لِمُعاضدة القُسطنطينيَّة ولِإنقاذ بيت المقدس. وشرع البابا بِتحريض الجميع بِاتحاد قُواهم واتفاق عزائمهم نحو هذه القضيَّة المُقدَّسة، فقبلوا جميعًا الأوامر واعدين بِأنَّهم بعد أيَّامٍ قليلةٍ يجتمعون تحت بيارق الصليب لِذهابهم إلى بلاد فلسطين لِقتال المُسلمين. ثُمَّ لم تمضِ أيَّامٌ قليلة على هذا المجمع حتَّى سكنت ثائرة من حضره من الحُكَّام، بعد أن اعتراهم الخوف من ترك بلادهم وأوطانهم والذهاب إلى بلادٍ وأقاليم مجهولة عندهم وترك أملاكهم تقع لُقمة سائغة في يد أعدائهم. وهكذا لم تحصل ثمرة من المجمع ولم تتقرَّر فيه كيفيَّة مُحاربة المُسلمين. على أنَّ البابا أوربان الثاني كان قد آمن بِضرورة مُعاونة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة ضدَّ المُسلمين فضلًا عمَّا وجده في هذه الفكرة من توجيه جُهُود الأُمراء والفُرسان وجهةً صالحةً تُخفِّف من الحُرُوب والمُنازعات المحليَّة الدائرة بينهم في غرب أوروپَّا. لكنَّ البابا اختار أن يُحيط مشروعه الجديد بِالسريَّة التامَّة، وأخذ يُقلِّب الفكرة في ذهنه حتَّى قرَّر على ما يبدو إعلانها في المجمع الكنسي التالي في مدينة كليرمونت بِدوقيَّة أقطانية. وعندما انعقد هذا المجمع في 18 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1095م، انقضت الأيَّام التسعة الأولى منه في مُناقشة المسائل الكَنَسيَّة المُختلفة، حتَّى إذا ما تمَّ ذلك وجَّه البابا دعوته في اليوم العاشر إلى المسيحيين جميعًا لِلاتحاد لِاستخلاص الديار المُقدَّسة من المُسلمين. وعرض البابا على المُجتمعين - في أُسلوبٍ بلاغيٍّ جذَّاب - مدى ما تُعانيه الديار المُقدَّسة وحُجَّاجها من متاعب بِسبب سيطرة المُسلمين عليها، الأمر الذي صار يتطلَّب من المسيحيين الغربيين الإسراع لِنجدة إخوانهم في الشرق. ووجَّه أوربان دعوته هذه لِلقادرين والفُقراء على حدٍّ سواء، لِيترُك الجميع مُشاحناتهم في أوروپَّا الغربيَّة ويُوجهون جُهُودهم ضدَّ المُسلمين في الشرق، حيثُ يرعاهم الله ويُبارك جُهُودهم ويغفر ذُنُوبهم؛ ثُمَّ نادى البابا بِالإسراع في تقديم النجدة بِحيثُ يكون جميع المُتطوِّعين على أهبة الاستعداد إلى الرحيل شرقًا مع بداية فصل الصيف. ومن بعض ما ورد في عظة أوربان الثاني بحسب المُؤرِّخ وليم الصوري: «...وإنَّ مهد أيماننا، ومهبط رأس مولانا ومنبع الخلاص قد تملَّكها الآن عنوةً شعبٌ غير مُتألِّه، هو ابن الجارية المصريَّة الذي يفرض على أبناء المرأة الحُرَّة ظُرُوفًا بالغة السوء حتَّى قالت: . لقد ظلَّ جنس السراسنة البغيض عبر سنواتٍ طوالٍ مضت يبسط سُلطانه على الأراضي الطاهرة التي مشى عليها السيِّدُ بِقدميه، ثُمَّ خضع المُؤمنون لِلقهر، وراحوا يتخبَّطون في قيد الأسر، فدخلت الكلاب الأماكن الطاهرة ودُنِّس الهيكل وضُربت المذلَّة على عباد الرب، واليوم ها هو ذا الشعب المُختار يحتملُ الأحوال التي لا يستحقها، وهاهم رجالُ الدين مُسترقُّون، والكرامةُ ساقطةٌ في الوحل والطين، وأصبحت مدينة الرب - التي هي فوق كُلِّ مدينة - محكومةً لا حاكمةً، فمن ذا الذي لا تنفطرُ نفسهُ كمدًا؟ ولا يذوبُ قلبهُ حسرةً حيثُ تخطرُ بباله هذه الإهانات!! أيُّها الإخوةُ الأعزَّاء: من ذا الذي يستطيعُ سماع هذا كُلُّه ولا تبكي مُقلتاه؟ لقد غضب يسوعٌ فطرد من هيكل الرب جميع من اتخذوه مكانًا لِلبيع والشراء، حتَّى لا يصير بيت أبيه - وهو بيتُ الصلاة - مغارةً لِلُّصوص ومأوىً لِلشياطين...» ويُروى أيضًا أنَّ البابا وجَّه خطابه إلى أهل فرنسا قائلًا: . وأخذ يُحُثُّهم مُذكِّرًا إيَّاهم بِشاعجتهم القديمة. وقيل أنَّ البابا خصَّ الفرنجة بِكلامه لانقسام أهالي الإمارات الألمانيَّة وقيام فريق منهم ضدَّ الكُرسي الرسولي، ولِانشغال أهالي البلاد الشماليَّة في صد غزوات البرابرة، ولِضعف مملكة إنگلترا حينذاك، فلم يجد الحبر الأعظم أمامه غير بلاد فرنسا لِتُلقي بِثقلها العسكري نحو المشرق. وما أن أتمَّ البابا كلامه حتَّى نهض الفُرسان الحاضرين ووضعوا أيديهم على سُيُوفهم وأقسموا بِأن يُبادروا إلى إنقاذ المسيحيَّة والديار المُقدَّسة وتخليصها من أيدي المُسلمين، كما يُروى أنَّ جُمُوع الحاضرين أخذت تصيحُ «هذه مشيئة الله» ، فكانت هذه الصيحة إيذانًا ببداية صفحةٍ جديدةٍ في التاريخين الأوروپي والإسلامي قُدِّر لها أن تستمر عدَّة قُرُون. دعوة الناس إلى الحرب. لم يكد البابا أوربان يفرغ من خطبته التي دعا فيها لِحرب المُسلمين، حتَّى جثا أدهمار أُسقف لوپوي أمام قدميه راجيًا أن يكون لهُ شرف المُساهمة في الحرب المُقدَّسة الآتية، وبِذلك صار هذا الأُسقف أوَّل من افتتح قائمة المُتطوعين، واختاره أوربان الثاني مندوبًا بابويًّا في الحملة الأولى، ثُمَّ دعاه في وقتٍ لاحقٍ قائد الحملة بِأكملها. ويُقال أيضًا أنَّ تلك الحركة كانت مُجرَّد تمثيليَّةٍ اتفق عليها البابا والأُسقُف قبل انعقاد المجمع. وبجميع الأحوال، يتفق الباحثون على أنَّ حرص البابويَّة على تعيين مندوبٍ عنها يُرافق الصليبيين في رحلتهم إلى ديار الإسلام، معناه أنَّها كانت حريصةً على إشرافها وسيطرتها على الحركة الصليبيَّة وعلى الأراضي التي سيُسيطر عليها الصليبيُّون بعد ذلك. وجديرٌ بِالمُلاحظة أنَّ أحدًا من كبار الأُمراء العلمانيين لم يكن حاضرًا مجمع كليرمونت لِيُبدي استعداده لِلمُشاركة في تلك الحرب المُنتظرة ضدَّ المُسلمين في المشرق. وقد أحسَّ البابا أوربان من أوَّل الأمر بِأنَّ مشروعه الصليبي في حاجةٍ إلى تأييدٍ من القوى العلمانيَّة، فجمع الأساقفة وأصدر المجمع قرارًا بِأنَّ كُل من يشترك في الحرب المُقدَّسة تُغفر لهُ ذُنُوبه، فضلًا عن أنَّ مُمتلكات الصليبيين ستوضع تحت رعاية الكنيسة وحمايتها طوال مُدَّة غيابهم. كذلك، استقرَّ الرأي على أن يحيك كُل مُحارب صليبًا من القماش الأحمر على ردائه الخارجي من ناحية الكتف رمزًا لِلحركة التي اشترك فيها والفكرة التي خرج لِيُحارب من أجلها. ثُمَّ إنَّ كُل من يضع هذا الصليب بُغية المُشاركة في الحرب المُقدَّسة عليه أن يتجه فورًا إلى المشرق، فإذا تردَّد وعاد دون أن يُؤدي واجبه أو أظهر تقاعُسًا عن تأدية ذلك الواجب، عُوقب بِالحرمان الكنسيّ. وطلب البابا من الأساقفة دعوة الناس إلى الحرب الصليبيَّة، وأخذ هو بِنفسه يتنقَّل بين المُدن والبُلدان الإفرنجيَّة داعيًا لِلحرب، فعقد مجمعًا في ليمُوجش، وكرَّر الدعوة نفسها في أنجيرش ولومان وطُرش وبيتارش وبرديل وطولوشة وغيرها. وكان أوَّل من استجاب لِلدعوة الصليبيَّة من كبار الأُمراء الأوروپيين هو ريموند الرابع قُمَّس طولوشة وصنجيل ، الذي سبق وحارب المُسلمين في الأندلُس وحجَّ إلى بيت المقدس، فعيَّنه البابا قائدًا عسكريًّا لِلحملة، على أن تبقى الزعامة الروحيَّة لِلمندوب البابوي أدهمار. ولم يلبث أن أقبل على البابا عدَّة أُمراء وكثيرٌ من الناس الراغبين بِالمُشاركة في الحركة الجديدة، وكان من جُملتهم: وليم أُسقف أورنج، وهيوج قُمَّس فرماندوة شقيق فيليپ الأوَّل ملك الفرنجة، وروبرت الثاني قُمَّس الفلمنك، وروبرت قُمَّس النورماندي ابن وليم الفاتح ملك الإنگليز، وأسطفان قُمَّس بلوة، وبلدوين البولوني، وغيرهم. ونبَّه ريموند الرابع البابا إلى ضرورة الاعتماد على مُساندة قُوَّة بحريَّة لِتنفيذ مشروع الحرب الصليبيَّة، فأرسل أوربان الثاني مبعوثين إلى جنوة طالبًل مُشاركتها في المشروع الصليبي الكبير. ولم يلبث الجنويُّون أن استجابوا لِدعوة البابا، فأعدُّوا اثنتيّ عشرة سفينة حربيَّة كبيرة لِمُساندة الحملة، فضلًا عن ناقلةٍ كبيرة. وبِذلك حقَّقت جنوة لِنفسها سبقًا كبيرًا مكَّنها من اكتساب حُقُوقٍ في الشَّام، وهي حُقُوقٌ لم يستطع الپيازنة (أهل پيزة) أو البنادقة الظفر بها إلَّا بعد جُهدٍ طويل. وإلى جانب الأُمراء والنُبلاء، أثارت دعوة البابا حركةً شعبيَّةً ضخمةً ارتبطت في التاريخ باسم بُطرس الناسك. فقد ظهرت طائفةٌ جديدةٌ من الدُعاة، إلى جانب الأساقفة، قاموا بِجُهدٍ كبيرٍ واسع النطاق في الدعاية لِمشروع الحرب المُقدَّسة، وكان على رأس هؤلاء كاهنٌ طاعنٌ في السن من مدينة أميان يُدعى بُطرس، واشتهر في التاريخ باسم «بُطرس الناسك» ، يُقال أنَّهُ حاول أن يحُجَّ إلى بيت المقدس ولكنَّهُ تعرَّض في الطريق لِضغط السلاجقة، فعاد إلى بلده دون أن يُحقق أُمنيته، ممَّا ترك أثرًا في نفسه، على أنَّ العديد من الباحثين المُعاصرين يُشكِّكون بِصحَّة هذه الرواية. عمومًا، يبدو أنَّ حماسة بُطرس الناسك وفصاحته وهيئته الغريبة - بِثيابه المُهلهلة وقدميه الحافيتين وحماره الأعرج - جعلت منهُ شخصيَّة ذات تأثيرٍ خطيرٍ على جماهير العامَّة والدُهماء في أوروپَّا الغربيَّة، بِحيثُ أنَّهم كانوا لا يكادون يستمعون لِحديثه حتَّى تغلب عليهم الحماسة، فيجتمعون في سُرعةٍ غريبةٍ ويُشرعون في الزحف شرقًا، دون إعطاء البابا فُرصةً لِتنظيم الحركة الصليبيَّة تنظيمًا جديًّا من الناحيتين السياسيَّة والعسكريَّة، وفي ذلك يقول وليم الصوري: ومضى بُطرس الناسك في دعوته بِقُوَّة، فطاف بِمُختلف أقاليم فرنسا مثل أُرليانش وشامبانية ولوثارينجيا، وخرج من هذه الأقاليم بِعددٍ ضخمٍ من الأتباع - حوالي خمسة عشر ألفًا - اصطحب بعضهم نساءهم وأطفالهم، تدفعهم إلى ذلك النكبات الطبيعيَّة والاقتصاديَّة التي ابتُلي بها الغرب الأوروپي آنذاك. إذ فهم عوام الناس دعوة البابا على أنها فُرصة لِمُستقبلٍ جديدٍ وحياةٍ أفضل في الشرق المُقدَّس، ورُبَّما حلم بعض الفُقراء بِامتلاك الضياع في فلسطين إن قُدَّر لهم النجاة والوُصُول إلى الديار المُقدَّسة، وإن مات أحدهم في الطريق فمن المُؤكَّد أنَّهُ سينال مُكافأةً في الجنَّة حسبما وعد البابا. وأعلن الأخير موعد انطلاق الصليبيين يوم 15 آب (أغسطس) 1096م المُوافق فيه 22 شعبان 489هـ حين تكون المحاصيل الزراعيَّة قد جُمعت من الحُقُول، وحدَّد مكان اللقاء في مدينة القُسطنطينيَّة. لكنَّ الفلَّاحين والعامَّة لم يصبروا حتَّى يرحلوا في الموعد المُحدَّد، فخرجوا على شكل مجموعاتٍ حاملين ما توفَّر لهم من المُؤن، وكانوا غالبًا من دون سلاحٍ سوى العصيّ والسكاكين والسُيُوف الخشبيَّة، ويتوقعون حُدُوث المُعجزات والنصر على الكُفَّار بِعون الملائكة. والواقع أنَّ قلَّة الزاد هذه ساهمت في جعل الصليبيين العوام هؤلاء يتصرَّفون بِتهوُّرٍ في المجر والبلقان في وقتٍ لاحقٍ، في حين استفاد صليبيُّو حملة الفُرسان والنُبلاء المُنظَّمة اللاحقة من محصول الصيف الوفير، فقد توفَّر لهم كميَّات كبيرة من الحنطة لِتغطية حاجاتهم في المراحل الأولى من مسيرتهم. كما أنَّ العوام تحرَّكوا من أوروپَّا الغربيَّة قبل أن تقوم الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بِتمهيد الطريق لهم، علمًا بِأنَّ بيزنطة لم تكن تتوقَّع قُدُوم القُوَّات الغربيَّة في مثل هذا الوقت المُبكر من السنة وبِتلك الأعداد الضخمة. خُرُوج جماعة والتر المُفلس. كان أوَّل المُنطلقين في الحملة الصليبيَّة هو فارسٌ إفرنجيٌّ فقير يُدعى والتر ولقبه «المُفلس» ، وقد خرج من مدينة قُلُونية في 9 ربيع الأوَّل 489هـ المُوافق فيه 8 آذار (مارس) 1096م، على رأس ألفٍ من رعاياه، أمَّا الفُرسان النظاميين الذين كانوا معه فلم يزيدوا عن شرذمةٍ ضئيلةٍ، فعبر بهم بلاد القبائل التيوتونيَّة ثُمَّ دخل أراضي مملكة المجر، التي كانت حينذاك تحت حُكم الملك كولومان بن گزاي، وما أن علم الأخير باقتراب والتر وأصحابه حتَّى رحَّب بِدُخُوله مملكته، وسمح لهُ أن يسير فيها بِحملته، كما أذن لهُ بِعقد سوقٍ عامَّة، إذ كان يعرفُ خبر رحلته ويستصوب هدفه. فسار والتر وجماعته في بلاد المجر آمنين حتَّى بلغوا نهر موريش، وهو الحد الفاصل بين المجر الكاثوليكيَّة والبلقان الأرثوذكسيَّة، ثُمَّ عبر النهر ووصل بِقُوَّاته إلى أرض البلغار وتابع السير حتَّى أصبح على تُخُوم مدينة بلغراد. وكانت طائفةٌ من جماعة والتر قد تخلَّفت وراءه على الجانب الآخر من النهر في بلدةٍ تُعرف باسم «سملين» عند الألمان و«زيمون» عند الصقالبة لِشراء الطعام وبعض المُستلزمات الأُخرى، فأمسك المجريُّون بِهؤلاء الرجال وجرَّدوهم من ملابسهم وضربوهم، ثُمَّ أرسلوهم بعد ذلك إلى أصحابهم خاوي الوفاض، ولم يسعَ والتر وجماعته إلى الأخذ بِالثأر كي لا يؤدي ذلك إلى تأخير مسيرتهم، بل مضوا في طريقهم حتَّى جاءوا إلى بلغراد حيثُ طلب والتر من دوق المدينة «نيكيناس» أن يأذن لهم بِعقد سوقٍ يتبايعون فيه، ولكنَّهُ رفض رجاءه، فلم يجد إذ ذاك بُدًّا من أن يضرب مُعسكره أمام المدينة. حاول الصليبيُّون الجياع المُتعبون، أن يحصلوا على بعض الطعام من أهل البلاد الصقالبة، لكنَّ دوق بلغراد حال دون هذا، فكان من نتيجة ذلك أن انطلق الإفرنج يبحثون عن أيٍّ شيءٍ يسُدُّون به رمقهم، ولم يتحرَّجوا عن أي وسيلةٍ لِالتماسه، فهاجموا بعض الرُعاة المحليين واستولوا على قُطعانهم من الأبقار والأغنام وساقوها إلى المُعسكر، ولم يتمكَّن والتر من كبح جماح جيشه الجائع، وما كان لهُ سوى أن يُشاهد الكارثة تنزل برجاله، إذ سُرعان ما ثارت ثائرة الصقالبة على الإفرنج ما أن علموا بما جرى لإخوانهم الرُعاة من نهبٍ، فهبُّوا إلى أسلحتهم وكرُّوا على الصليبيين كرَّةً ضاريةً، وفتكوا بِجماعةٍ منهم، فيما لاذ الآخرون بِالفرار ولجأوا إلى كنيسةٍ صادفوها أثناء فرارهم، فلاحقهم الصقالبة وأضرموا فيها النار، فمات حرقًا من اعتصموا بها إلَّا قلَّة لاذت بِالفرار مُجددًا. أمام هذا الأمر، أدرك والتر أنَّهُ يقود جيشًا عنيدًا لا يعرف النظام ويكترث بما يفعل، فانفصل عن الفئة التي أعجزته عن كبح جماحها وتركهم لِمصيرهم تحت رحمة الصقالبة أو لِيهلكوا أثناء رجوعهم إلى أوطانهم، وسلك بِبقيَّة عسكره مسلكًا حريصًا، فاجتاز بهم الغابات البُلغاريَّة الكثيفة، حتَّى انتهى السير أخيرًا إلى مدينة أترالسة، فصرَّح لِدوقها بِما لحقه من الخسارة وطلب منه أن يُعوِّضه عن ذلك كُلِّه لِأنَّهُ يقود «شعب الله» لِتحرير القبر المُقدَّس، فعطف عليه الدوق وعامله ومن معهُ مُعاملةً كريمةً، وصرَّح لهم بِإقامة سوقٍ يستطيع الجيش أن يشتري منه ما يحتاجه بِثمنٍ معقول، وأعلمهم أنَّهُ لن يحجب عنهم ما يحتاجونه في حملتهم، كما أمدَّهم بِمُرشدين يدلُّونهم على بقيَّة الطريق حتَّى يبلغوا القُسطنطينيَّة. ولمَّا وصل والتر العاصمة البيزنطيَّة، جيء به إلى الإمبراطور ألكسيوس كومنين ونجح في الحُصُول منه على إذنٍ يسمح لهُ بِإنزال جيشه قُرب البلد وبِعقد سوقٍ لِلتجارة، على أن يكون ذلك إلى حين، حتَّى يصل بُطرس الناسك ومن معه. خُرُوج جماعة بُطرس الناسك. ما كادت تنقضي فترة وجيزة بعد الأحداث التي مرَّت بها جماعة والتر المُفلس، حتَّى انطلق بُطرس الناسك بمن معه من قُلُونية يوم 24 ربيع الآخر 489هـ المُوافق فيه 20 نيسان (أبريل) 1096م، وزحف عبر لوثارينجيا وفرنكونيا وباڤاريا والنمسا، وانضمَّ إليه عددٌ كبيرٌ من الألمان بحيثُ صار معهُ جيشٌ مُتنوِّع الأُمم والقبائل والألسُن، وقدَّر وليم الصوري عدده بِحوالي أربعين ألفًا. وكان من أبرز النُبلاء والأعلام الألمان الذين انضمُّوا إلى بُطرس الناسك: القُمَّسُ «أميتش الليننجي» وراهبان أحدهُما يُدعى ڤولكمار والآخر گوتشالك ، بِالإضافة إلى دروگوه قُمَّس نيسل ، وهارتمان قُمَّس ديلينگن وكيبورغ ، وطوماس المارلوي ، ووليم المولني المشهور بِـ«وليم النجَّار»، والأخير كان قد سبق لهُ المُشاركة في حربٍ ضدَّ المُسلمين عندما انضمَّ إلى قُوَّات ألفونسو السادس ملك قشتالة لِحصار مدينة تطيلة التابعة لِطائفة سرقسطة، يوم 13 رجب 479هـ المُوافق فيه 23 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1086م. ولمَّا كان هؤلاء الصليبيُّون سيئي التجهيز والاستعداد، فقد نفذت منهم المؤن خِلال فترةٍ قصيرةٍ من خروجهم، بحيث أنهم اضطرُّوا إلى طلب المعونة والاستجداء من أهالي مدينة ترير الألمانيَّة ما أن وصلوها. وكان في المدينة المذكورة جالية يهوديَّة كبيرة، حمل إليهم بُطرس الناسك رسالةً من اليهود الفرنجة تُناشدهم أن يُزوِّدوا الصليبيين بِحاجتهم من الغذاء والعتاد. وبِحسب حوليَّة «سُليمان بن شمشون»، مجهولة المُؤلِّف والمكتوبة بِالعبرانيَّة، فإنَّ يهود المدينة ارتاعوا لمَّا شاهدوا الصليبيين، وأخافتهم هيئة بُطرس الناسك وسطوته على جُنده، فسارعوا إلى تنفيذ طلبه دون تردُّد، غير أنَّ ذلك لم يحل دون ما كان على وشك أن يقع. مذبحة اليهود في أوروپَّا الوُسطى. رُغم تجاوب اليهود مع مطالب بُطرس الناسك، إلَّا أنَّ أُمراء الصليبيين وعوامهم الجائعين والمُفعمين بالمشاعر الدينيَّة المُتطرِّفة، لم يلبثوا أن أخذوا يُهاجمون يهود ترير، فانتظروا حُلُول يوم السبت المُقدَّس عند اليهود، وهاجموهم أثناء صلواتهم، فقتلوا 12 شخصًا منهم ونهبوا مُمتلكات الباقين، وشاركهم في المذبحة أهل المدينة المسيحيين بما فيهم الكهنة والقساوسة، باستثناء فئة قليلة عملت على إيواء وحماية اليهود الهاربين. ووقع العديد من اليهود في أسر الصليبيين، فأُرغموا على التنصُّر بِحدِّ السيف. وكانت حُجَّة الصليبيين وراء هذه الأعمال أنَّهم هجروا أوطانهم لِقتال «أعداء الله»، فلا يصح أن يتركوا فيها أعداءه الآخرين، قتلة المسيح والمُرابين الاستغلاليين. وتابع الصليبيُّون زحفهم نُزولًا مع نهر الرين حتَّى بلغوا مدينة ڤورمس يوم 18 أيَّار (مايو) 1096م، وكان فيها أيضًا جالية يهوديَّة كبيرة. وما أن وصل الصليبيُّون حتَّى سرت شائعة في المدينة مفادها أنَّ اليهود قتلوا مسيحيًّا غليًا بالماء ثُمَّ ألقوا بِجُثَّته في إحدى الآبار لِتسميم مياه الشُرب، فانفصل القُمَّس أميتش الليننجي ورجاله عن باقي الجماعة الصليبيَّة لِمُعاقبة اليهود على جُرمهم المزعوم، فارتاع هؤلاء وسارع أغلبهم إلى الهرب والاحتماء بِالأمير الإقطاعي لِلمنطقة المدعو «أدالبرت»، فآواهم في قصره، إلَّا أنَّ قسمًا آخر منهم آثر البقاء والدفاع عن مُمتلكاته وعياله، فكانوا أوَّل من قتلهم الصليبيين. وانضمَّ العامَّة من أهل ڤورمس إلى الصليبيين، فقتلوا كُل من وقعت عليه أيديهم من اليهود، وبعد ثمانية أيَّامٍ من التقتيل المُتواصل، اقتحم هؤلاء قصر الأمير أدالبرت وقتلوا من احتمى فيه من اليهود، ويُروى أنَّ الضحايا كانوا يتلون صلواتهم بِمُناسبة حُلُول شهر «سيوان» بِالتقويم العبراني. يُقدُّر عدد اليهود الذين قُتلوا على يد الصلبيين في ڤورمس بما بين 800 إلى 1,000 شخص، عدا الذين أقدموا على الانتحار، ولم ينجُ منهم إلَّا فئة قليلة عُمِّدت غصبًا، يُذكر من بينهم رجلٌ يُدعى «سمحة بن إسحٰق كوهن»، انقضَّ على ابن أخ الأُسقف الذي كان يُعمِّده، فأرداه قتيلًا، فقُبض عليه وأُعدم على الفور. كما كان من أبرز المقتولين امرأة تُدعى «منَّة الڤورمسيَّة»، كانت من كبار المُرابين في المدينة، وقد خُيِّرت بين اعتناق المسيحيَّة أو الموت، فاختارت الموت. ولم يكتفِ القُمَّس أميتش بِذبح اليهود في المدينة سالِفة الذكر، بل توجَّه بِرجاله ومعه كُلٌ من الراهب ڤولكمار ودروگوه قُمَّس نيسل ووليم النجَّار إلى مدينة مَيَانِصَة وبنيَّته إنزال العقاب نفسه بجاليتها اليهوديَّة، فوصلوها يوم 25 أيَّار (مايو) 1096م، لكن حال بينهم وبين دُخُولها مُطرانها المدعو «روثارد» ، الذي كان كارهًا لِلعُنف الذي حمله الصليبيُّون معهم، وآوى اليهود في بعض القُصُور والقلاع الصغيرة. لبث أميتش ومن معه يومان خارج أسوار المدينة، فسارع اليهود خلال هذه الفترة لِافتداء أنفسهم وعيالهم، وجمعوا بعض المسكوكات الذهبيَّة وقدَّموها لِلقُمَّس المُحاصر على أمل أن يشملهم بعطفه ورحمته، لكنَّ ذلك لم يُجدِ نفعًا، فأصدر أميتش أوامره بِاقتحام المدينة يوم 27 أيَّار (مايو)، فتدفَّق إليها الصليبيُّون وأعملوا السيف فيمن وقع بيديهم من اليهود، وحاول تُجَّار المدينة وأرباب المصالح المُرتبطين بِعلاقاتٍ مع اليهود أن يحموهم، فانضمُّوا إلى الجماعة المُسلَّحة التي نظَّمها المُطران روثارد لِدفع الصليبيين وحاولوا قتالهم، لكنَّ تدفُّق هؤلاء بِأعدادٍ كبيرة جعل الكفَّة تميل لِصالحهم، ففرَّ المُطران ناجيًا بحياته، في حين وقع اليهود تحت رحمة الصليبيين، فجرت لهم مذبحة رهيبة، قُتل فيها ما يقرب من 1,100 شخص، عدا من انتحر أو أُجبر على التنصُّر، وعدَّ بعض الباحثين هذا الحدث أوَّل مجزرة مُنظَّمة ضدَّ اليهود في أوروپَّا. بعد ذلك عاد أميتش وأصحابه إلى قُلُونية حيثُ فتكوا بِمزيدٍ من اليهود القاطنين في المنطقة واستولوا على أموالهم، كما انضمَّ إليهم المزيد من العوام الراغبين بِالذهاب إلى الديار المُقدَّسة، ثُمَّ قفل وعاد مُتتبعًا مسار بُطرس الناسك. الصليبيُّون في المجر. خِلال الفترة التي قضاها أميتش الليننجي ومن معه بِالإغارة على اليهود وقتلهم، كان بُطرس الناسك وجماعته قد أشرفوا على تُخُوم مملكة المجر، فبعث بِرسالةٍ إلى ملكها كولومان بن گزاي يستأذنه بِالعُبُور، فجاءه الإذن بِذلك على أن يسير في البلاد دون إثارة المتاعب، وحذَّره بِأنَّ العقاب سينزل بِكُلِّ من يُحاول السلب والنهب. وعبر جيش بُطرس المجر بِسلام، انطلاقًا من شوپرون، في أواخر شهر أيَّار (مايو) وأوائل حُزيران (يونيو)، وكان بُطرس على ظهر حماره، والفُرسان الألمان على خُيُولهم، بينما كانت المُؤن التي معهم وصُندوق النُقُود التي جمعها من أجل الرحلة على عرباتٍ مُكتظَّةٍ بِالناس، على أنَّ الكثرة الغالبة كانت ترتحل سيرًا على الأقدام، وكانوا يقطعون خمسةٍ وعشرين ميلًا في اليوم إذا كانت الطُرق جيِّدة. وصل الجيش إلى بلدة «سملين»، التي شهدت الاقتتال بين أتباع والتر المُفلس والأهالي قبل فترة، يوم 20 حُزيران (يونيو) 1096م، وهُناك بدأت المتاعب، ولا يُعرف على وجه الدقَّة ما تسبَّب بِالأعمال العدائيَّة، لكن يُرجَّح أن يكون حاكم المدينة قد شعر بِالخطر من حجم الجيش الصليبي، فاجتمع بِنظيره الدوق «نيكيناس» صاحب بلغراد وحاولا تشديد شُرُوط العُبُور ولوائح الميرة، ممَّا أثار شُكُوك الصليبيين، لا سيَّما وأنهم قد سمعوا إشاعاتٍ من القرويين عمَّا حصل لِرجال والتر، وخشوا أن يكون الحاكمان قد تآمرا ضدَّهم، وصدمتهم رؤية ملابس وأسلاب وسلاح رجال والتر الستَّة عشر التي كانت مُعلَّقةً على أسوار المدينة رمزًا لِانتصار المجريين عليهم، فغضبوا كُلَّ الغضب، واتخذوا من خلافٍ وقع بين بعض أفرادهم وأهل المدينة بِشأن الحُصُول على الميرة ذريعةً لِإثارة الشغب الذي ما لبث أن تطوَّر إلى معركةٍ أُعدَّ لها مُسبقًا. ويرى المُؤرِّخ اللُبناني مُحمَّد سُهيل طقُّوش أنَّ ما جرى يُعد دليلًا على عدم صلاحيَّة بُطرس الناسك لِقيادة خليطٍ من المُقاتلين ذوي التوجُّهات المُختلفة، منهم التقيَّ الصالح ومنهم المُجرم الطالح، إذ يُقال أنَّ بُطرسًا لم يكن راغبًا بِقتال أهل سملين، لكنَّ أحد أتباعه، المدعو «گودفري بوريل» ، لم يستجب لِرغبة زعيمه، فقاد جمعًا من الرجال واقتحم بهم المدينة، وأعمل السيف في أهلها، ثُمَّ اقتحم قلعتها وقتل حاميتها، واستولى على كمٍّ هائلٍ من مخزونات المُؤن، وفرَّ بعض الأهالي من المجزرة فألقوا بِأنفُسهم في نهر صوه وحاولوا السباحة إلى صوب بلغراد، فَلقُوا حتفهم غرقًا. ويُقدُّر عدد ضحايا هذه المذبحة بحوالي أربعة آلاف شخص. أقام الصليبيُّون خمسة أيَّامٍ في المدينة المنكوبة بِسبب ما وجدوه فيها من وافر الطعام، ثُمَّ جاءتهم الأخبار بِأنَّ ملك المجر - وقد هزَّهُ نبأ المذبحة التي جرت على شعبه - استدعى إليه قُوَّاته الحربيَّة من شتَّى أرجاء تلك الناحية واستعدَّ استعدادًا كبيرًا لِلثأر لِدماء رعيَّته، فدبَّ الخوف في نُفُوس الصليبيين، فهرعوا على وجه السُرعة لِعُبُور نهر صوه، واقتلعوا من البُيُوت المهجورة أخشابها لِيصنعوا منها أطوافًا يعبرون عليها النهر، وحاول دوق بلغراد نيكيناس أن يحول دون عُبُور الصليبيين لكنَّهُ فشل في ذلك، وتحقَّق من عدم كفاية جُنُوده لِلتعامل مع مثل هذا الحشد الهائل، فانسحب إلى نيش حيثُ موقع القيادة العُليا العسكريَّة للمُقاطعة، وعلى أثر رحيله هجر أهالي بلغراد المدينة ولاذوا بِالجبال. وفي يوم 26 حُزيران (يونيو) شقَّ الصليبيُّون طريقهم بِصُعُوبةٍ عبر نهر صوه، ثُمَّ دخلوا بلغراد فوجدوها خاويةً على عُرُوشها، فنهبوها وأشعلوا فيها النيران، ثُمَّ ساروا ثمانية أيَّامٍ اجتازوا خلالها غابةً كثيفةً بالغة الاتساع خرجوا منها إلى نيش الحصينة. واقعة نيش وتشتُّت جيش أميتش الليننجي. ضرب جيش بُطرس مُعسكره على مقرُبةٍ من أسوار نيش يوم 3 تمُّوز (يوليو)، ولمَّا كانت المؤونة التي حملها الصليبيُّون معهم قد أخذت بِالنفاذ وأصبح العسكر يُواجه نقصًا بيِّنًا في الطعام، فقد أرسل بُطرس على الفور إلى «نيكيناس» طالبًا منه المدد، وأن يسمح لهم بِإقامة سوقٍ بِشُروطٍ كريمةٍ وأسعارٍ مُعتدلةٍ كي يستطيعوا الحُصُول على مُتطلِّبات الحياة اليوميَّة الضروريَّة. وكان نيكيناس قد بعث إلى الإمبراطور البيزنطي في القُسطنطينيَّة بِاقتراب بُطرس، وكان ينتظر حُضُور المسؤولين الحُكُوميين والحرس الإمبراطوري لِمُرافقة الصليبيين إلى العاصمة، وكانت هُناك حاميةً كبيرةً في نيش مدعومةً بِأعدادٍ من الصقالبة والمُرتزقة المجريين، لكن يبدو أنَّها كانت غير كافية لِتأمين مُصاحبة بُطرس وجماعته إلى أن يأتي الجُنُود القادمون من القُسطنطينيَّة، ومن الناحيةٍ الأُخرى كان السماح لِمثل هذا الحشد الغفير بِالتريُّث طويلًا في نيش أمرًا غير عملي وخطيرًا في الوقت نفسه؛ ولِذلك طلب نيكيناس من بُطرس أن يبعث إليه بِرهائن إلى أن تتم الغاية من وُجودهم، فيأخذون متاعهم ومؤونتهم ويمضون إلى القُسطنطينيَّة، فوافق بُطرس على ذلك وأُمكن توفير كميَّات هائلة من الزاد لِكُلِّ الجيش، كما تبرَّع الكثير من أهل المدينة بِصدقاتٍ لِلصليبيين الفُقراء، بل طلب البعض الاشتراك في الحملة. وفي الصباح التالي شرع الصليبيُّون في مسيرهم نحو القُسطنطينيَّة، وبينما كانوا يُغادرون المدينة أشعل بعض الألمان العابثين النيران في سبع طواحين هوائيَّة، فأتت عليها وجعلتها رمادًا. كما راحوا يقذفون بِالنار بُيُوت بعض الأهالي الواقعة خارج الأسوار، فأحرقوها هي الأُخرى، ثُمَّ سارعوا لِلانضمام إلى بقيَّة الجيش الذي كان الجانب الأكبر منه قد ارتحل دون أن يُدرك عناصره ولا قائدهم بُطرس ما حصل. كان سبب هذا العدوان مُشاجرة وقعت بين أولئك الألمان ورجلٌ من أهل نيش في الليلة السابقة، وما أن سمع نيكيناس بِذلك حتَّى ثار غضبه، وخرج على رأس جُنُُوده لِضرب مُؤخرة الجيش، وانضمَّ إليهم جمعًا كبيرًا من الأهالي الغاضبين ولاحقوا الجيش الصليبي وكرُّوا على مُؤخرته كرَّةً عنيفة، وراحوا يعملون سُيُوفهم فيها، واستولوا على العربات المُحمَّلة بِشتَّى أنواع المُؤن، وسبوا النساء والأولاد والشُيُوخ الذين كان تقدُّمهم بطيئًا، وعادوا إلى المدينة مُحمَّلين بِالغنائم. وكان بُطرس الناسك على حماره في مُقدِّمة الجيش على بُعد ميلٍ تقريبًا، ولم يعلم بِشيءٍ من كُلِّ هذا إلى أن طالعه رسولٌ آتٍ من المُؤخرةٍ على عجل، وأخبره بما حدث، فكرَّ راجعًا على الفور لِمُقابلة نيكيناس واحتواء الموضوع، ولمَّا طالعت الصليبيين جُثث إخوانهم الصرعى ثارت ثائرتهم، وانتشرت بين صُفُوف الجيش شائعاتٌ عن القتال والخيانة، وفي نفس الوقت كان أهل المدينة غاضبين وعلى وشك الانفجار بِوجه الصليبيين، واشتعلت شرارة المعركة حينما انقضَّت جماعة من المُتهورين وأغارت على حُصُون المدينة، فدفعتهم الحامية وشنَّت عليهم هُجُومًا مُضادًا، وحاول بُطرس كبح جماح رجاله وُمحاولة إعادة الاتصال بِنيكيناس، لكنَّهُ فشل في مسعاه، فقد اندفع قُرابة ألفٍ من أتباعه مُحاولين تجديد الهُجُوم، فما كان من نيكيناس إلَّا أن أطلق قُوَّاته كُلُّها على الصليبيين، فهزمهم هزيمةً نكراء وأوقع بهم مذبحةً مُروِّعة، وحاول بعضهم الفرار عبر النهر فماتوا غرقًا. ولم يتمكَّن الفُرسان أو الرُّعاع من الصُمُود أمام هذا الضغط، فتخلُّوا عن مواقعهم ولاذوا بِالفرار، ولم يلبث أن انفرط عقد الجيش كُلِّه، فتتبعهم نيكيناس وقتل العديد منهم وأسر نسائهم وأولادهم. وتمكَّنت فئة ضئيلة، تُقدَّر بِحوالي خمسُمائة شخص، من النجاة بِنفسها، فاحتموا في أعماق الأدغال التي يصعب الوُصُول إليها، وكان من جُملتهم بُطرس نفسه، الذي فقد ضمن ما فقد خزينة أمواله، فالتفَّ الجميع حوله وارتدُّوا جميعًا إلى تلٍّ صغيرٍ مكثوا فيه ثلاثة أيَّام. ولمَّا كان اليوم الرابع، أقبل الهاربون من الأماكن الخفيَّة التي تواروا فيها، فصار عددهم نحو سبعة آلاف، فأكملوا مسيرتهم على الطريق وقد نفذ منهم الطعام وصاروا بِحالةٍ يُرثى لها، واكتشفوا أنهم فقدوا رُبع عددهم. وفي غُضُون ذلك الوقت كان أميتش الليننجي قد دخل بلاد المجر مُقتفيًا أثر بُطرس الناسك، فأساء أتباعه إلى السُكَّان واستسلموا لِلكسل وشُرب الخمر، وسرقوا السلع من الدكاكين والأسواق العامَّة، وقتلوا الناس في المنازل والشوارع، دون إبداء أي اهتمام بِقواعد الضيافة، ما أثار الملك كولومان بن گزاي، وحتَّى يُوفِّر على جُنُوده عبء القتال معهم، عرض عليهم تسليم أسلحتهم مُقابل العفو عنهم، فوافقوا، عندئذٍ أخذهم الجُنُود بِالسيف وأبادوا أكثرهم، وعاد من نجا إلى بلاده، وكان من جُملة هؤلاء أميتش نفسه، الذي رجع إلى إمارته الألمانيَّة موصومًا بِالعار. بُلُوغ القُسطنطينيَّة. تابع بُطرس الناسك وجماعته زحفهم ناحية القُسطنطينيَّة تحت ظُرُوفٍ بالغة المشقَّة، وحال بينهم وبين الهلاك أن صادفوا مدينة بيلاپلانكة التي كان أهلها قد هجروها، فتوقفوا فيها لِجمع المحصول المحلِّي، وهُناك لحق بهم مُشرَّدون كثيرون آخرون. وفي 12 تمُّوز (يوليو) 1096م، وصل الجمع إلى مدينة أترالسة حيثُ قابلهم المبعوثون والحرس الإمبراطوري الذين أتوا من العاصمة البيزنطيَّة لِمُرافقتهم، ومعهم تعليمات من الإمبراطور بِتزويدهم بِكامل ما يلزمهم، وألقى عليهم رئيس الوفد البيزنطي رسالةً من إمبراطوره قائلًا: شدَّت هذه الكلمات من عزيمة الصليبيين، ومُنذ ذلك الحين سارت حملتهم سيرًا يسيرًا، فلمَّا وصلوا مدينة فيلپَّة تبرَّع لهم أهلها بِالأموال والخُيُول والبغال بعدما تأثَّروا تأثُّرًا عميقًا بِأقاصيص مُعاناتهم. وقبل وُصُولهم إلى مدينة أدرنة بِمسيرة يومين قابلهم مبعوثون آخرون وحيُّوا بُطرس بِرسالةٍ كريمةٍ من الإمبراطور مفادها أنَّه قرَّر أن يغفر لِلحملة ما ارتكبته من جرائم، إذ أنَّها عوقبت بِالفعل بما فيه الكفاية، فتأثَّر بُطرس وبكى فرحًا. وشدَّ القوم من عزيمتهم حتَّى بلغوا القُسطنطينيَّة يوم 1 آب (أغسطس) 1096م، فلمَّا بلغوها وجدوا بها والتر المُفلس وقُوَّاته التي كانت معه في انتظار قُدُومهم، فانضمَّ المُعسكران بعضهما إلى بعض، وخيَّموا في الموقع الذي خُصِّص لهم، وأرسل الإمبراطور البيزنطي إلى بُطرس الناسك يستدعيه لِلمُثُول أمامه، فدخل المدينة ووقف في الحضرة المُلُوكيَّة، فسأله الإمبراطور عن مقصده من وراء هذه الحركة الكبيرة ودوافعه إليها، فأسهب بُطرس في شرح الأمر بِفصاحته المعهودة وبلاغته الكبيرة، وأخبر الحاضرين أنَّ أكبر أُمراء الغرب قادمون في أثره، فأُعجب به كبار رجال القصر، كما أظهر الإمبراطور ميلًا إليه، فأثنى على هدفه ثُمَّ صرفه مُحمَّلًا بِالهدايا. لكنَّ الإمبراطور أدرك بِعينه الخبيرة، أنَّ هذه الحملة لم تكن بِذات وزن، وخشي إن عبرت إلى الأناضول أن يُدمِّرُها المُسلمون على الفور، على أنَّ الفوضى الضاربة بين أفراد الحملة دفعتهُ إلى أن يُعجِّل بِمُغادرتها القُسطنطينيَّة. ففي الأيَّام القليلة التي تلت وُصُول الصليبيين، عاد الرُّعاع إلى غوغائيَّتهم التي تسبَّبت لهم بِالمتاعب في البلقان، فأخذوا يتسلَّلون في جنح الظلام إلى أحياء القُسطنطينيَّة، فيسرقون بُيُوتها ويغتصبون نساءها، حتَّى الكنائس والأديرة لم تنجُ منهم، وبعد أن نهبوا جميع ما في هذه الكنائس من ذهبٍ وفضَّةٍ وتُحفٍ ورياش، صعدوا أسطحتها فخلعوا صفائح الرصاص التي تُغطِّيها لِيبيعوها في أسواق المدينة جهارًا. فكان لا بُدَّ لِلإمبراطور أن يضع حدًّا لِهذه الفوضى التي عمَّت عاصمته، فقرَّر نقل الصليبيين كيفما اتَّفق إلى الساحل الآسيوي. نهاية الحملة. نقلت المراكب البيزنطيَّة جميع الصليبيين عبر بحر مرمرة إلى الأناضول يوم 6 آب (أغسطس) 1096م، وألقت بهم على ساحل بيثينيا. وعلى الرُغم من الضرر الذي ألحقه الصليبيُّون بِرعايا الإمبراطور الآمنين، فإنَّهُ استمرَّ يُحسن النُصح إليهم، فأشار عليهم بِالتجمُّع والانتظار عند أحد المراكز الحصينة قُرب مضيق البوسفور حتَّى تأتيهم الإمدادات والجُيُوش النظاميَّة من الغرب. ولكنَّ جُمُوع العامَّة لم يستطيعوا ضبط أنفُسهم والكف عن النهب والسلب، فساروا على طول شاطئ مرمرة ينهبون الكنائس والمنازل دون أن يكبح جماحهم شيء، حتَّى أنهم نهبوا مدينة نيقوميدية التي كانت مهجورةً مُنذُ أن هاجمها السلاجقة قبل خمسة عشر سنة، وهُناك نشب شجارٌ بين أعضاء الحملة من الألمان والنورمان من جهة، والفرنجة من جهةٍ أُخرى؛ فقد شقَّ الأولون عصا الطاعة على قيادة بُطرس وانتخبوا قائدًا لهم أحد النُبلاء النورمان، المدعو «رينالد النورماني». ومن مدينة نيقوميدية تحوَّل الجُزءان المُكوِّنان لِلجيش بِاتجاه الغرب إلى أن وصلا إلى مُعسكرٍ حصينٍ يُسمَّى بِالروميَّة «سيبوتوس»، وسمَّاه الصليبيُّون «سيڤيتوت» ، فأقاموا فيه مُعسكرهم لِخصب المنطقة ولِإمكانيَّة إحضار الإمدادات من القُسطنطينيَّة بِسُهُولة. وراحت جُمُوع الألمان والنورمان والفرنجة تتسابق وتتنافس في شن الغارات على المناطق الزراعيَّة المُجاورة، فسلبوا سُكَّان القُرى ماشيتهم ودوابهم، واعتدوا عليهم واقترفوا بِحقِّهم أعمالًا جُرميَّةً رهيبة، دون تفرقةٍ بين المُسلمين والنصارى، وفي ذلك يقول المُؤرِّخ الفرنسي گوستاڤ لوبون : . ووصلت أنباء مجازر الصليبيين إلى مسامع الإمبراطور البيزنطي، فأرسل إليهم كُتُبًا يُحذِّرهم مغبَّة ما يقترفون، وينهاهم عن التجرُّؤ على الابتعاد أو استفزاز المُسلمين، ويأمرهم بِالبقاء في الموضع الذي خُصِّص لهم، وأن ينهجوا النهج القويم إلى حين وُصُول القادة والأُمراء الغربيين الذين قال بُطرس أنهم قادمون وراءهم. استجاب بُطرس لِكلام الإمبراطور، لكنَّ سُلطته على أتباعه كانت تتضائل، وسطوته تخف شيئًا فشيئًا، وبدلًا من أن يستجمع الصليبيُّون قُوَّتهم في هُدوءٍ، انقسموا إلى فريقين: الألمان والنورمان بِرئاسة رينالد النورماني من جهة، والفرنجة أبناء جلدة بُطرس من جهةٍ أُخرى، ويبدو أنَّ الأخيرين أذعنوا لِقيادة گودفري بوريل، صاحب مجزرة مدينة سملين، والذي وصفه وليم الصوري بِأنَّه كان صُعلُوكًا. وخاف بُطرس من تهوُّر جماعته وافتراق كلمتهم، فعاد وعبر إلى القُسطنطينيَّة على أمل أن يحصل على تخفيض ثمن ما يشترونه من الروم، وعلى ظُرُوفٍ أحسن في المُتاجرة، لعلَّ وعسى يحول ذلك دون إغارة الصليبيين على القُرى والبلدات. اغتنم الصليبيُّون، الذين لم يألفوا النظام، فُرصة تغيُّب بُطرس، فصاروا يتنافسون في الإغارة على الأهالي الآمنين وسلبهم مواشيهم وتعذيبهم ثُمَّ قتلهم، رُغم أنَّ كُلِّ القرويين كانوا مسيحيين أروام. وفي أواسط شهر أيلول (سپتمبر) 1096م، تجاسر عدَّة آلاف من الفرنجة بِالتوغُّل حتَّى بوَّابات مدينة نيقية، وهي عاصمة سلاجقة الروم آنذاك، فخرَّبوا القُرى الواقعة في الجوار وارتكبوا بعض المذابح، فأرسل إليهم الملك قلج أرسلان بن سُليمان فصيلةً لِقمعهم، لكنَّها انسحبت عائدةً إلى العاصمة السُلجُوقيَّة بعد قتالٍ مرير. ثُمَّ عاد الصليبيُّون إلى «سيڤيتوت» حيثُ باعوا الأسلاب لِرفاقهم ولِلبحَّارة الروم الذين كانوا بِجوار المُعسكر. ورأى الألمان ما صادفه الفرنجة من النجاح في غزوتهم هذه، فثارت لديهم نوازع الغيرة وتملَّكتهم الرغبة في مُجاراتهم في السلب والنهب، فانطلقت في أواخر الشهر سالف الذِكر حملة بِقيادة رينالد النورماني قوامها حوالي ستة آلاف رجل وجاوزوا نيقية ناهبين مُخرِّبين، على أنَّهم أبقوا على الأهالي النصارى ولم يتعرَّضوا لهم، وكان في تلك الناحية - وعلى بُعد أربعة أميالٍ من نيقية نفسها - مدينةٌ حصينة تقع على سطح إحدى التلال، تُعرف عند الروم بِـ«إكسيريگوردوس» فهاجمها الألمان أعنف هُجُوم واستولوا عليها رُغم استبسال أهلها في مُقاومتهم، لكنَّهم فتكوا بهم وملكوا كُلَّ ما في البلد، ثُمَّ أعجبهم جمال الناحية وغناها، فحصَّنوها تحصينًا قويًّا، وعقدوا العزم على البقاء هُناك حتَّى يصل الأُمراء والقادة من الغرب، واتخذوها قاعدة انطلاقٍ لِلإغارة على الأراضي الزراعيَّة المُجاورة، وحرَّفوا اسمها فصار يُلفظ «إكسيريگوردون» أو «إكسوروگورگوم» . أثارت هذه التعديات حفيظة قلج أرسلان، فأرسل أحد كبار قادته العسكريين، المدعو «إيلخانوس»، على رأس جيشٍ كبيرٍ لِاسترداد القلعة، فضرب الحصار عليها يوم 9 شوَّال 489هـ المُوافق فيه 29 أيلول (سپتمبر) 1096م، ومنع عنها الماء بعد أن استولى على النبع والبئر اللذين يُغذيانها، فاستبدَّ اليأس بِالمُحاصرين لِدرجة أنهم اضطرُّوا إلى امتصاص الرُطُوبة من الأرض، وقطعوا شرايين وأوردة خُيُولهم وحميرهم لِيشربوا دمائها، بل وشربوا بول بعضهم البعض، وحاول قساوستهم عبثًا تهدئتهم وتشجيعهم. وبعد ثمانية أيَّام من المُعاناة قرَّر رينالد النورماني الاستسلام، وفتح البوَّابات، وأعلمه السلاجقة أنَّ الحالة الوحيدة التي لن تُهدر فيها دماء الصليبيين هي إن اعتنقوا الإسلام، فقبل رينالد وجماعة من أتباعه وأشهروا إسلامهم، فساقهم السلاجقة إلى أنطاكية وحلب وبعيدًا داخل خُراسان، وقُتل كُلُّ من بقي على دينه من المُحتلين الغربيين. وفي أوائل تشرين الأوَّل (أكتوبر) من السنة سالِفة الذِكر، وصلت أنباء استيلاء الألمان على حصن «إكسيريگوردوس» إلى المُعسكر الصليبي في «سيڤيتوت»، ولجأ السلاجقة إلى خطَّةٍ ذكيَّةٍ كي يستدرجوا أهل الحصن إلى كمينٍ سبق إعداده وإبادتهم، فأرسل قلج أرسلان اثنين من جواسيسه أشاعا بِأنَّ الألمان استولوا على نيقية نفسها وغاصوا في الأسلاب يغترفونها. أثارت تلك الشائعة نشوةً صاخبةً في المُعسكر الصليبي، وتصايح الجُنُود مُطالبين السماح لهم بِالسير إلى نيقية، وكاد الأمر أن يقع فعلًا لولا أن وصلت الأنباء الحقيقيَّة، ومفادها أنَّ الألمان هلكوا عن بُكرة أبيهم على يد المُسلمين، فتحوَّلت النشوة الصاخبة إلى ذُعر، واجتمع قادة الجيش لِلتشاور فيما يُمكن عمله بعد ذلك. وارتفعت صيحات العوام الصليبيين تُلحُّ إلحاحًا شديدًا ألَّا يسكتوا عن هذه النكبة التي نزلت بِإخوانهم، وتنادوا بِأن يهب الفُرسان والمُشاة لِحمل السلاح لِلخُرُوج ثأرًا لِدم رفاقهم المقتولين، لكنَّ كبار القادة كوالتر المُفلس ورينالد البروسي ووالتر البريتولي وفولك الأُرليانشي وغيرهم، أقنعوا أتباعهم بِضرورة التريُّث حتَّى يعود بُطرس الناسك من القُسطنطينيَّة في غُضُون ثمانية أيَّام، لكنَّ الفترة المذكورة انقضت دون أن يرجع بُطرس، فثارت ثائرة الجيش مرَّة أُخرى، وحاول القادة المذكورون الحيلولة دون تفاقم الوضع مُجدَّدًا، لكنَّ گودفري بوريل ومن ورائه الرأي العام في الجيش أصرُّوا أنَّ عدم إتاحة الفُرصة لِلانتقام بِالسيف ممن قتلوا إخوانهم إنَّما يرجع إلى الجُبن والحماقة. وهكذا، كانت الغلبة لمشيئة هذه الفئة، وفي فجر يوم 2 ذي القعدة 489هـ المُوافق فيه 21 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1096م، انطلق جيش الصليبيين كُلُّه وقد تجاوز عدده عشرين ألف رجل، تاركًا في «سيڤيتوت» النساء والأطفال والشُيُوخ. وعلى بُعد ثلاثة أميالٍ تقريبًا من المُعسكر، عبر الصليبيُّون واديًا ضيِّقًا مليئًا بِالأشجار، وبرزت لامُبالاتهم وانعدام نظامهم من واقع أنَّهم كانوا يُثيرون الصخب أثناء تقدُّمهم، وفجأةً انهمرت عليهم السهام من الأشجار، فقُتلت الكثير من الخُيُول وفُرسانها الذين تقدَّموا المُشاة، وأُصيب آخرون، فتقهقروا، وتتبعهم المُسلمون وأعملوا فيهم السيف، وسُرعان ما دبَّ الذُعر وسط الجيش وأخذ الجُند كُلَّ مأخذ، وفي دقائق قليلة كان الحشد كُلُّه يولي الأدبار في فوضى عارمة إلى سيڤيتوت. لاحق المُسلمون الصليبيُّون وظفروا بهم مُجددًا في سهلٍ فسيحٍ، فانقضوا عليهم بِسُيوفهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وتمكَّن الباقون من الوُصُول إلى مُعسكرهم، لكنَّ السلاجقة لاحقوهم واقتحموا المُعسكر، وقتلوا كُل من كان فيه من المُقاتلين وسبوا الباقين. ولم يتمكَّن من الهرب إلَّا نحو ثلاثة آلاف صليبيّ توجهوا إلى قلعةٍ قديمةٍ مهجورةٍ على البحر، فأقاموا فيها تحصينات من بقايا الأخشاب والعظام المُتناثرة في أرجائها. وفي تلك الأثناء كان غُبار المعركة قد انقشع، ليتبيَّن أنَّ الغالبيَّة العُظمى من قادة الصليبيين قد قُتلوا، بما فيهم والتر المُفلس. ولم يلبث السلاجقة أن ضربوا حصارًا على القلعة الخربة التي اعتصم فيها الناجون، فقاومهم هؤلاء وتمكَّنوا من صدِّهم، وأرسلوا تحت جُنح الظلام رسولًا إلى القُسطنطينيَّة لِيُخبر أهل السُلطة بِالكارثة التي حلَّت، ويستنجدهم لِإنقاذ القلَّة الباقية على قيد الحياة والمُكابدة لِلحصار الشديد. ولمَّا علم بُطرس بِكُلِّ ذلك، بادر إلى الإمبراطور واستطاع بِتوسُّلاته إليه وتضرُّعاته أن يحمله على إرسال بعض القوارب إلى البر الآسيوي لِإنقاذ الصليبيين، فأبحرت تلك السُفُن في الحال، وما أن وصلت وشاهدها السلاجقة حتَّى رفعوا الحصار وانسحبوا إلى الداخل. ونقل البيزنطيُّون الأحياء من الصليبيين إلى القُسطنطينيَّة حيثُ خُصِّص لهم مكانُ إقامة في الضواحي بعد أن جُرِّدوا من أسلحتهم. وعلى هذا الشكل انتهت حملة الفُقراء الصليبيَّة، التي أثبتت أنها كانت طائشة وعديمة النظام، واستنفذت صبر الإمبراطور البيزنطي ورعيَّته. تبعات الحملة. خلال الفترة التي وصل فيها الصليبيُّون إلى القُسطنطينيَّة وعبروا إلى الأناضول، ثُمَّ انهزموا على يد السلاجقة، كان الراهب گوتشالك قد شكَّل جيشًا من المُتشرِّدين والفُقراء الألمان، وزحف بهم في أثر بُطرس الناسك بعد أن ألحق بيهود بلاده مجازر أُخرى. وما أن وصل هذا الجيش إلى الحُدُود المجريَّة حتَّى وجد في استقبالهم الملك كولومان على رأس جيشٍ عظيم، إذ كان قد قرَّر عدم تكرار المهزلة مرَّة أُخرى بعد أن ذاق وشعبه الأمرَّين على يد الصليبيين، فطوَّقهم ومنعهم من التقدُّم لِيوم، ثُمَّ أمر جُنُوده بِدُخُول المُعسكر الصليبي ليلًا وذبح أهله عن آخرهم، فنُفِّذ الأمر بحيثُ لم ينجِ من الغربيين سوى نفرٍ قليلٍ جدًا لاذ بِالفرار. ولا يُعرف كيف تلقَّى بُطرس نبأ هذه الكارثة، لكن يُتفق أنَّ فشل حملة الفُقراء بيَّن لِقادة الصليبيين أنَّ الإيمان وحده بلا حكمةٍ ولا نظامٍ لن يفتح الطريق إلى بيت المقدس. بِالمُقابل، يظهر أنَّ الملك السُلجُوقي قلج أرسلان اعتقد أنَّ الحملات القادمة من الغرب لن تعدو أن تكون جماعاتٍ أُخرى من العامَّة غير المُدرَّبين الذين قضى عليهم بِسُهُولةٍ تامَّةٍ، فغادر عاصمته نيقية بُعيد انتصاره، وتوجَّه إلى ملطية لِيُنازع الدانشمنديين مُلكيَّتها، دون تقديرٍ لِجديَّة الغزو الصليبي القادم في أثر حملة الفُقراء. ومَّما زاد في طمأنته، الأُسلُوب البارع الذي انتهجه الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين، عندما بثَّ جواسيسه بين صُفُوف السلاجقة، وأشاعوا أنباء غير حقيقيَّة عن خلافاتٍ مُستحكمةٍ بينه وبين الأُمراء الصليبيين، ممَّا جعل الملك السُلجُوقي يعتقد أنَّ هؤلاء لن يتوغَّلوا بعيدًا حتَّى نيقية، بِدليل أنَّهُ ترك زوجته وأولاده وأمواله في المدينة. والحقيقة أنَّ الاستعدادات كانت تجري على قدمٍ وساقٍ في الغرب الأوروپي لتحرُّك الجُيُوش النظاميَّة بِاتجاه ديار الإسلام، فيما سُمِّي بِحملة النُبلاء أو حملة الأُمراء، وهي الحملة التي اشتهرت في التاريخ بِالحملة الصليبيَّة الأولى. الملك لويس فيليب هو لويس فيليب الأول بن لويس فيليب الثاني، دوق أورليان بن لويس فيليب الأول، دوق أورليان بن لويس دوق أورليان بن فيليب دي أورلينز ابن فيليب الأول، دوق أورليان ابن الملك لويس الثالث عشر، (6 أكتوبر 1773 - 26 أغسطس 1850م)، كان من أقارب الملك لويس السادس عشر، فهو سليل بيت الاورليانز وهم فرع من بيت آل بوربون تفرّع من الأمير البوربوني: فيليب الأول، دوق أورليان ابن الملك لويس الثالث عشر شقيقِ لويس الرابع عشر . كان لويس فيليب في شبابه متفتحاً للأفكار الجديدة، على غرار عدد من أفراد أسرته. عندما بدأت الثورة انخرط في الجيش الثوري، وأصبح أحد جنرالاته رغم صغر سنه. كان والده يدعى فيليب إيجاليتيه (أي فيليب المساواة)، وكان قد صوت بنفسه لتنفيذ حكم الإعدام على الملك لويس السادس عشر رغم أنه كان مهدد أيضا بالإعدام خلال بضعة أشهر. بعد تنفيذ حكم الإعدام على الملك لويس السادس عشر عام 1793م غادر لويس فيليب الجيش وفر إلى الخارج، حيث تزوج من أميرة من بيت البوربون-صقلية. هي الأميرة ماري أماليا وهي ابنة أخت ماري انطوانيت وعمة الامبراطورة ماري لويس. فأنجبت للملك لويس فيليب ثمانية أبناء. بعد عشرين سنة من التجول بين الولايات المتّحدة وأطراف النرويج الشماليّة، عاد لويس فيليب إلى فرنسا حيث تربع على العرش اثنان من إخوة الملك لويس السادس عشر وهما لويس الثامن عشر وبعده شارل العاشر وكان هذا بين عام 1814م وعام 1830م. في شهر يوليو سنة 1830م اندلعت ثورة جمهورية، لكن الهيئة التشريعية فضلت ان يكون الحكم ملكيًا دستوريًا. وبصفة لويس فيليب دوقًا لأورليانز عُرض عليه العرش. واتخذ لقب (ملك الفرنسيين) بدلا من (ملك فرنسا). في عام 1830م كانت فرنسا ممزقة بين فئات متنافسة متعدّدة: منها التيار الملكيّ (من مؤيدى الملكية القديمة)، ثم أورلياني (من أيد الملكية الجديدة) ثم الجمهورى إضافة إلى بونابارتية (أنصار سلالة نابليون بونابرت). أراد لويس فيليب أن يكون ملكا لكل الفرنسيين، كما وضح ذلك من خلال تشييده لمتحف التاريخ الفرنسي، حيث لم يُتجاهل أى من أبناء الأمة. بقي لويس فيليب في الحكم 18 سنة، من ثورة 1830م إلى ثورة 1848م وقد مثّل هيمنة البرجوازية وتقدمها كما أن حكمه شهد بروزالتكنولوجيات العصريّة، مثل السكة الحديديّة، والباخرة، والتصوير الفوتوغرافى. قاد الملك سياسة أجنبيّة معتدلة؛ باشر مع ذلك استعمار الجزائر، وساند استقلال بلجيكا من هولندا، ووفّق بين فرنسا وإنجلترا الفكتورية. ولكن المجاعة والبطالة والأزمة المالية أوقدت ثورة 1848م فتنازل لويس فيليب عن الحكم، ومات عام 1850م في منفاه في إنجلترا. دخل الأدب والفنون فترة لامعة تحت حكم لويس-فيليب، ولمع في عهده فكتور هوغو، وستاندال، وألكسندر دوما، وإنغرس، وديلاكروا. لم يكن لويس فيليب خبيرًا مسرحيًا وتاريخيًا عظيمًا فقط، بل كان أيضا يقدّر فن التصوير والنحت وخصوصاً الفن المعماري. كانت كل أماكن إقامته مشيدة بشكل رائع. الملك لويس السادس عشر (23 أغسطس 1754 - 21 يناير 1793) ملك فرنسا ونافارا، آخر ملوك فرنسا قبل الثورة الفرنسية، في عهده قامت الثورة الفرنسية وأدت إلى إطاحة الحكم المطلق. تزوج من ماري انطوانيت وهو في عمر الخامسة عشر، والأخيرة تصغره بقرابه العام. وأنجب منها لويس السابع عشر الذي مات صغيرا. ساعد لويس السادس عشر الثورة الأمريكية عام 1776 فأرسل فرقة فرنسية بقيادة لافاييت لمساعدة الثوار الأمريكيين. في عام 1793 م حاول لويس السادس عشر الفرار من فرنسا برفقة زوجته ماري انطوانيت، ولكن أُلقي القبض عليهما وتم إعدامهما عبر المقصلة في باريس. وشقيق كل من الملك لويس الثامن عشر والملك تشارلز العاشر وملكة سردينيا مارى كلوتيلد، وهو ابن لويس دلفين من فرنسا بن الملك لويس الخامس عشر، وزوجته هي الملكة ماري انطوانيت بنت الإمبراطور الرومانى المقدس فرانسيس الأول.من النمسا الطفولة. ولد لويس في أغسطس/ آب في قصر فرساي في فرنسا عام 1754 حيث ورث العرش عن جده لويس الخامس عشر ومنح لقب دوق باري منذ ولادته، وكان الطفل الثالث من بين ثمانية للويس فرديناند وحفيد لويس الخامس عشر ورفيقته ماريا ليسيزنسكا. والدته هي ماري جوزيف من سكوسنيا ابنة فريدريك أغسطس الثاني السكسوني، ملك بولندا. عانى دوق باري في طفولته كثيراً، حيث كان أبواه يفضلانه على أخيه الأكبر لويس، دوق بورغندي، والذي توفي سنة 1761 وكان عمره 10 سنوات، وقد كان لويس السادس عشر غلاماً عليلاً، جباناً خجولاً، ولكنه اكتسب الصحة والعافية بفضل سنوات الحياة الريفية والطعام البسيط. وكان كأبيه فيه من الطيبة أكثر مما فيه من الذكاء. وكان يحسد أخوته على ذكائهم المتفوق، وكانوا يتجاهلون تماماً كبر سنه. وإذ كان فيه من الحياء ما يمنعه من الرد على الهجوم فقد أغرق نفسه في الرياضة والحرف. فتعلم الرماية بمنتهى الدقة، ومنافسة الصناع في استعمال يديه وأدواته. وقد أعجب بمهارات الصناع الذين يخدمون القصر، وأحب التحدث إليهم والعمل معهم، واتخذ شيئاً من طباعهم وحديثهم. ولكنه أحب الكتب أيضاً. واستهواه فنليون بنوع خاص؛ وحين بلغ الثانية عشرة ركب مطبعة في قصر فرساي، وبمساعدة أخويه (وكانا في التاسعة والحادية عشرة) جمع حروف مجلد صغير نشره في 1766 بعنوان "حكم أخلاقية وسياسية مستقاه من تليماك" ولم يحب جده لويس الخامس عشر هذه الحكم وقال "انظر إلى ذلك الولد الكبير، سوف يكون القاضي على فرنسا وعلى نفسه، ولكني على أية حال لن أعيش حتى أرى ذلك". الزواج. وفي 19 نيسان 1770، في كنيسة الأوغسطينيين بفيينا، عقد بالوكالة قران الفتاة المتألقة الحسن، الخلية البال، البالغة أربعة عشر عاماً، على لوي-أوجست ولي عهد فرنسا، واتخذ أخوها فرديناند مكان الدوفن. وبعد يومين قادت قافلة من سبع وخمسين مركبة و366 جواداً ولية العهد مروراً بقصر شونبرون، وودعتها الإمبراطورة الوداع الأخير، هامسة لها أن "تكوني كريمة جداً مع الفرنسيين حتى يستطيعوا القول بأنني أرسلت لهم ملاكاً". وضم الموكب 132 شخصاً-وصيفات ومصصفات للشعر، وخياطات. وأتباعاً، وكهنة للقصر، وجراحين، وصيادلة، وطباخين، وخدماً، وخمسة وثلاثين رجلاً ليعنوا بالخيل التي كانت تبدل أربع مرات أو خمساً في اليوم خلال الرحلة الطويلة إلى فرنسا. وبعد ستة عشر يوماً وصل الموكب إلى كيل على الرين قبالة ستراسبورج. وعلى جزيرة في النهر استبدلت ماريا بثيابها النمساوية ثياباً فرنسية، وتركها أتباعها النمساويين قافلين إلى فيينا، وحل محلهم حاشية من السيدات والخدم الفرنسيين، وأصبحت ماريا أنطونيا منذ الآن ماري أنطوانيت. وبعد الكثير من المراسم أدخلت ستراسبورج بين قصف المدافع ورنين أجراس الكنائس وهتاف الشعب وبكت وابتسمت واحتملت المراسم الطويلة في صبر، فلما بدأ العمدة خطاباً بالألمانية قاطعته قائلة: "لا تتكلموا بالألمانية أيها السادة، فمنذ الآن لا أفهم لغة غير الفرنسية" وبعد أن سمح لها الموكب بالراحة يوماً بدأ رحلته عبر فرنسا. الإعدام. أعدم بالمقصلة بعد أن أقتيد لها وهو في كامل أبهته كملك وزوجته ماري انطوانيت وبكل مظاهر الاحترام وضعوه في عربته المذهبة وداروا به في باريس بين شعبه الذي لم يحسن التعامل معه. وحينما أعدم لويس السادس عشر بالمقصلة ونزل الدم إلى الأرض ركض الحشد نحو دمه ليغمسوا فيه مناديلهم بسبب كرههم له. غاغرا (Gagra) هي مدينة في جمهورية أبخازيا المستقلة. الجَنْدَلُ أو مغليطيا أو ميغاليث أو آثار الصخرية هي صخور أو حجارة ضخمة شُكلت ووضعت على هيئة صروح وأوابد حجرية شهيرة خلفتها الثقافات القديمة، كشواهد حجرية في عدة بلدان. ففي أعقاب آخر عصر جليدي أصبح المناخ في أوروبا دافئا. وأصبح إنسان العصر الحجري ليس بحاجة للترحال حيث وجد كل شيء يحتاجه قرب مسكنه. فبعدما كان صيادا رحالا استقر في موطنه ليزرع أرضه ويربي حيواناته. وكون مجتمعات تغيرت فيها طريقة حياته ومعيشته وعلاقاته. فشعر إنسان العصر الحجري بحاجته لإقامة صروح فوق أمواته في العصر الحجري الحديث. فمن أهم الآثار الحجرية الضخمة في هذا العصر دوائر الحجر. وصروح ستونهنج الحجرية بإنجلترا. والأهرامات كالهرم الأكبر بالجيزة والمكون من 2,3 مليون حجر ضخم. يزن الحجر الواحد ما بين 2,5 و5طن، والمسلات التي قد تزن المسلة الواحدة 400 طن، وقد أقامها قدماء المصريين. ففي كل أنحاء العالم وجدت صروح مقامة من الحجارة الضخمة للبناء. ففي منطقة بعلبك بلبنان يوجد التريليتون الذي يتكون من 3 ألواح حجرية تزن الواحدة 1000طن. وفي موقع ستونهنج (مادة) بإنجلترا توجد صفوف دائرية من الحجارة قد يصل وزن الواحد منها 40 طن. وقد جلبت من محاجر على بعد 40 – 230 كم من الموقع. ومواقع هذه الصروح الحجرية تدل على أهمية الأماكن التي أقيمت فيها في الأزمنة الغابرة، والتقنية التي استخدمت لجلبها من المحاجر وإعدادها للبنيان حسب قواعد مرعية. مراجع. موسوعة حضارة العالم وضعها أحمد محمد عوف شهدت مصر في الفترة ما بين عامي 1805 و 1882 نضالًا طويلًا يتعلق بوضع دستور وطني كمرجع أساسي لنظام الحكم وتحديد السلطات وإقرار الحقوق والواجبات العامة، ظهرت ثماره مع أول مشروع لدستور مصري في عام 1879 والذي لم يحظ بتصديق الخديوي إسماعيل بسبب ملابسات عزله، فلم يكتب له النجاح كوثيقة دستورية على أرض الواقع، وفي عهد خليفته الخديوي توفيق نجحت الحركة الوطنية في عام 1882 في استصدار أول وثيقة دستورية رسمية تحت اسم اللائحة الأساسية، لكن ما لبثت سلطات الاحتلال الإنجليزي أن ألغته، فتواصل النضال الشعبي دون هوادة حتى صدر دستور الدولة المصرية في 19 أبريل 1923 المعروف بـ دستور 1923 وانعقد بموجبه أول برلمان مصري في 15 مارس 1924. ظل دستور 1923 قائمًا إلى أن صدر دستور الدولة المصرية في 22 أكتوبر 1930 المعروف بـ دستور 1930، والذي أُوقف العمل به في 30 نوفمبر 1934، ثم أعيد العمل مرة أخرى بدستور 1923 في 12 ديسمبر 1935 وظل قائمًا إلى أن تم إسقاطه في 10 ديسمبر 1952 بموجب أول إعلان دستوري يصدر عن مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952. عقب ذلك ألغيت الملكية في مصر وأعلن النظام الجمهوري بموجب الإعلان الدستوري الصادر في 18 يونيو 1953. وبعد نهاية الفترة الانتقالية التي أقرها الإعلان الدستوري الصادر في 10 فبراير 1953 أجري استفتاء في 23 يونيو 1956 على دستور الجمهورية المصرية المعروف بـ دستور 1956 وبدأ العمل به اعتبارًا من 25 يونيو 1956. في عام 1958 وعلى إثر قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا صدر الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة المعروف بـ دستور الوحدة أو دستور 1958 المؤقت في دمشق في 5 مارس 1958، وفي القاهرة في 13 مارس 1958، واستمر العمل به لما يزيد على ثلاث سنوات بعد سقوط الوحدة وحتى صدور الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة (بعد الانفصال) المعروف بـ دستور 1964 المؤقت في 25 مارس 1964. في 12 سبتمبر 1971، صدر دستور جمهورية مصر العربية المعروف بـ دستور 1971 بعد إجراء استفتاء عليه في 11 سبتمبر 1971، والذي طرأت عليه لاحقًا عدة تعديلات، الأولى في 1980 والثانية في 2005 والثالثة في 2007. عقب قيام ثورة 25 يناير، تنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم وكلّف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، فأصدر المجلس إعلانًا دستوريًا في 13 فبراير 2011 عطّل بموجبه العمل بدستور 1971 مع تشكيل لجنة لتعديل بعض مواده وطرحها للاستفتاء الذي أجري لاحقًا في 19 مارس 2011، وصدر على إثره إعلانًا دستوريًا في 30 مارس 2011، يتضمن التعديل الرابع على دستور 1971، والذي أُقر بموجبه إدارة المجلس لشؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية ولحين انتخاب رئيس للجمهورية، بجانب انتخاب جمعية تأسيسية من قبل أعضاء مجلسي الشعب والشورى تتولّى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد، على أن يعرض المشروع على الشعب لاستفتائه في شأنه، ويعمل به من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه. مع انتهاء الانتخابات التشريعية لمجلسي الشعب والشورى في يناير وفبراير 2012، دخلت الأطراف السياسية المختلفة في صراع حول كيفية إحداث توازن وإيجاد معايير واضحة لتمثيل الفئات الاجتماعية المختلفة داخل الجمعية التأسيسية للدستور. وفي 25 فبراير 2012، دعا المجلس الأعلى للقوات المسلحة أعضاء مجلسي الشعب والشورى لانتخاب الجمعية التأسيسية الأولى، فانتُخبت الجمعية التأسيسية الأولى في 24 مارس 2011، إلا أنه في 10 أبريل 2012، صدر حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان تشكيلها، فانتخبت الجمعية التأسيسية الثانية في 12 يونيو 2011، والتي أقرت مشروع الدستور في 30 نوفمبر 2012، وسلمته للرئيس محمد مرسي في 1 ديسمبر 2012، دون وجود توافق سياسي ملموس وفي ظل تأييد أطراف سياسية على رأسها جماعة الإخوان المسلمين واعتراضات وانتقادات من جانب أطراف سياسية أخرى على رأسها جبهة الإنقاذ الوطني. وفي يومي 15 و 22 ديسمبر 2012 أُجري الاستفتاء على الدستور، ثم أعلنت نتيجته وصدر دستور جمهورية مصر العربية المعروف بـ دستور 2012 في 25 ديسمبر 2012. بعد قيام مظاهرات 30 يونيو 2013، أعلن وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي عزل الرئيس محمد مرسي في 3 يوليو 2013، وأعلن عن إجراءات بموجب بيان 3 يوليو 2013، على إثرها عُطّل العمل بدستور 2012، وأُعلن عن تشكيل لجنة لمراجعة التعديلات الدستورية على دستور 2012 المُعطل، وتولّى رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلي منصور إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية. عقب ذلك وبموجب الإعلان الدستوري الصادر في 8 يوليو 2013، شُكِلت لجنة الخبراء أو لجنة العشرة في 21 يوليو 2013، والتي أنهت أعمالها في 20 أغسطس 2013، لتشكل لجنة الخمسين في 1 سبتمبر 2013، والتي أقرت المشروع النهائي للتعديلات الدستورية في 1 ديسمبر 2013، وعُرض للاستفتاء في يومي 14 و 15 يناير 2014، ثم أعلنت نتيجة الاستفتاء وصدر دستور جمهورية مصر العربية المعروف بـ دستور 2014 في 18 يناير 2014. بعد عدة سنوات أُجري استفتاء على تعديل الدستور في 20 و 21 و 22 أبريل 2019، أُعلنت نتيجته في 23 أبريل 2019. أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي (30 ق.هـ - 21 هـ / 592 - 642 م) صحابي وقائد عسكري مسلم، لقّبه الرسول بسيف الله المسلول. اشتهر بعبقرية تخطيطه العسكري وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة وفتح العراق والشام، في عهد خليفتي الرسول أبي بكر وعمر في غضون عدة سنوات من عام 632 حتى عام 636. يعد أحد قادة الجيوش القلائل في التاريخ الذين لم يهزموا في معركة طوال حياتهم، فهو لم يهزم في أكثر من مائة معركة أمام قوات متفوقة عدديًا من الإمبراطورية الرومية البيزنطية والإمبراطورية الساسانية الفارسية وحلفائهم، بالإضافة إلى العديد من القبائل العربية الأخرى. اشتهر خالد بانتصاراته الحاسمة في معارك اليمامة وأُلّيس والفراض، وتكتيكاته التي استخدمها في معركتي الولجة واليرموك. لعب خالد بن الوليد دورًا حيويًا في انتصار قريش على قوات المسلمين في غزوة أحد قبل إسلامه، كما شارك ضمن صفوف الأحزاب في غزوة الخندق. ومع ذلك، اعتنق خالد الدين الإسلامي بعد صلح الحديبية، شارك في حملات مختلفة في عهد الرسول، أهمها غزوة مؤتة وفتح مكة. وفي عام 638، وهو في أوج انتصاراته العسكرية، عزله الخليفة عمر بن الخطاب من قيادة الجيوش لأنه خاف أن يفتتن الناس به، فصار خالد بن الوليد في جيش الصحابي أبو عبيدة عامر بن الجراح وأحد مقدميه، ثم انتقل إلى حمص حيث عاش لأقل من أربع سنوات حتى وفاته ودفنه بها. نشأته. وفقًا لعادة أشراف قريش، أرسل خالد إلى الصحراء، ليربّى على يدي مرضعة ويشب صحيحًا في جو الصحراء. وقد عاد لوالديه وهو في سن الخامسة أو السادسة. مرض خالد خلال طفولته مرضًا خفيفًا بالجدري، لكنه ترك بعض الندبات على خده الأيسر. وتعلم خالد الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كان خالد صاحب قوة مفرطة كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرّ والفرّ. واستطاع "خالد" أن يثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله من أفضل فرسان عصره. صفته. كان خالد طويلاً بائن الطول، عظيم الجسم والهامة، يميل إلى البياض، كث اللحية، شديد الشبه بعمر بن الخطاب، حتى أن ضعاف النظر كانوا يخلطون بينهما. خالد في عهد الرسول محمد. قبل إسلامه. لا يعرف الكثير عن خالد خلال فترة الدعوة للإسلام في مكة. وبعد هجرة الرسول من مكة إلى المدينة المنورة، دارت العديد من المعارك بين المسلمين وقريش. لم يخض خالد غزوة بدر أولى المعارك الكبرى بين الفريقين، والتي وقع فيها شقيقه الوليد أسيرًا في أيدي المسلمين. وذهب خالد وشقيقه هشام لفداء الوليد في يثرب، إلا أنه وبعد فترة قصيرة من فدائه، أسلم الوليد وهرب إلى يثرب. كانت غزوة أحد أولى معارك خالد في الصراع بين القوتين، والتي تولى فيها قيادة ميمنة القرشيين. لعب خالد دورًا حيويًا لصالح القرشيين، فقد استطاع تحويل دفة المعركة، بعدما استغل خطأ رماة المسلمين، عندما تركوا جبل الرماة لجمع الغنائم بعد تفوق المسلمين في بداية المعركة. انتهز خالد ذلك الخطأ ليلتف حول جبل الرماة ويهاجم بفرسانه مؤخرة جيش المسلمين، مما جعل الدائرة تدور على المسلمين، وتحوّل هزيمة القرشيين إلى نصر. شارك خالد أيضًا في صفوف الأحزاب في غزوة الخندق، وقد تولى هو وعمرو بن العاص تأمين مؤخرة الجيش في مائتي فارس، خوفًا من أن يتعقبهم المسلمون. كما كان على رأس فرسان قريش الذين أرادوا أن يحولوا بين المسلمين ومكة في غزوة الحديبية. إسلامه. بينما كان المسلمون في مكة لأداء عمرة القضاء في العام السابع الهجري، وفقًا للاتفاق الذي أبرم في صلح الحديبية، أرسل الرسول إلى الوليد بن الوليد، وسأله عن خالد، قائلاً له: «ما مثل خالد يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين كان خيرًا له، ولقدمناه على غيره.» أرسل الوليد إلى خالد برسالة يدعوه فيها للإسلام إدراكاً لما فاته. وافق ذلك الأمر هوى خالد، فعرض على صفوان بن أمية ثم على عكرمة بن أبي جهل الانضمام إليه في رحلته إلى يثرب ليعلن إسلامه، إلا أنهما رفضا ذلك. ثم عرض الأمر على عثمان بن طلحة العبدري، فوافقه إلى ذلك. وبينما هما في طريقهما إلى يثرب، التقيا عمرو بن العاص مهاجرًا ليعلن إسلامه، فدخل ثلاثتهم يثرب في صفر عام 8 هـ معلنين إسلامهم، وحينها قال الرسول: "إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها". فلما وصل المدينة المنورة، قصّ خالد على أبي بكر رؤيا رآها في منامه، كأنه في بلاد ضيقة مجدبة، فخرج إلى بلاد خضراء واسعة، ففسرها له أبو بكر: "مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك". سيف الله المسلول. في عام 8 هـ، وجّه الرسول جيشًا لقتال الغساسنة، بعد أن اعترض شرحبيل بن عمرو الغساني عامل قيصر الروم على البلقاء الحارث بن عمير الأزدي رسول الرسول محمد إلى صاحب بصرى، وقتله. انضم خالد حديث العهد بالإسلام إلى ذلك الجيش ذي الثلاث آلاف مقاتل. اختار النبي زيد بن حارثة لقيادة الجيش، على أن يخلفه جعفر بن أبي طالب إن قتل، ثم عبد الله بن رواحة إن قتل جعفر، وإن قتل الثلاثة يختار المسلمون قائدًا من بينهم. عند وصول الجيش إلى مؤتة، وجد المسلمون أنفسهم أمام جيش من مائتي ألف مقاتل نصفهم من الروم والنصف الآخر من الغساسنة. فوجئ المسلمون بالموقف، وأقاموا لليلتين في معان يتشاورون أمرهم. أشار البعض بأن يرسلوا للرسول ليشرحوا له الموقف، وينتظروا إما المدد أو الأوامر الجديدة. عارض ابن رواحة ذلك، وأقنع المسلمين بالقتال. بدأت المعركة، وواجه المسلمون موقفًا عصيبًا، حيث قتل القادة الثلاثة على التوالي، عندئذ اختار المسلمون خالدًا ليقودهم في المعركة. صمد الجيش بقية اليوم، وفي الليل نقل خالد ميمنة جيشه إلى الميسرة، والميسرة إلى الميمنة، وجعل مقدمته موضع الساقة، والساقة موضع المقدمة. ثم أمر طائفة بأن تثير الغبار ويكثرون الجلبة خلف الجيش حتى الصباح. وفي الصباح، فوجئ جيش الروم والغساسنة بتغيّر الوجوه والأعلام عن تلك التي واجهوها بالأمس، إضافة إلى الجلبة، فظنوا أن مددًا قد جاء للمسلمين. عندئذ أمر بالانسحاب وخشي الروم أن يلاحقوهم، خوفًا من أن يكون الانسحاب مكيدة. وبذلك، نجح خالد في أن يحفظ الجيش من إبادة شاملة. حارب خالد ببسالة في غزوة مؤتة، وكسرت في يده يومئذ تسعة أسياف. وبعد أن عاد إلى يثرب، أثنى عليه الرسول ولقّبه بسيف الله المسلول. وبعد شهور، نقضت قريش أحد شروط الصلح، عندما هاجم بكر بن مناة بن كنانة حلفاء قريش بني خزاعة حلفاء الرسول. عندئذ توجه الرسول في جيش من عشرة آلاف مقاتل إلى مكة، وقسم الجيش إلى أربعة أقسام تولى بنفسه قيادة أحدها وأمّر الزبير بن العوام وسعد بن عبادة وخالد بن الوليد على الثلاثة الأخرى، وأمرهم أن يدخلوا مكة كلٌ من باب. فدخلوها كل من الباب الموكل إليه، ولم يلق أحدهم قتالاً إلا كتيبة خالد، حيث قاتله عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية في جند جمعوه لقتال المسلمين، واستطاع خالد أن يظفر بهم، وقتل منهم عددًا. ثم أرسله الرسول في سرية من ثلاثين فارسًا لهدم العزى صنم جميع بني كنانة، فهدمها ثم رجع إلى الرسول، فأخبره فسأله الرسول إن كان قد رأى شيئًا، فرد بالنفي، فطلب منه الرسول أن يعود لأنه لم يهدمها. فرجع خالد وهو متغيظ فجرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس، فضربها خالد فشقها نصفين ورجع إلى الرسول. فأخبره فقال: "نعم تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا!". وكان موضع العزى ومقر عبادتها في شِعب يعرف بشعب سُقام إلى الشمال الشرقي من مكة اتخذه المشركون حمىً لها. سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة. بعد الفتح، أرسل الرسول السرايا لدعوة القبائل إلى الإسلام، فأرسل خالد بن الوليد قائدًا على 350 من المهاجرين والأنصار وبني سليم في سرية إلى "بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة"، ولم يأمره بقتال. وهنا كانت أول زلاّت خالد حيث قاتلهم، وأصاب منهم، رغم معارضة من كان معه من الصحابة، ومنه سالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر بن الخطاب، فلما وصل الخبر إلى الرسول رفع يديه إلى السماء ثم قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد". وأرسل الرسول عليًا إلى بني جذيمة، لدفع ديّة قتلاهم. ورغم هذا الخطإ، أشركه الرسول بعد ذلك في غزوة حنين، حيث جعله الرسول يومئذ قائدًا على بني سليم، وأصيب يومها إصابات بليغة. كما شارك خالد أيضًا في غزوة تبوك تحت قيادة الرسول، ومن هناك أرسله الرسول في سرية إلى دومة الجندل، فدخلها وأسر صاحبها أكيدر بن عبد الملك الذي صالحه الرسول على الجزية، وهدم صنمهم "وُدّ". في عام 10 هـ، بعث الرسول خالد بن الوليد في شهر ربيع الأول في سرية من أربعمائة مقاتل إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا، فإن استجابوا له يقبل منهم ويقيم فيهم ويعلمهم دينهم، وإن لم يفعلوا يقاتلهم. لبّى بنو الحارث بن كعب النداء وأسلموا، فأقام خالد فيهم يعلمهم الإسلام. ثم كتب خالد إلى الرسول بذلك، فأمره أن يقيم فيهم يعلمهم، ثم ليقبل معه وفدهم، فوفدوا عليه يعلنون إسلامهم. خالد في عهد أبي بكر وعمر. حروب الردّة. بنو أسد وطليحة بن خويلد. بعد وفاة الرسول، انتقضت معظم القبائل العربية عدا أهل مكة والطائف والقبائل المجاورة لمكة والمدينة والطائف على خلافة أبي بكر الخليفة الجديد للمسلمين. اختلفت أسباب الانتقاض، فمنهم من ارتد عن الإسلام، ومنهم من ظل على دين الإسلام مع رفضهم أداء فريضة الزكاة، ومنهم من التف حول مدعي النبوة في القبائل العربية. استغل مانعو الزكاة من قبائل عبس وذبيان وغطفان خروج بعث أسامة بن زيد الذي كان قد أوصى به الرسول قبل وفاته، وحاولوا مهاجمة المدينة. وبعد أن استطاع الخليفة أبو بكر الصديق صد الهجوم، وإرساله من يطارد فلول المنهزمين، عقد أبو بكر أحد عشر لواءً لمحاربة المرتدين ومانعي الزكاة في جميع أرجاء جزيرة العرب. أمّر أبو بكر خالد بن الوليد على أحد تلك الجيوش قوامه 4,000 مقاتل، ووجهه إلى إخضاع طيئ ثم محاربة مدعي النبوة طليحة بن خويلد وقبيلته بني أسد، ثم التوجه لإخضاع بني تميم. إلا أنه وقبل أن يتحرك الجيش، وصل عدي بن حاتم الطائي بأموال زكاة طيء، لتنضم بذلك طيء لجيش خالد. اجتمعت قبائل أسد وفزارة وسليم وفلول عبس وذبيان وبكر حول طليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة. توجه إليهم خالد بجيشه، واشتبك معهم في بُزاخة، وهزمهم وفرّ طليحة إلى الشام. أمر خالد بعد ذلك بمطاردة فلول المنهزمين، ثم أمر بإحراق الأسرى بالنيران ونكّل بهم، وأرسل رؤساءهم مكبّلين بالأصفاد إلى الخليفة لينظر ماذا يفعل بهم، لما ألحقوا بمن بقوا على دينهم من أذى، وليكون ذلك ردعًا لمن سيلقاه بعد ذلك. التفت الفلول حول أم زمل التي كانت لها ثارات عند المسلمين، فقد قتل زيد بن حارثة أمها أم قرفة في سريته إلى بني فزارة، لتحريضها قومها على قتال المسلمين. فقاتلهم خالد في معركة كبيرة في ظفر، وهزمهم وقتل أم زمل. بنو تميم. توجه خالد بعد ذلك بجيشه إلى بني تميم. لم تكن بنو تميم على موقف واحد، فمنهم بطون إيتاء الزكاة وإتباع خليفة رسول الله، ومنهم من رأى عكس ذلك، وبقي فريق ثالث في حيرة من أمرهم. فلما وصل جيش خالد البطاح وهي منزل بنو يربوع، لم يجد بها أحدًا. كان سيدهم مالك بن نويرة ممن كانوا تحيروا في أمرهم، وكان قد أمر قومه بأن يتفرقوا. بثّ خالد السرايا، وأمرهم بأن يأتوه بكل من لم يجب داعية الإسلام، وإن امتنع أن يقتلوه. وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا إذا نزلوا منزلاً، فإن أذن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاقتلوا، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم. عندئذ، جاءه الجند بمالك بن نويرة في جماعة من قومه، اختلفت السرية فيهم، فشهد أبو قتادة الأنصاري أنهم أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذنوا ولم يصلوا. تم أسر مالك ابن النويرة وجيئ به إلى خالد، أمر خالد بقتل ابن نويرة، واختلف الرواة في سبب قتل خالد مالكًا، فمنهم من قال أن الأسرى قتلوا لأن الليلة كانت باردة، وقد أمر خالد بأن يدفئوا الأسرى، وكانت تعني في لغة كنانة القتل، فقتلهم الحراس. ومنهم من قال أنه دارت بين خالد ومالك حوارًا استنتج منه خالد أن مالكًا ينكر الزكاة، بعدما قال الأخير: "أنا آتي بالصلاة دون الزكاة"، ليرد خالد ويقول: "أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً؟ لا تُقبل واحدة دون الأخرى؟"، فقال له ابن النويرة: "قد كان صاحبكم يقول ذلك" ولم يقل نبي الله أو رسول الله، فرد عليه خالد: "أوما تراه صاحباً لك! والله لقد هممت أن أضرب عنقك بهذه الكلمة"، فقال ابن النويرة: "أوبذلك أمرك صاحبك؟" ليتضح لخالد بأن مالك ابن النويرة مرتد فعلاً، وذلك بتحذيره عدة مرات قبل أن يقوم بقتله بأن يدفع الزكاة وبأن لا يسمي النبي بهذه الصيغة التي تبين ردته عن الإسلام، إلى أن مالك أبى بكلا الأمرين، فقتله ضرار ابن الأزور بأمر من خالد. وفي نفس ليلة مقتل مالك، تزوج من أم تميم ليلى بنت المنهال زوجة مالك على أنها سبية، والسبي كان من الأمور المتعارف عليها في الحروب عند المسلمين والكفار، وهذا الزواج أنكره العديد من الصحابة، حتى أن أبو قتادة ترك الجيش وعاد إلى المدينة بسبب خلاف مع خالد ، مقسمًا ألا يجمعه لواء مع خالد بن الوليد. استنكر الصحابة في المدينة فعل خالد، وأرسل أبو بكر في طلب خالد. كان عمر بن الخطاب ممن أغضبه فعل خالد، حتى أنه طلب من الخليفة أن يعزل هذا الأخير، إلا أن أبا بكر رفض ذلك، قائلاً: "ما كنت لأشيم سيفًا سلّه الله على الكافرين". عنّف أبو بكر خالدًا على فعله، ثم صرفه إلى جيشه، وودي مالكًا وردّ سبي بني يربوع. مسيلمة الكذاب. ادعى مسيلمة بن حبيب النبوة، واستطاع أن يجمع حوله أربعين ألفًا من قومه بني حنيفة وغيرهم، ممن أقروا بنبوته. وكان في شهادة "الرجَّال بن عنفوة" الذي كان الرسول قد بعثه مع وفد بني حنيفة، حين وفدوا عليه ليعلنوا إسلامهم في عام الوفود ليعلمهم الدين، بأن محمدًا قد أشركه في النبوة، أكبر الدعم له في إدعائه، مما زاد من خطورة فتنته على المسلمين. لذا، فقد وجّه له أبو بكر لواءً بقيادة عكرمة بن أبي جهل، ثم أردفه بلواء آخر بقيادة شرحبيل بن حسنة. تسرّع عكرمة في قراره بمواجهة جيش مسيلمة وحده قبل أن يدركه جيش شرحبيل بن حسنة، مما عرّضه لهزيمة نكراء. حين وصل شرحبيل بجيشه، أدرك صعوبة الموقف، لذا أرسل للخليفة ليُعلمه بما كان. حينئذ، كان خالد قد فرغ من أمر بني تميم، فأمره أبو بكر بالتوجه من البطاح إلى اليمامة، لقتال مسيلمة الكذاب متنبي بني حنيفة. حين وصل خالد بجيشه إلى ثنية اليمامة، أدرك جيشه سرية من بني حنيفة، فأمر بقتلهم واستبقى رئيسهم مجاعة بن مرارة، لعله يخلُص منه بما ينفعه، وقيّده بالحديد في خيمته، وجعل على حراسته زوجته أم تميم. نزل مسيلمة بجيشه في عقرباء على أطراف اليمامة. ثم التقى الجمعان، وكانت الغلبة في البداية لبني حنيفة، فتراجع المسلمون حتى دخلوا فسطاط خالد، وكادوا أن يبطشوا بأم تميم لولا أن أجارها مجاعة بن مرارة، لما وجد منها من حسن معاملة. حينئذ، ثارت الحمية في قلوب المسلمين، فأظهر المهاجرون والأنصار بطولاتٍ قلبت دفة المعركة لصالحهم، فتقهقرت بنو حنيفة يحتمون بحديقة مسوّرة منيعة الجدران تسمى بـ "حديقة الرحمن". أدرك المسلمون أنهم إن لم يسرعوا بالظفر بهم، فقد يطول الحصار، فطلب البراء بن مالك من رفقائه أن يحملوه ليتسوّر الحديقة وتبعه بعض زملائه، واستطاعوا فتح باب الحديقة، وأعمل المسلمون القتل في بني حنيفة، وقتل وحشي بن حرب مسيلمة، مما فتّ في عضد بني حنيفة. ومن يومها، أصبحت الحديقة تسمى "بحديقة الموت". بعد أن انتهت المعركة تحرك خالد بجيشه، ليفتح حصون اليمامة، وكان خالد قد وثق بمجاعة لإجارته لأم تميم. وكان مجاعة قد أرسل للحصون التي لم يكن بها سوى النساء والأطفال والشيوخ ومن لا يستطيعون القتال بأن يلبسوا الدروع. أقنع مجاعة خالدًا بأن الحصون مملوءة بالرجال، ونظر خالد فوجد جيشه قد أنهكته الحروب، وقتل منه الكثير حتى أنه قُدر قتلى المسلمون يوم اليمامة بمائتين وألف منهم 360 من المهاجرين والأنصار، لذا رأى خالد أن يصالحهم على أن يحتفظ المسلمون بنصف السبي والغنائم. عندئذ طلب منه مجاعة أن يذهب ليعرض على قومه الأمر، ثم عاد زاعمًا بأنهم لم يقبلوا العرض، فخفّضه خالد إلى الربع. وحين دخل المسلمون الحصون، لم يجد المسلمون سوى النساء والأطفال والعجزة، غضب خالد لخداعه، إلا أنه وجدها شجاعة من مجاعة، استطاع بها أن يحفظ بها من بقي من قومه، فأجاز الصلح. بعد أن تم لخالد النصر، طلب من مجاعة أن يزوجه ابنته، فلبّى مجاعة طلبه. تسبب ذلك في إثارة غضب الخليفة وكبار الصحابة، لأنه لم يختر الوقت المناسب لذلك، فقد كانت المدينة في حالة حزن على فقدانهم لألف ومائتي شهيد بينهم 39 من حفظة القرآن الكريم، وهو ما استدعى جمعهم للقرآن. أرسل أبو بكر لخالد فعنّفه أشد مما عنفه يوم زواجه من أم تميم، فتألم خالد لغضب أبي بكر. بعد اليمامة، انتهت مهمة خالد في حروب الردة، فاتخذ له بيتًا في أحد أودية اليمامة عاش فيه مع زوجتيه. دوره في فتح العراق. مع انتهاء حروب الردة، بلغ أبا بكر أن المثنى بن حارثة الشيباني ورجال من قومه أغاروا على تخوم فارس حتى بلغ مصب دجلة والفرات، فسأل عنه فأثنى عليه الصحابة. ولم يلبث أن أقبل المثنى على المدينة، طالبًا منه أن يستعمله على من أسلم من قومه، فأقر له أبو بكر بذلك. رأى أبو بكر بأن يمدّ المثنى بمدد ليتابع غزواته، لذا أمر خالد بأن يجمع جنده في اليمامة، وألا يستكره أحدًا منهم، ويتوجه إلى العراق. كما أمر عياض بن غنم بأن يتوجه إلى دومة الجندل ليخضع أهلها، ثم يتوجه إلى الحيرة، وأيهما بلغ الحيرة أولاً تكون له القيادة. وجد خالد أن جيشه قد قلّ عدده، فطلب المدد من الخليفة، فأمدّه بالقعقاع بن عمرو التميمي. تعجّب الناس من هذا المدد، فقال لهم أبو بكر: "لا يُهزم جيش فيه مثل هذا". أدرك خالد المثنى قبل أن يصل إليه عياض بعشرة الآف مقاتل، لينضم إليه ثمانية الآف مقاتل هم جند المثنى. كانت أول معارك خالد في العراق أمام جيش فارسي بقيادة "هرمز" في معركة ذات السلاسل. في بداية المعركة، طالب هرمز أن يبارز خالد، وكان قد دبّر مكيدة بأن يتكاتل عليه جنده فيقتلوه، فيفتّ ذلك في عضد المسلمين فينهزموا. لم يعط هرمز خالد قدره، فقد قتله خالد قبل أن تكتمل المكيدة، وأدرك القعقاع جند الفرس قبل أن يغدروا بخالد، ليثبت بذلك للمسلمين صحة وجهة نظر الخليفة فيه. بعد ذلك، شدّ المسلمون على الفرس وهزموهم، وأمر خالد المثنى بمطاردة الفلول. استمر المثنى يطارد الفلول، إلى أن ترامى إلى أذنه زحف جيش آخر بقيادة "قارن بن قريانس"، فأرسل إلى خالد، فلحقه خالد بالجيش، والتحم الجيشان وللمرة الثانية يهزم جيش خالد جيشًا فارسيًا ويقتل قادته في معركة عرفت بمعركة المذار. أدرك الفرس صعوبة موقفهم، فقرروا أن يستعينوا بأوليائهم من العرب من بني بكر بن وائل، والتقى الجيشان في معركة الولجة والتي استخدم فيها خالد نسخة مطورة من تكتيك الكماشة، حيث استخدم مجموعتين من الجند ليكمنوا للفرس. استثارت الهزيمة غضب الفرس وأولياءهم من العرب، فاجتمعوا في أُلّيس بجيش عظيم، واشتبك معهم جيش المسلمين في معركة عظيمة تأرجحت وطالت بين الفريقين، فتوجه خالد بالدعاء إلى ربه، ونذر أن يجري النهر بدماء أعدائه إن انتصر المسلمون. في النهاية، انتصر المسلمون وفر الفرس والعرب، وأمر خالد بأسرهم، ليبرّ بنذره. ثم أمر بحبس النهر، وضرب رقاب الأسرى ثم أجرى النهر فتحوّل دمًا. كانت الخطوة التالية لتأمين النصر هي فتح الحيرة عاصمة العراق العربي، فتوجه بجيشه إليها وحاصرها، ولما لم يجدوا مهربًا قبلوا بأن يؤدوا الجزية. وبعد أن أراح جيشه، سار خالد على تعبئته إلى الأنبار وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، فحاصرها وقد تحصن أهل الأنبار وخندقوا حولهم، فطاف خالد بالخندق بحثًا عن أضيق مكان فيه، ثم أمر بنحر ضعاف الإبل وإلقائها في ذلك الموضع، وعبر عليها جيشه ففتح بذلك الحصن. اتجه خالد بعد ذلك إلى عين التمر، حيث واجه جيشًا من الفرس والعرب من قبائل بني النمر بن قاسط وتغلب وإياد بقيادة "عقة بن أبي عقة" في معركة عين التمر وانتصر عليهم، وبذلك أصبح معظم العراق العربي تحت سيطرة المسلمين. كان عياض بن غنم ما زال في حربه في دومة الجندل منذ بعثه الخليفة لقتالهم، حيث طال حصاره لعام ولم يظفر بهم. يأس الخليفة من الموقف، فأمده بالوليد بن عقبة، وحين وصل إليه الوليد أيقن صعوبة موقف عياض، فأشار عليه بأن يرسل إلى خالد بن الوليد يستنصره. لم يتردد عياض فأرسل لخالد، وكان قد همّ بالرحيل عن عين التمر. لذا، فقد توجه خالد إليه بجيشه، فجعل دومة بينه وبين جند عياض، ونجح في افتضاض الحصن في معركة دومة الجندل. انتهز أهل العراق فرصة غياب خالد، فثاروا على الحاميات الإسلامية، ووصل الخبر لخالد في دومة الجندل، فلم يطق البقاء وعاد واستطاع اخضاعهم مرة أخرى في معارك المصّيخ والثني والزميل. واصل خالد زحفه شمالاً حتى بلغ الفراض، وهي موقع على تخوم العراق والشام، وأقام فيها شهرًا لا يفصله عن الروم سوى مجرى الفرات. أرسل قائد الروم لخالد يطالبه بالاستسلام، إلا أن خالد قال له أنه ينتظره في أرض المعركة. ثم بعث إليه الروم يخيرونه إما أن يعبر إليهم أو يعبروا إليه، فطالبهم بالعبور. استغل خالد عبور الروم إليه، وحاصرهم بجناحيه مستغلاً وجود النهر خلفهم، وهزمهم هزيمة ساحقة. كانت معركة الفراض آخر معارك خالد بن الوليد في العراق. أمر خالد جيشه بالعودة إلى الحيرة، وقرر أن يؤدي فريضة الحج في سرّية تامة دون حتى أن يستأذن الخليفة. وبعد أن أتم حجه علم الخليفة فلامه ونهاه عن تكرار فعله مرة أخرى. دوره في فتح الشام. بعد أن افتتح المسلمون دومة الجندل، أصبح الطريق ممهدًا للتحرك لغزو الشام. أرسل خالد بن سعيد قائد المسلمين على تخوم الشام إلى أبي بكر يستأذنه في منازلة الروم. وبعد أن استشار أبو بكر أهل الرأي، شجّعته انتصارات المسلمين في العراق على الإقدام على خطوة مشابهة في الشام، فأذن لخالد بن سعيد. لم يحالف الحظ جيش خالد بن سعيد بعد أن نجح الروم في استدراجه وهزموا جيشه، وفر في كتيبة من جنده بعد مقتل ابنه، تاركًا عكرمة يتقهقر بالجيش. لم يُضعف ذلك من عزم الخليفة، فوجّه أربعة جيوش دفعة واحدة إلى الشام، بقيادة أبي عبيدة الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ووجه كل منهم لوجهة مختلفة، إلا أن الروم جيّشوا لهم في كل موضع جيوشًا تفوقهم عددًا. وجد القادة أنهم إن قاتلوا منفردين فسيهزمون لا محالة، لذا أرسل أبو عبيدة إلى أبي بكر يطلب المدد. ضاق أبو بكر بالموقف، فقرر أن يرسل إلى خالد بن الوليد يأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة الشيباني في نصف الجند، ويسير بالنصف الآخر إلى الشام ليمدّ جيوش المسلمين. ضاق خالد بالأمر، إذ كان يرجو أن يظل بالعراق حتى يفتح المدائن، إلا أنه امتثل للأمر. كان أمام خالد طريقان للوصول لقوات المسلمين في الشام، الأول عبر دومة الجندل، والثاني يمر بالرقة. ولما كانت حاجة قوات المسلمين في الشام ملحّة لمدده، تجنب خالد طريق دومة الجندل لطوله، وقد استغرق أسابيع للوصول إلى الشام. كما قرر أن يتجنب الطريق الآخر لأنه سيمر على الحاميات الرومانية في شمال الشام. اختيار خالد طريقًا وعرًا لكنه أقصر عبر بادية الشام. اتخذ خالد من "رافع بن عميرة الطائي" دليلاً له حيث نصحهم بالاستكثار من الماء، لأنهم سيسيرون لخمس ليال دون أن يردوا بئرًا. استخدم خالد بطون الإبل لتخزين الماء لشرب الجياد، وبذلك نجح خالد في اجتياز بادية الشام في أقصر وقت ممكن. ثم أخضع الغساسنة بعد أن قاتلهم في مرج راهط، ومنها انحدر إلى بصرى ففتحها. وعندئذ جاءته الأنباء بأن جيشًا روميّا قد احتشد في أجنادين، فأمر خالد جيشه بالتوجه إلى أجنادين، وراسل قادة الجيوش الأخرى بموافاته في أجنادين. ولما تم اجتماعهم هناك، جعل أبو عبيدة بن الجراح على المشاة في القلب، ومعاذ بن جبل على الميمنة، سعيد بن عامر بن جذيم القرشي على الميسرة، وسعيد بن زيد على الخيل. بدأت المعركة بمهاجمة ميسرة الروم لميمنة المسلمين، ولكن معاذ بن جبل ورجاله صمدوا أمام الهجوم، ثم شنت ميمنة الروم هجومًا على ميسرة المسلمين، فثبتوا كذلك. عند ذلك أمر قائد الروم برمي الأسهم، عندئذ بدأ هجوم المسلمين، واستبسلوا ففر الروم منهزمين. ثم بلغ خالدا أن الروم قد حشدوا جيشًا آخر يشرف على 240 ألف جندي في اليرموك، فتوجهت جيوش المسلمين إليهم. وأظهر خالد أحد تكتيكاته الجديدة، فقسم جيشه فرقًا كل منها ألف رجل، وجعل على ميمنته عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وعلى القلب أبا عبيدة، وجعل على رأس كل فرقة بطلاً من أبطال المسلمين أمثال القعقاع وعكرمة وصفوان بن أمية. ثم رسم خالد خطة لاستدراج الروم بعيدًا عن مواقعهم التي حفروا أمامها الخنادق فكلف عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو التميمي الهجوم بفرقتيهما فجرًا حتى يبلغا خنادق الروم وبعد ذلك يتظاهران بالانهزام ويتقهقران. ونفذ القائدان المهمة بنجاح، فلما رآهم الروم يتراجعون، هاجموهم . وأظهر المسلمون بسالة في القتال الذي استمر إلى الغروب. وأخيرًا تمكن المسلمون من الفصل بين فرسان الروم ومشاتهم، فأمر خالد بمحاصرة الفرسان. فلما ضاق فرسان الروم بالقتال وأصابهم التعب، فتح المسلمون أمامهم ثغرة أغرتهم بالخروج منها طالبين النجاة، تاركين المشاة لمصيرهم. اقتحم المسلمون عليهم الخنادق، وقتلوا منهم ألوفا. كان انتصار اليرموك بداية نهاية سيطرة الروم على الشام. تفرقت الجيوش بعد ذلك، فتوجه كلٌ إلى وجهته التي كان أبو بكر قد وجهه إليها، فتوجه خالد مع أبي عبيدة إلى دمشق ففتحوها بعد حاصروها وصالحوا أهلها على الجزية. وبينما هم هناك إذ أقبل رسول يحمل خبر وفاة أبي بكر وتولي عمر بن الخطاب الخلافة، ومعه كتاب إلى أبي عبيدة يولّيه إمارة الجيش ويعزل خالدا، إلا أنه ظل تحت قيادة أبي عبيدة، كأحد قادته. وبعد أن إطمأن أبو عبيدة إلى مقام المسلمين، تقدم بقواته ومعه خالد إلى فحل، وقد كان قد أرسل بعض جنده لحصارها خلال محاصرته لدمشق، فهزم حاميتها ومن لجأ إليهم من جند الروم الفارين من أجنادين، وقد أظهر خالد بن الوليد وضرار بن الأزور يوم فحل بطولات ذكرها لهم المؤرخون. كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة يأمره بفتح حمص. انتهز هرقل قيصر الروم انشغال المسلمين في فحل، فأرسل جيشًا بقيادة توذر (تيودوروس) لاستعادة دمشق. وبينما كان جيش المسلمين في طريقهم إلى حمص، التقى الجيش البيزنطي في منتصف الطريق في مرج الروم. خلال الليل، أرسل توذر نصف جيشه إلى دمشق لشن هجوم مفاجئ على حامية المسلمين. وفي الصباح، وجد المسلمون أن جيش الروم قد قلّ عدده، فتوقع خالد أن يكون الروم قد وجهوا جزءاً من جيشهم لمهاجمة دمشق. استأذن خالد أبا عبيدة، وانطلق في فرقة من الفرسان ليدرك جيش الروم المتوجّه لدمشق. استطاع خالد أن يهزم هذا الجيش الرومي بعدما حُصر الروم بين قوات خالد وحامية المدينة. عاد خالد لينضم لقوات أبي عبيدة، وحاصر معه حمص إلى أن سلّم أهلها طالبين الصلح، فصالحهم أبو عبيدة على شروط وخراج صلح دمشق، ثم سلمت حماة واللاذقية وعلى نفس الشروط. واجه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة صعوبات في مواجهة الروم في فلسطين وجنوب الشام، لذا أرسلا إلى عمر فأمر أبا عبيدة وخالد بالتوجه إليهم للدعم، واستطاعت قوات المسلمين تطهير البلاد ثم توجهوا إلى القدس آخر المعاقل البيزنطية في جنوب الشام، التي فرّ إليها العديد من الناجين من معركة اليرموك، وحاصروها. لم تقبل المدينة بالتسليم، إلا للخليفة شخصيًا. بعد القدس، توجه جيش أبو عبيدة وخالد، لاستكمال فتح شمال الشام. وجه أبو عبيدة خالد إلى قنسرين المدينة منيعة الحصون، فوجد بها جيشًا روميًا عظيمًا، فقاتلهم خالد وهزمهم في معركة قنسرين، وفرّت الفلول لتتحصن بالمدينة طالبين الصلح كصلح حمص، إلا أن خالد رفض ورأى أن يعاقبهم لمقاومتهم للمسلمين. لحق جيش أبوعبيدة بن الجراح بقوات خالد بن الوليد في قنسرين بعد فتحها ليتابعا زحفهما إلى حلب، حيث استطاعا فتحها. كان الهدف التالي للمسلمين أنطاكية عاصمة الجزء الآسيوي من الإمبراطورية البيزنطية. وقبل أن يسيروا إليها، قرر أبو عبيدة وخالد عزل المدينة عن الأناضول، بالاستيلاء على جميع القلاع التي قد توفر الدعم الاستراتيجي إلى أنطاكية، وأهمها أعزاز في الشمال الشرقي من أنطاكية. وقد خاض الروم المدافعون عن أنطاكية معركة يائسة مع جيش المسلمين خارج المدينة بالقرب من نهر العاصي، لكنها انتهت بهزيمتهم، وتراجعهم إلى أنطاكية، فحاصرها المسلمون. فقد الروم الأمل في وصول المدد من الإمبراطور، فاستسلمت أنطاكية على أن يُسمح لجند الروم بالمرور إلى القسطنطينية بأمان. وجّه أبو عبيدة خالد شمالاً، بينما توجّه جنوبًا وفتح اللاذقية وجبلة وطرطوس والمناطق الساحلية الغربية من سلسلة جبال لبنان الشرقية. استولى خالد على الأراضي حتى "نهر كيزيل" في الأناضول. قبل وصول المسلمين إلى أنطاكية، كان الإمبراطور هرقل قد غادرها إلى الرها، لترتيب الدفاعات اللازمة في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا، ثم غادرها متوجها إلى عاصمته القسطنطينية. وفي طريقه إلى القسطنطينية، نجا بصعوبة من قبضة خالد الذي كان في طريقه منصرفًا من حصار مرعش إلى منبج. بعد الهزائم الساحقة المتتالية لقوات هرقل في تلك المعارك، أصبحت فُرصُه لتصحيح أوضاعه قليلة، بعدما أصبحت موارده العسكرية المتبقية ضعيفة، لذا لجأ إلى طلب مساعدة من المسيحيين العرب من بلاد ما بين النهرين الذين حشدوا جيشًا كبيرًا توجهوا به نحو حمص، قاعدة أبو عبيدة في شمال الشام، وأرسل إليهم جندًا عبر البحر من الإسكندرية. أمر أبو عبيدة كل قواته في شمال الشام بموافاته في حمص، بعدما حاصرتها القبائل العربية المسيحية. فضّل خالد خوض معركة مفتوحة خارج المدينة، إلا أن أبا عبيدة أرسل إلى عمر يطلب رأيه. بعث عمر إلى سعد بن أبي وقاص بأن يسيّر جندًا لغزو منازل تلك القبائل العربية المسيحية في بلادها، وأن يبعث القعقاع بن عمرو في أربعة آلاف فارس مددًا لأبي عبيدة. بل وسار عمر بنفسه من المدينة على رأس ألف جندي. دوت تلك الأنباء في العراق والشام، فرأت تلك القبائل أن تسرع بالرجوع إلى منازلها، تاركين جند الروم في مواجهة مصيرهم أمام قوات المسلمين الذين هزموا تلك القوات هزيمة نكراء، قبل أن تصل قوات المدد من العراق أو المدينة. ثم أرسل أبو عبيدة خالد في قوة لمهاجمة القبائل من الخلف، وكانت تلك آخر محاولات هرقل لإستعادة الشام. بعد تلك المعركة، أمر عمر باستكمال غزو بلاد ما بين النهرين. فبعث أبو عبيدة خالد وبعث سعد عياض بن غنم لغزو شمال بلاد ما بين النهرين. ففتحا الرها وديار بكر وملطية ثم اجتاحا أرمينية حتى بلغ خالد آمد والرها، وهو يفتح البلاد ويستفئ الغنائم، ثم عاد إلى قنسرين وقد اجتمع له من الفئ شيء عظيم. اختلفت روايات المؤرخين حول ترتيب وقائع فتح الشام، فمثلاً روى الطبري أن معركة اليرموك كانت المعركة التالية لفتح بصرى، أما البلاذري فقد روى أنها كانت آخر معارك فتح الشام، وأنها تمت في عهد عمر بن الخطاب. العزل. تحدث الناس بفعال خالد في أرمينية، وتحدثوا بانتصاراته في الشام والعراق، فتغنّى الشعراء بفعاله، فوهبهم خالد من ماله وأغدق عليهم، وكان ممن وهبهم خالد الأشعث بن قيس الذي وهبه خالد عشرة الآف درهم. بلغ عمر في المدينة خبر جائزة خالد للأشعث، فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يستقدم خالد مقيدًا بعمامته، حتى يعلم أأجاز الأشعث من ماله أم من مال المسلمين، فإن زعم أنها من مال المسلمين، فتلك خيانة للأمانة. وإن زعم أنها من ماله، فقد أسرف، وفي كلتا الحالتين يُعزل خالد من قيادته للجيوش. تحيّر أبو عبيدة، فترك تنفيذ تلك المهمة لبلال بن رباح رسول الخليفة بالكتاب. أرسل أبو عبيدة يستدعي خالد من قنسرين، ثم جمع الناس وسأل بلال خالدًا عما إذا كانت جائزته للأشعث من ماله أم من مال المسلمين؟. فأجاب خالد أنها من ماله الخاص، فأعلنت براءته. فاجأ أبو عبيدة خالدًا بأن الخليفة قد عزله، وأنه مأمور بالتوجه للمدينة. ذهب خالد للمدينة المنورة للقاء عمر، محتجًا على ما اعتبره ظلمًا، إلا أن عمر أصر على قراره. كثر اللغط في الأمصار حول عزل عمر لخالد، فأذاع في الأمصار: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثلا: فأغرمه شيئا، ثم عوضه، وكتب فيه إِلى الناس بهذا الكتاب ليعذره عندهم وليبصرهم. وكانت تلك هي نهاية مسيرة خالد العسكرية الناجحة. وفاته وضريحه. هناك إجماع على أن خالد توفي عام 21 هـ / 642 م، إلا أنه هناك خلاف على مكان وفاته. فقد ذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة قولين في وفاته، قول بأنه توفي بحمص وآخر أن وفاته في المدينة وأن عمر بن الخطاب حضر جنازته، بينما ذهب أبي زرعة الدمشقي في تاريخه أن وفاته في المدينة، أما ابن عساكر فنقل في كتابه تاريخ دمشق الكبير عدة روايات ترجح وفاته بحمص، واستأنس بقول أبي زرعة الدمشقي في وفاته بالمدينة، ونقل ابن كثير في البداية والنهاية قول الواقدي ومحمد بن سعد بأنه مات بقرية تبعد نحو ميل عن حمص، وكذلك نقل الرأي الآخر في وفاته بالمدينة، ولكنه رجح موته بحمص، كذلك أيّد الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء رأى ابن كثير بترجيح وفاته بحمص. ولخالد بن الوليد جامع كبير في حمص، يزعم البعض أن قبره في الجامع. روي أن خالد قال على فراش موته: حزن المسلمون لموت خالد أشد الحزن، وكان الخليفة عمر من أشدهم حزنًا، حتى أنه مر بنسوة من بني مخزوم يبكينه، فقيل له: ألا تنهاهن؟. فقال: ملامح من شخصيته. عسكريًا. خاض خالد نحو مائة معركة، سواء من المعارك الكبرى أو المناوشات الطفيفة، خلال مسيرته العسكرية، دون أن يهزم، مما جعل منه واحدًا من خيرة القادة عبر التاريخ. ينسب إلى خالد العديد من التكتيكات الناجحة التي استخدمها المسلمون في معاركهم الكبرى خلال الفتوحات الإسلامية. اعتمد خالد في معاركه على مهاجمة قادة أعدائه مباشرةً، لتوجيه ضربات نفسية لمعنويات أعدائه وجعل صفوفهم تضطرب. كما اعتمد في بعض معاركه على تكتيك الحرب النفسية، مثلما فعل يوم مؤتة عندما أوهم الروم بأن المدد متواصل إليه. كما كان من انجازاته استخدام أسلوب المناوشات بوحدات صغيرة من الجند في المعارك، لاستنفاد طاقة أعدائه، ومن ثم شن هجمات بفرسانه على الأجنحة، مثلما فعل في معركة الولجة التي استخدم فيها نسخة غير مألوفة من تكتيك الكماشة، حيث كان عادةً ما يركّز على إبادة قوات أعدائه، بدلاً من تحقيق الانتصارات العادية. استخدم خالد التضاريس متى أمكنه ذلك لضمان التفوق الاستراتيجي على أعدائه. فخلال معاركه في العراق، تعمّد في البداية أن يبقى دائمًا قريبًا من الصحراء العربية، حتى يكون من السهل على قواته الانسحاب في حالة الهزيمة، وهم أدرى الناس بالصحراء. إلا أنه بعد أن دمّر القوات الفارسية وحلفاءها توغّل في عمق الحيرة. كما استغل اتخاذ الروم لمعسكرهم المنحصر من ثلاث جهات بالمرتفعات في اليرموك، لينفذ استراتيجيته ويبيد الروم. كما برع خالد في استخدام تكتيك الهجوم المفاجئ، والذي شتّت به قوات أعدائه في جنح الليل في معارك المصّيخ والثني والزميل. كما اعتمد خالد في بعض الأحيان على الفكر غير التقليدي، مثلما فعل عندما اجتاز بادية الشام حين كان متجهًا إلى الشام مددًا لجيوش المسلمين، فقطع بذلك طريق الإمدادات على قوات الروم في أجنادين قبل مواجهتها لجيوش المسلمين. اعتمد خالد أيضًا في تكتيكاته على الفرسان، الذين استخدمهم لتنفيذ أساليب الكر والفر لتطبيق خططه الحربية، فهاجم بهم تارةً الأجنحة وتارةً قلب جيوش أعدائه ملحقًا بهم هزائم كارثية. من أسرار تفوقه العسكري أيضًا، اعتماده على استخدام العيون من السكان المحليين في المناطق التي حارب فيها، ليأتوه بأخبار أعدائه. الانتقادات. تعرض خالد للعديد من الانتقادات منذ أسلم، بدءاً من سريته إلى بني جذيمة ليدعوهم إلى الإسلام، والتي لم يبعثه الرسول فيها مقاتلاً، فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلاً، من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فلما وصل إليهم وجدهم يحملون السلاح. فسألهم عن الإسلام، فقالوا أنهم أسلموا، وسألهم ما بالهم يحملون السلاح، فقالوا أن بينهم وبين قوم من العرب عداوة، فخافوا أن يكون جند المسلمين هم هؤلاء القوم، فارتاب منهم خالدًا وقد كان بنو جذيمة أهل غارات حتى أنهم عُرفوا "بلعقة الدم"، وكان من قتلاهم في الجاهلية الفاكه بن المغيرة عم خالد، وعوف بن عبد عوف أبو عبد الرحمن بن عوف، فأمرهم بوضع السلاح، فوضعوه. ثم قال لهم استأسروا، فاستأسروا، ثم نادى خالد بضرب أعناقهم، فلبّى بنو سليم، بينما رفض المهاجرون والأنصار الأمر، وشكوه إلى الرسول، بل واتهمه عبد الرحمن بن عوف بأن قتلهم بثأر عمه الفاكه. حين بلغ الرسول ما فعل خالد، غضب غضبًا شديدًا لفعل خالد، ورفع يديه داعيًا إلى الله قائلاً: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، وبعث عليا ليودي لهم قتلاهم. ثاني الانتقادات التي وجهت لخالد، كانت يوم قتل مالك بن نويرة في حروب الردة، وإن كانت الروايات قد اختلفت في سبب مقتله، فذكر الطبري في تاريخه أن مقتله كان لخطأ في الفهم ممن تولّوا حراستهم من بني كنانة، وأن مالك أُسر هو ورجال من قومه من بني يربوع في ليلة باردة، فأشفق عليهم خالد، فنادى: "دفئوا أسراكم". وكانت تعني في لغة كنانة القتل، فظنوا أن خالد يعني قتلهم فقتلوهم. بينما ذهب ابن كثير في البداية والنهاية وأبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني إلى أن خالدًا دعا إليه مالكًا ليناظره ليرى أهو على دين الإسلام أم أنه ارتد ومنع الزكاة، وفيما هما يتناظران راجع مالك خالدًا، فقال: "ما أخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا". قال خالد: "أو ما تعدّه لك صاحبًا؟"، ثم أمر بقتله. وقد روى ابن خلكان أن مالك قال أنه يأتي الصلاة دون الزكاة، وهو ما رفضه خالد قائلاً أنهما معًا لا تقبل واحدة دون أخرى. بل وغالى اليعقوبي في تاريخه أنه قتل مالك ليتزوج من امرأته أم تميم. أثارت تلك الحادثة ثورة من اللغط في المدينة، بعدما ذهب إليها أبو قتادة الأنصاري ومتمم بن نويرة أخو مالك، ليشكيا خالد للخليفة أبي بكر. احتج أبو قتادة الذي كان من رؤساء الجند الذين أسروا مالك ورفاقه، بأن مالك ومن معه أقر بالإسلام وأجابوا داعية الإسلام. وحين علم بعض الصحابة ذلك، غضبوا أيما غضب من ذلك، حتى أن عمر بن الخطاب طالب الخليفة بعزل خالد، وقال: "إن في سيف خالد رهقًا (إي ظلم وطغيان) وحق عليه أن يُقيده". إلا أن أبا بكر لم يستجب لرأي عمر، معللاً بأن خالد تأول فأخطأ، وأنه ما كان ليشيم سيفًا سلّه الله على الكافرين. وفي ذات الوقت أرسل إلى خالد ليقص عليه ما فعل، فعنّفه أبو بكر على تزوجه بامرأة رجل لم يجف دم زوجها، وأمر بأداء دية مالك لأخيه متمم، ورد سبي بني يربوع. مرة أخرى يتعرض خالد للانتقاد خلال حروب الردة، وذلك يوم أن تزوج ابنة مجاعة بن مرارة بعد نهاية المعركة. وقد روى الطبري أن فعله هذا أثار غضب أبا بكر، فكتب إليه: "لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ. تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد!". انتقاد آخر تعرض له خالد هذه المرة من قبل بعض المؤرخين يوم نهر الدم، حيث رأوا أن في أفعاله بعد المعركة من قتله للأسرى ليجري النهر دمًا وحشية لا تليق بقائد فاتح، بينما رأى آخرون أنها كانت في نطاق استخدامه لأساليب الحرب النفسية، وأنها أثرت أيما أثر في نفوس الفرس والأهم من العرب. أسرته. تزوج خالد بن الوليد ابنة أنس بن مدرك الأكلبي الخثعمي فولدت له: وكثر ولد خالد بن الوليد حتى قيل إنهم وصلوا أربعين رجلا كلهم بالشام؛ حيث قضوا كلهم في طاعون عمواس؛ فلم يعقب أحد منهم، وهناك مصادر متعددة تذكر أن له ذرية في باقي البلدان. شخصيته في الأدب والإعلام. أدبيًا، تناولت العديد من الأعمال الأدبية والتاريخية شخصية خالد بن الوليد سواء بالعرض أو النقد أو التحليل، منها كتاب "سيف الله المسلول: خالد بن الوليد - حياته وحملاته" للجنرال الباكستاني أغا إبراهيم إكرام، الذي تناول فيه حياته وتحليل حملاته من وجهة نظر عسكرية، وكتاب "عبقرية خالد" للكاتب عباس محمود العقاد الذي تناول فيه الشخصية في نطاق تحليلي أدبي، وكتاب "خالد بن الوليد" للمؤلف "صادق إبراهيم عرجون" الذي تناول الشخصية بالسرد التاريخي مع التحليل والتنقيح للروايات المختلفة التي وردت في أمهات الكتب حول الأحداث التي كان خالد في خضمها، متأثرًا بكتابي "الصديق أبو بكر" و"الفاروق عمر" لمحمد حسين هيكل. إضافة إلى كتاب للمؤرخ العسكري العراقي محمود شيت خطاب بعنوان "خالد بن الوليد المخزومي"، وغير ذلك الكثير من الكتيبات التي تناولت سيرة خالد بن الوليد. إعلاميًا، جُسدت شخصية خالد بن الوليد في بعض الأعمال الفنية مثل خالد بن الوليد الذي جسد فيه حسين صدقي شخصية خالد بن الوليد عام 1958، وخالد بن الوليد الذي جسد فيه باسم ياخور دور خالد في جزئه الأول، وجسدها سامر المصري في جزئه الثاني، والذي تعرض للعديد من الانتقادات سواء على المستوى السياسي أو الديني. كما تم تجسيد شخصيته كأحد شخصيات الرسالة حيث جسدها محمود سعيد في نسخته العربية و"مايكل فورست" في نسخته الإنجليزية. إنسان فلوريس أو إنسان قزم هو نوع من جنس هومو عاش في جزيرة فلوريس الاندونيسية حتى 12 الف سنة خلت قبل أن ينقرض، عرف باسم الإنسان القزم بسبب قصر قامته الشديد حيث كان طوله 1.1 متر وعثر عليه في عام 2003. تم استعادة هياكل عظمية غير كاملة لتسعة أفراد بما في ذلك جمجمة كاملة يشار إليها برمز (LB1). خضعت هذه البقايا لبحوث مكثفة من أجل تحديد ما إذا كانت تمثل نوعًا مختلفًا عن البشر الحديثين على الرغم من أنّ الغالبية أجمعت على أن هذه البقايا تمثل نوعًا مختلفا بسبب الاختلافات الجينية والتشريحية. اعتبرت هذه الكائنات الشبيهة بالبشر في الأصل مميزة لبقائها حتى العصور الحديثة نسبيًا منذ نحو 12000سنة، لكن دراسة طبقات الصخور والتسلسل الزمني قد حددت تاريخ آخر لوجودها منذ 50000 سنة مضت. إنَّ مكونات الهياكل العظمية مؤرخة الآن ضمن فترة 60000 إلى 100000 سنة، وإنَّ الأدوات الحجرية المستردة من جوانب البقايا العظمية تعود لفترة بين 50000 و 190000 سنة. ماتا مينج. تم اكتشاف أسنان وفك جزئي لشبيه الانسان الذي يفترض أنه من أسلاف انسان فلوريس في عام 2014 وتم وصفهما في عام 2016. هذه البقايا هي من موقع في فلوريس يسمى ماتا مينج يقع على بعد نحو 74 كم من ليانغ بوا. يرجع تاريخها إلى حوالي 700000 عام مضت وهي أصغر من الحفريات اللاحقة. التصنيف. اقترح العالم مايك موروود وآخرون في عام 2004 أنَّ مجموعة متنوعة من المواصفات الأساسية والمتغيرة تصنف هؤلاء الأفراد على أنهم ينتمون إلى نوع جديد يدعى انسان فلوريس ضمن فرع أشباه البشر، والتي تشمل جميع الأنواع التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالبشر أكثر من الشمبانزي. اقترح المكتشفون ايضًا بناءً على التقديرات التاريخية السابقة أنَّ انسان فلوريس عاش مع البشر الحديثين في فلوريس. ذكرت دراستان تتعلقان بتركيب العظام نشرتا في عام 2007 أدلة لدعم أنواع انسان فلوريس. خلصت دراسة أجريت على ثلاثة عظام من رسغ اليد إلى وجود اختلافات عن العظام الرسغية للبشر المعاصرين وتشابه مع تلك الموجودة في الشمبانزي أو أشباه البشر الاوائل مثل أسترالوبيثكس. وخلصت دراسة أجريت على عظام ومفاصل الذراع والكتف والأطراف السفلية أيضًا إلى أنّ انسان فلوريس يشبه البشر الأوائل وغيرهم من القردة أكثر من البشر المعاصرين. قدم منشور عن تحليل التصنيف التفرعي في عام 2009 ودراسة تتعلق بمقارنة قياسات الجسم مزيدًا من الدعم لفرضية أنَّ انسان فلوريس والانسان الحديث العاقل نوعان منفصلان. نُشر في عام 2015 نتائج تحليل بايزي، والذي استخدم أكثر من 300 خاصية شكلية لبقايا أشباه البشر. لم يكن التحليل قادرًا على التمييز بين نسل أشباه البشر الاوائل المختلفة، ولكن كان التشابه الأكبر بين انسان فلوريس مع أسترالوبيثكس سيديبا والإنسان الماهر والانسان المنتصب، مما أثار احتمال أن أسلاف انسان فلوريس غادروا إفريقيا قبل ظهور الانسان المنتصب، ربما كانوا أول البشر الذين تطوروا بشكل أكبر في قارة آسيا. اقترح فان دن بيرغ وعلماء آخرون في عام 2016 فرضية الاشتقاق عن مجموعة من الانسان المنتصب الذين وصلوا إلى فلوريس منذ حوالي مليون سنة (كما هو موضح من أقدم القطع الأثرية الموجودة في الجزيرة) وسرعان ما أصبح انسان فلوريس قزمًا. يشير تحليل النشوء والتطور الذي نُشر في عام 2017 إلى أنَّ انسان فلوريس كان ينحدر من نفس الجد (من المفترض أنه أسترالوبيثيسين) مثل الانسان الماهر مما يجعله نوعًا شقيقًا للإنسان الماهر أو على الأقل إلى الانسان العاقل أو الانسان العامل أو الانسان المنتصب. يفترض على أساس هذا التصنيف أنَّ انسان فلوريس يمثل هجرة غير مفهومة ومبكرة جدًا من إفريقيا. ذكر استنتاج مشابه في دراسة جرت عام 2018 عن تأريخ القطع الحجرية الأثرية التي عثر عليها في شانغشن في وسط الصين قبل 2.1 مليون عام. الاكتشاف. تم اكتشاف العينات في جزيرة فلوريس الإندونيسية في عام 2003 من قبل فريق من علماء الآثار الأستراليين والإندونيسيين الذين كانوا يبحثون عن أدلة على الهجرة البشرية الأصلية للإنسان العاقل من آسيا إلى أستراليا. لم يتوقعوا العثور على نوع جديد وفوجئوا باستعادة هيكل عظمي كامل تقريبًا لشبيه انسان أطلقوا عليه اسم (LB1) نسبة لاكتشافه داخل كهف ليانغ بوا. وجدت الحفريات اللاحقة سبعة هياكل عظمية إضافية، مؤرخة في البداية لأزمنة بين 38000 إلى 13000 سنة مضت. يعود عمر عظم الذراع لإنسان فلوريس منذ 74000 عامًا. لم تكن العينات متحجرة وقد تم وصفها بأنها « ... تشبه ورق التنشيف المبلل.» وبمجرد كشف العظام كان لا بد من تركها حتى تجف قبل ازالتها. توجد ادوات حجرية ذات حجم مناسب لاستعمال الإنسان الذي يبلغ طوله 3 أقدام أيضًا على نطاق واسع في الكهف. تعود الأدوات لفترات مؤرخة من 95000 إلى 13000 عام مضت وترتبط (موجودة في نفس الطبقة) بفيل منقرض يدعى ستيجودون (كان واسع الانتشار في جميع أنحاء آسيا خلال العصر الرباعي) ويفترض أن يكون فريسة لـ (LB1). وصل الإنسان العاقل إلى المنطقة قبل نحو 50000 عام، في الوقت الذي يعتقد أن إنسان فلوريس قد انقرض. تشير مقارنات القطع الحجرية الأثرية مع تلك التي صنعها الإنسان الحديث في منطقة تيمور الشرقية إلى العديد من أوجه التشابه التقني. تم الكشف عن انسان فلوريس في 28 أكتوبر / تشرين الأول عام 2004 وسُمي باسم الهوبيت تبعا للعرق الخيالي الذي اشتهر من كتاب (الهوبيت) للكاتب جون تولكين. تم تصنيفه في البداية في كنوع خاص (انسان فلورنس)، لكن مراجعي المقال شعروا أن الجمجمة على الرغم من حجمها تنتمي إلى جنس اشباه البشر. البنية التشريحية. أهم الملامح الواضحة في تحديد انسان فلوريس هي جسمه الصغير وصغر حجم الجمجمة. حدد براون وموروود أيضًا عددًا من الميزات الإضافية الأقل وضوحًا التي قد تميز انسان فلوريس عن الإنسان العاقل الحديث مثل شكل الأسنان، وغياب الذقن، وصغر زاوية رأس عظم العضد (عظم الذراع العلوي). تم فحص كل من هذه الصفات المميزة المفترضة بدقة من قبل المجتمع العلمي، حيث توصلت مجموعات بحثية مختلفة إلى نتائج مختلفة حول ما إذا كانت هذه الصفات تدعم التصنيف الأصلي كنوع جديد، أو ما إذا كانت تصنف انسان فلوريس على أنه انسان عاقل. [28] تشير دراسة أجريت في عام 2015 حول التشكل السني لـ 40 سنًا من أسنان انسان فلوريس مقارنة بـ 450 سن من أسنان الكائنات الحية والمنقرضة إلى أن انسان فلوريس لديه: «أشكال بدائية من الانياب الامامية وأضراس متقدمة»، وهي أشكال فريدة من نوعها لدى البشر. تشير دراسة طب الأسنان إلى أنَّ أصل انسان فلوريس هو الانسان المنتصب.] تحقق اكتشاف هياكل عظمية جزئية إضافية من وجود بعض الميزات في انسان فلوريس، مثل عدم وجود الذقن، ولكن ذكر الباحث يعقوب وفرق البحث الأخرى أن هذه الصفات لا تميز انسان فلوريس عن الانسان العاقل الحديث المحلي. أكد العالم لايراس وآخرون استنادًا إلى الأشكال ثلاثية الأبعاد أن جمجمة إنسان فلوريس تختلف اختلافًا كبيرًا عن جميع جماجم الانسان العاقل الحديث، بما في ذلك جماجم الأفراد الصغار وذوي الرأس الصغير (الصعل)، وتشبه جمجمة الانسان المنتصب وحده. قال إيان تاتيرسال أنَّ هذا النوع يصنف بشكل خاطئ على أنه انسان فلورينس حيث أنه قديم جدًا ولا يصح تعيينه كجنس شبيه بالإنسان. الاجسام الصغيرة. تم اختيار المجموعة الأولى من البقايا التي تم العثور عليها لإنسان فلورينس كنماذج نوعية للأنواع المقترحة. الهيكل العظمي لإنسان فلوريس هو هيكل عظمي كامل إلى حد ما بما في ذلك جمجمة كاملة تقريبًا تعود لأنثى تبلغ من العمر 30 عامًا. تم تسمية هيكل LB1 سيدة فلوريس الصغيرة. قُدر ارتفاع هيكل LB1 بنحو 1.06 م (3 أقدام و 6 بوصات). وتقدير ارتفاع الهيكل العظمي الثاني LB8 بنحو 1.09 م (3 أقدام و 7 بوصات) بناءً على قياسات قصبة الساق. تعتبر هذه التقديرات خارج نطاق الطول البشري الطبيعي وأقصر بكثير من متوسط طول البالغين بما في ذلك أقصر البشر المعاصرين مثل شعب مبوتي (أقصر من 1.5 متر، تعادل 4 قدم و11 بوصة)، وشعوب توا زسيمانغ (1.37 م، تعادل 4 أقدام و 6 بوصات للنساء الراشدات) في شبه جزيرة ملايو، أو شعب أندامانيس (1.37 م، يعادل 4 أقدام و 6 بوصات للنساء الراشدات). تعتبر الاختلافات كبيرة بين الأقزام الحديثة وانسان فلوريس من حيث كتلة الجسم. قدرت كتلة جسم الهيكل العظمي LB1 بنحو 25 كجم (55 رطل). وهذا أصغر من نظيره الانسان العاقل ومن الانسان المنتصب الذي اقترحه براون وزملاؤه كسلف مباشر لإنسان فلوريس. وتعتبر أجسام LB1 و LB8 أيضًا أصغر إلى حد ما من أجسام أسترالوبيثكس الذي عاش منذ ثلاثة ملايين عام، لم يكن يُعتقد سابقًا أنهم توسعوا خارج إفريقيا. وبالتالي قد يكون LB1 و LB8 هما أقصر وأصغر أفراد الأسرة البشرية الواسعة المكتشفة حتى الآن. تبدو العينات شبيهة بالإنسان المنتصب بصرف النظر عن حجم الجسم الصغير، وهو نوع معروف كان يعيش في جنوب شرق آسيا في وقت يتزامن مع اكتشافات سابقة يُزعم أنها لإنسان فلوريس. تشكل أوجه التشابه الملحوظة هذه أساس العلاقة التطورية المقترحة. وقد أبلغ الفريق عن عثوره على أدلة مادية (أدوات حجرية) في فلوريس تعود لزمن الانسان المنتصب الذي وُجد منذ 840000 عام، ولكن لم يجدوا بقايا الانسان المنتصب نفسه أو أشكاله الانتقالية. اقترح براون بهدف تبرير القامة الصغيرة لإنسان فلوريس أنه وضمن البيئة الغذائية المحدودة في فلوريس تطور الانسان المنتصب لحجم أصغر عن طريق التقزّم بشكل متدرج. وقد لوحظ هذا الانتواع لدى الأنواع الأخرى في فلوريس أيضًا نتيجة للضغوط الانتقائية التي تعمل على أفراد الجزيرة، بما في ذلك عدة أنواع من مخلوقات تشبه الفيل تسمى ستيجودون. (انقرضت أنواع ستيجودون القزمة في فلوريس قبل نحو 850000 عام وأتى مكانها أنواع أخرى من الحجم الطبيعي، والتي تطورت بعد ذلك أيضًا إلى شكل قزم واختفت منذ حوالي 12000 عام). تفترض هذه النظرية أنَّ الغابات الاستوائية المطيرة في الجزيرة تعتبر بيئة فقيرة من حيث السعرات الحرارية، مما يسبب ضغطًا غذائيًا على أشباه البشر وخاصة في غياب الزراعة. وتبعًا لانخفاض الموارد يتمتع الأفراد الأصغر بميزة إضافية بسبب انخفاض احتياجاتهم من الطاقة. يمكن أن يؤثر هذا الانتقاء أيضًا على الأعضاء الحسية مثل الدماغ بشكل كبير، والذي يمكن أن يفسر الحجم الصغير داخل الجمجمة الموجود في انسان فلوريس. انتقد تيكو يعقوب وزملاؤه فرضية التقزّم المتدرج وقالوا أنّ LB1 يشبه شعوب بيغمي التي تسكن قرية رامباساسا في فلوريس، وقالوا أنّ هذا الحجم يمكن أن يختلف اختلافًا كبيرًا في مجموعات بيغمي. وخلصت دراسة أجريت في عام 2018 إلى أنّ أقزام رامباساسا لا تملك أي علاقة بإنسان فلوريس وتمثل تطوراً مستقلاً للقامة الصغيرة عبر التقزم المتدرج. التنجيم هو مجموعة من التقاليد، والاعتقادات حول الأوضاع النسبية للأجرام السماوية والتفاصيل التي يمكن أن توفر معلومات عن الشخصية، والشؤون الإنسانية، وغيرها من الأمور الدنيوية. ويسمى من يعمل فيه بالمنجم ويعتبر العلماء التنجيم من العلوم الزائفة أو الخرافات. وظهرت العديد من التقاليد والتطبيقات التي تستخدم المفاهيم الفلكية منذ البدايات الأولى للتنجيم خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد. ولعب التنجيم دورًا هامًا في تشكيل الثقافة وعلم الفلك الأول، والفيدا، والعديد من التخصصات المختلفة على مر التاريخ، وفي الواقع، لم يكن من السهل التمييز بين التنجيم وعلم الفلك قبل العصر الحديث، بالإضافة إلى وجود الرغبة للمعرفة التنبؤية، والتي تعد واحدة من العوامل الرئيسية الدافعة للرصد الفلكي، وبدأ علم الفلك يتباعد عن التنجيم بعد فترة من الانفصال التدريجي تبدأ في عصر النهضة وحتى القرن الثامن عشر، وفي النهاية، ميز علم الفلك نفسهِ باعتباره دراسة الأجرام الفلكية والظواهر دون اعتبار للمفاهيم الفلكية لتلك الظواهر. ويعتقد المنجمون أن تحركات ومواقف الأجرام السماوية تؤثر مباشرة على الحياة فوق كوكب الأرض، أو أنها قد تتطابق مع الأحداث الإنسانية. ويعرف المنجمون المعاصرون مايسمونه بعلم التنجيم بأنه لغة رمزية، أو شكل فني، أو نوع من أنواع التنبؤ بالمستقبل. وعلى الرغم من اختلاف التعريفات، هناك افتراض سائد بين المنجمين بأن موضع النجوم في السماء قد يساعد في تفسير أحداث الماضي والحاضر، والتنبؤ بأحداث مستقبلية وهو شيء لا يوجد دليل علمي عليه لحد الآن. التسمية. تأتي كلمة Astrology من اليونانية : ، "astron" ومعناها «كوكبة من النجوم»، وكلمة ، "" تعني «دراسة». تعريف التنجيم. التنجيم أو علم النجوم لهُ مرادفات أخرى منها: النجامة والتبريج والتفلك، وأشهرها عند العرب الأحكام النجومية، ويعرف عند الغربيين باسم الأسطرولوجيا، ويصنف كـنوع من العلوم الزائفة، والأسطرولوجيا هي كلمة مكونة من كلمتين: أسطرون وتعني النجم، ولوجس وتعني الخطاب، أي خطاب أو حديث النجوم. والعراف الذي يمتهن هذا العلم يسمى منجماً أو أحكامياً. والأحكام النجومية هي صناعة الإخبار بالحوادث من النظر في الكواكب والحوادث العلوية. وكان العلماء لا يفرقون بين علم الهيئة والأحكام النجومية، فكان المتكلم في حركات النجوم وعلاقاتها بعضها ببعض هو نفسه الذي ينبئ بالحوادث المقبلة من النظر لتلك الحركات، ولم يميز بين هذين العلمين إلا حوالي القرن 18 الميلادي. وكان حكماء العرب يصنفون علم الهيئة أي علم الفلك في المرتبة الرابعة من العلوم العقلية، وكان من فروعه الأزياج والأحكام النجومية. أما الآن فعلم التنجيم علم مستقل بذاته؛ وإن كان يعتمد على علم الفلك في حساب الهيئة الفلكية إلا أنه يصنف مع العلوم الروحانية وفنون العرافة. ومهما تعمقنا في التاريخ فإننا نجد بقايا لعلم الأحكام النجومية، فقد عمل به الرومان والإغريق وقدماء المصريين في عهد الفراعنة، ومن قبلهم كانت طائفة الكهان عند البابليين والسومريين يحفظونه وكانت مهمتهم تقتضي مراقبة النجوم وإخبار الملوك بكل ظاهرة غير عادية. وكان التنبؤ بوقت الكسوف والخسوف كذلك ذا أهمية كبرى. وفي تلك الفترة كان التنجيم يسخر للملوك والكهان أساساً، واستعمل بالخصوص لإدارة شؤون الحاضرة أو الدولة، وخلدت لنا الحضارات القديمة التي شيدت الأنصاب الحجرية ستونهينج في سهل ساليبوري بإنجلترا كشاهد قوي على معرفتها بالتنجيم، وتعد ستونهينج نوعاً من التقويمات تسجل فيها حركات فصول السنة. وفي أمريكا الجنوبية والوسطى بلغت شعوب الأزتيك والمايا درجة عالية من الدقة في حساب سير الكواكب والنجوم، وكانوا يعتبرونه عملاً ضرورياً لتحديد تواريخ الأعياد والمناسك الدينية، ورغم التخريب الذي ألحقه المعمرون الأوروبيون بهذه الحضارات، بقيت بعض الآثار من علومها مسجلة في الحجر المعروف بأنصاب الزمن. وفي الصين يبدأ التقويم الصيني القديم في سنة 2637 قبل الميلاد، ولم يكن يتم الجزم في أمر من أمور البلاط الإمبراطوري إلا بعد استشارة النجوم. غير أن حضارات المايا والأزتيك والصينيين استعملوا أحكاماً نجومية تختلف كثيراً في دلالاتها عن التنجيم الذي نعمل به والذي ترعرع في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. ولقد لعب العرب دوراً كبيراً في ازدهار علم التنجيم فهم من أحيى التراث التنجيمي اليوناني ومزجوه بتراث الحضارات الأخرى التي كانت تحت سيادة إمبراطوريتهم خصوصا التنجيم الفارسي والهندي، فظهر إلى الوجود الأحكام النجومية العربية، وذاع صيت المنجمين العرب وترجمت مصنفاتهم إلى اللغة اللاتينية وعمل بأحكامهم منجمو الغرب فترة طويلة، وأشهر الأحكاميين العرب أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي المتوفى عام 886 م كأعظم علماء العرب في علم الأحكام النجومية، وأشهر كتبه كتاب (المدخل إلى علم أحكام النجوم)، وكذلك الفيلسوف الكندي وبالمغرب الأقصى اشتهر ابن البناء وابن قنفذ، وبالأندلس لا يزال ذكر مسلمة المجريطي كأحد كبار الحكماء وكتابه (غاية الحكيم في السحر مقدس) لدى الغربيين ويطبع ليومنا هذا باسم بيكاتريكس. ولم يعرف التمييز بين علم التنجيم وعلم الفلك إلا حديثاً خلال الثورة العلمية في القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا. وعلم التنجيم كما نعرفه نقل إلينا عن طريق اليونان الذين أخذوه عن قدماء المصريين والكلدانيين، وأشهر كتاب في علم التنجيم هو التيترابيبلوس الذي اشتهر عند العرب باسم المقالات الأربع، وكان مؤلفه كلود بطليموس صاحب كتاب المجسطي الغني عن الذكر وكتاب الجغرافيا وكتاب الثمرة، وكان يعيش بالإسكندرية في القرن الثاني الميلادي وأصبح كتاب المقالات الأربع المرجع الرئيسي في أصول علم التنجيم عند المنجمين المعاصرين، مع العلم أنه ترجم عن اللغة العربية. وبعدما عرف علم التنجيم انتشاراً كبيراً، في العصور الوسطى تعرض هذا العلم للضمور ابتداء من القرن 17 و 18 م، فبعد إبعاده عن الجامعات، أصبح يصنف ضمن العلوم الروحانية وفنون العرافة، وظل منتشراً في العالم الإسلامي إلى أن اندثر وانمحت آثاره مع قدوم الإمبريالية الأوروبية. وجاء عصر النهضة التنجيمية في أوروبا في نهاية القرن 19 م تحت زخم بول شوازنارد بفرنسا وفون كلوكلر بألمانيا، ومنذ ذلك الوقت أصبح علم التنجيم يسترد ما انتزع من حقوقه، ورغم أنه لم يستعد بعد مكانته القديمة فإنه مستمر في تطوره. وفي الوقت الراهن يتوافق علم التنجيم القديم مع علم التنجيم العلمي العصري أو ما يسمى بالخطأ الغربي، فالأبحاث كثيرة وأصبحت تعتمد على الإحصائيات بكثرة من لدن مجددي هذا العلم، والنتائج تتطابق بشكل عام مع الأصول القديمة، ويبقى هناك مجال واسع يجب تغطيته لوضع هذا العلم في زمن العالم المعاصر، لكن في كثير من أرجاء العلم ينكب على ذلك عدد من الأحكاميين. ولا يزال قسم كبير من تراثنا التنجيمي العربي الكبير يحتاج لمن يرفع النقاب عنه ويدرسه ويجدده، وينفض عنه غبار المكتبات الخاصة وينشره ليطلع عليه كل الناس. المعتقدات الأساسية. وكانت المعتقدات الأساسية في علم التنجيم سائدة في أجزاء من العالم القديم، والتي تجسدت في القول المأثور «على النحو الوارد أعلاه، وكذلك أدناه»، واستخدم تايكو برايي عبارة مماثلة لتلخيص دراساته في علم التنجيم بعنوان: "suspiciendo despicio"، «أستطيع أن أرى ما هو في الأسفل من خلال النظر إلى أعلى». وعلى الرغم من أن المبدأ القائل بأن الأحداث في السماوات تنعكس على الأرض كان سائداً بين معظم تقاليد علم التنجيم في مختلف أنحاء العالم، كان هناك في الغرب مناظرة تاريخية بين المنجمين حول طبيعة آلية التنجيم. وتناولت المناقشة أيضاً ما إذا كانت الأجرام السماوية هي عبارة عن علامات فقط؛ أو أنها تبشر بالأحداث، أو أسباب فعلية للأحداث تتحكم فيها قوة أو آلية معينة. وتعتمد معظم التقاليد الفلكية على المواقع النسبية وحركة العديد من الأجسام السماوية الحقيقية أو المفسرة، بالإضافة إلى بناء أنماط سماوية ضمنية كما هو الحال في وقت ومكان الحدث الذي يتم دراسته. وتشمل تلك الأنماط بشكل أساسي كل من الكواكب الفلكية، والكواكب القزمية، والكويكبات، والنجوم، والعقدة القمرية، والقطع العربية، والكواكب الافتراضية. ويُحدد الإطار المرجعي لتلك المواضع الواضحة من خلال أبراج استوائية أو فلكية لها اثني عشر علامة من ناحية، والأفق المحلي (المحور الصاعد—الهابط) ومحور الmidheaven والـcoeli imum من ناحية أخرى. وينقسم الإطار (المحلي) الأخير إلى اثنى عشر منزل فلكي. وعلاوة على ذلك، تستخدم الجوانب الفلكية لتحديد العلاقات الهندسية الزاوية بين الأجرام السماوية المختلفة وزوايا الأبراج. ويعتمد الإدعاء بأن علم التنجيم يتنبأ بتطورات المستقبل على طريقتين رئيسيتين في علم التنجيم الغربي: الانتقال الفلكي والتقدم الفلكي. وفي الانتقال الفلكي، تُفسَّر الحركات الحالية للكواكب لأهميتها، حيث أنها تنتقل عبر الفضاء والفلك. ولكن في التقدم الفلكي، تتقدم الأبراج إلى الأمام في الوقت المناسب وفقاً لمجموعة من الأساليب. يتم التركيز في علم التنجيم على فترات الكواكب لاستنتاج الإتجاه، بينما تستخدم الانتقالات لتحديد أحداث الوقت الهامة. لم يعد معظم منجمي الغرب يحاولون التنبؤ بالأحداث الفعلية، ولكنهم يركزون على الاتجاهات والتطورات العامة. وبالمقارنة، نجد أن المنجمين الفيديين يتنبؤون بالاتجاهات والأحداث. ويرد المتشككون بأن هذه الممارسة تسمح لمنجمي الغرب بتجنب القيام بتنبؤات مؤكدة، وتمنحهم القدرة على ربط أهمية الأحداث التعسفية بالأحداث التي ليس لها صلة بها بشكل يتناسب مع الغرض منها. وفي الماضي، اعتمد المنجمون على الملاحظة الدقيقة للأجسام السماوية ورسم تحركاتها. واستخدم المنجمون المعاصرون البيانات المقدمة من قبل الفلكيين التي يتم تحويلها إلى مجموعة من الجداول الفلكية تسمى الفلكيات، والتي تبين مواضع التغيير الفلكي للأجرام السماوية من خلال الزمن. التقاليد. هناك العديد من تقاليد علم التنجيم، بعضها يتشارك سمات متشابهة نظرًا لانتقال النظريات الفلكية بين الثقافات. تطورت تقاليد أخرى في عزلة وأصبح لها مذاهب مختلفة، على الرغم من أنهم يتشاركون في بعض السمات بسبب الاعتماد على مصادر فلكية مماثلة. التقاليد الحالية. ومن التقاليد الرئيسية التي يستخدمها المنجمون المعاصرون: علم التنجيم الـJyotiṣa الغربي، والتنجيم الصيني. ويتشارك التنجيم الفيدي والغربي أصولاً واحدة باعتبارهما أنظمة فلكية، وتركز هذه التقاليد على صب مخطط فلكي أو مخطط أبراج، وهناك تمثيل للكيانات السماوية لحدث معتمد على موقع الشمس، والقمر، والكواكب في لحظة الحدث. ومع ذلك، يستخدم علم التنجيم الأبراج النجمية، وربط علامات البروج الفلكية للكوكبة الأصلية، في حين أن علم التنجيم الغربي يستخدم الأبراج الاستوائية. وبسبب مبادرة الاعتدال الربيعي، لم تعد الاثنى عشر علامة على مدى القرون في علم التنجيم الغربي تتطابق مع نفس الجزء من السماء أو الكوكبة الأصلية. وفي الواقع، اختفت العلاقة بين العلامة والكوكبة في علم التنجيم الغربي، في حين ظلت تلك العلاقة مهمة في علم التنجيم. وهناك ثمة اختلافات أخرى بين المذهبين لتشمل استخدام 27 (أو 28) nakshatra أو قصر قمري، والتي كانت تستخدم في الهند منذ زمن الفيدية، ونظام الفترات الكوكبية المعروفة بالـdashas. وظهر تقليد مختلف بعض الشيء في علم التنجيم الصيني، وبالمقارنة بعلم التنجيم الغربي والهندي، لا تقسم الإثني عشر علامة فلكية السماء، ولكن تقسم خط الاستواء السماوي. وطورت الصين نظامًا تُـقابلُ كل علامةٍ فيه واحدةً من الإثني عشر 'ساعة مزدوجة' التي تحكم اليوم، وإلى واحد من الإثني عشر شهرًا. ويحكم كل زودياك سنة مختلفة، ويتجمع مع نظام يعتمد على خمسة عناصر من علم الكونيات الصيني لإعطاء 60 (12 × 5) سنة. ويستخدم مصطلح "علم التنجيم الصيني" هنا لأنه مناسب، ولكن لابد من الاعتراف بأن تلك النسخ لنفس التقاليد موجودة في كوريا، واليابان، وفيتنام، وتايلاند، وبلدان آسيوية أخرى. وفي العصور الحديثة، اتصلت تلك التقاليد ببعضها البعض بقدر كبير، فقد انتشر التنجيم الهندي والصيني في الغرب، في حين أن وعي التنجيم الغربي لا يزال محدود نسبيًا في آسيا. وتنوع علم التنجيم في العالم الغربي كثيرًا في العصر الحديث. وظهرت حركات جديدة تخلصت من الكثير من التنجيم التقليدي للتركيز على الاتجاهات المختلفة، مثل التأكيد على نقاط المنتصف، أو اتباع نهج نفسي. وتشمل بعض التطورات الغربية الحديثة الزودياك الفلكي والاستوائي؛ الكوزموبيولوجي؛ والتنجيم النفسي؛ وتنجيم العلامات الشمسية، ووكلية هامبورغ لعلم التنجيم، والتنجيم اليوراني، ومجموعة فرعية من مدرسة هامبورغ. التقاليد التاريخية. اشتهر علم التنجيم في العديد من المناطق وتعرض لتطورات وتغييرات عبر تاريخه الطويل. وهناك العديد من التقاليد الفلكية الهامة، ولكنها لم تعد تستخدم اليوم. ولا يزال المنجمون يحتفظون بهذه التقاليد ويعتبرونها موردًا هامًا. وتشمل التقاليد الفلكية الهامة تاريخياً التنجيم العربي والفارسي (القرون الوسطى، والشرق الأدنى)؛ والتنجيم البابلي (القديم، والشرق الأدنى)؛ والتنجيم المصري؛ والتنجيم الهلنستي (كلاسيكية العصور القديمة)، وعلم تنجيم مايا. التقاليد الخفية. ولكثير من التقاليد الصوفية أو الخفية صلة بالتنجيم. وفي بعض الحالات، مثل الكابالا، ينطوي ذلك على عناصر من علم التنجيم في تقاليده الخاصة به. وفي حالات أخرى، مثل تنبؤ التارو، استخدم الكثير من المنجمين العديد من التقاليد في ممارساتهم الخاصة لعلم التنجيم. وتشمل التقاليد الخفية الكيمياء القديمة، وكشف الحظ، وتنجيم الكابالا، والتنجيم الطبي، وعلم الأعداد، وروسكروسن أو «الصليب الروزي»، وقراءة البخت بالتارو. ولقد تحالفت وتضافرت الكيمياء القديمة تاريخياً في العالم الغربي بشكل خاص مع علم التنجيم الذي يستخدم الأسلوب البابلي اليوناني؛ ولقد تم بناؤها بطرق عديدة لتكمل كل منهما الآخر في البحث عن المعارف الخفية أو التنجيمية. واستخدم علم التنجيم مفهوم العناصر الكلاسيكية الأربعة للكيمياء القديمة منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا، حيث يرتبط كل واحد منها بالكواكب السبعة في النظام الشمسي المعروفة للقدماء، وسيطرت على مادة معينة. الأبراج. إن البرج هو الزنار أو مجموعة من الكوكبات التي تنتقل من خلالها الشمس، والقمر، والكواكب عبر السماء. إذ لاحظ المنجمون هذه الكوكبات وربطوها بأهمية خاصة. ولقد طوروا نظام الإثني عشر برجًا بمرور الوقت: الحمل، والثور، والتوأمان، والسرطان، والأسد، والعذراء، والميزان، والعقرب، والرامي، والجدي، والدلو، والحوت)، اعتمادًا على اثني عشر برجا من الأبراج التي تعتبر ذات أهمية في التنجيم. وتشترك علامات الأبراج الغربية والفيدية في الأصل وتقليد التنجيم، وبالتالي فهي متشابهة جدًا في المعنى. ومن ناحية أخرى، كان تطوير الأبراج مختلفًا في الصين، على الرغم من أن الصين لديها نظام يتكون من اثني عشر علامة (سميت بأسماء الحيوانات)، إذ تشير الأبراج الصينية إلى دورة تقويمية نقية، حيث لا ترتبط الكوكبات بها كما هو الحال بعلم التنجيم الغربي أو الهندي. ويعتبر اختيار الإثني عشر علامة متأملًا للتفاعل بين الشمس والقمر الذي يعد مشتركًا بين جميع أنواع التنجيم. اعتمد غالبية المنجمين الغربيين في عملهم على الأبراج الاستوائية التي تفصل السماء إلى اثني عشر قطعة متساوية، وتتكون كل واحدة منها من 30 درجة، حيث تبدأ بالنقطة الأولى وهي برج الحمل، وهي النقطة التي يتقابل فيها خط الاستواء السماوي الأرضي ومسار الشمس (مسار الشمس خلال السماء) في نصف الكرة الشمالي الاعتدالي الربيع، وبسبب مبإدارة الاعتدال، حدث تغيير طفيف في طريقة دوران الأرض في الفضاء، وليس لعلامات الأبراج في هذا النظام أية علاقة بالكوكبات التي لها نفس الاسم، ولكنها تظل مرتبطة بالأشهر والفصول. ويستعمل اصحاب التقاليد الفلكية الفيدية وبعض المنجمين الغربيين الأبراج الاستوائية، ويستخدم البرج نفس دائرة البروج المقسمة بالتساوي، ولكنه يظل مرتبطًا بمواضع الكوكبات الملحوظة مع نفس اسم علامات الأبراج. وتختلف الأبراج الانتقالية عن الأبراج الاستوائية من خلال ما يسمى بالـayanamsa، والذي يزيد من انجراف الاعتدالات. وعلاوة على ذلك، استخدم بعض المنجمين الذين يستخدمون تقنيات فلكية انتقالية الكوكبات غير المتساوية فعليًا للأبراج في عملهم. وتجدر الإشارة إلى ان ما يُعتمد من الأبراج اليوم يتضمن أخطاءًا كثيرة، وحتى مع افتراض صدق توقعات التنجيم؛ فإن تلك الأخطاء تجعل مواقع وعدد الأبراج ونسبة البرج إلى اليوم مغلوطة كلها. مثلًا في الحقيقة يجب أن يكون هناك 13 برجاً وليس 12 برجاً، وذلك بسبب تقدم الاعتدالَـين اللذان يحدثان بسبب مركز دوران الأرض (الذي يسبب الليل والنهار) ومركز دوران الأرض حول الشمس (الذي يحدد مضي كل سنة)، وهما في الحقيقة ليسا متعامدين. فكلاهما يبعد عن الآخر بـ (23.5) درجة، وهذا يحصل بسبب ميلان مركز دوران الأرض، وهذا الميلان يؤدي إلى حدوث الفصول الأربعة لدينا. وهناك أيضاً مدة قصيرة 18.6 سنة ناتجة عن طريق حركة مدار القمر حول الأرض وهي غير محسوبة ضمن الحسابات التقليدية للأبراج، بينما القمر له أيضاً تأثير صغير على الحركة البدارية، حيث أن الانتفاخ الاستوائي للشمس هو السبب الرئيسي للحركة البدارية للاعتدال. يعني ذلك أن الشخص الذي ولد في برج معين سيتغير برجه بعد 18 سنة كما أن تواريخ الأبراج ببداياتها ونهاياتها أيضًا تختلف تمامًا إذا ما أخذت علميًا بنظر الاعتبار. التنجيم بالأبراج. يعتبر "التنجيم بالأبراج" نظام يدعي البعض وضعه في منطقة البحر الأبيض المتوسط وخاصة بمنطقة مصر الهلنستية خلال أواخر القرن الثاني أو أوائل القرن الأول قبل الميلاد. ومع ذلك، تم ممارسة التنجيم بالأبراج في الهند منذ العصور القديمة، ويعد علم التنجيم الفيدي هو أقدم شكل من أشكال علم التنجيم الذي بقي حتى الآن في العالم. ويتعامل التقليد مع مخطط ثنائي الأبعاد يتكون من السماء، أو الأبراج، التي خلقت من أجل لحظات معينة في الوقت، ويستخدم الرسم التخطيطي لتفسير المعنى الكامن في محاذاة الأجرام السماوية في تلك اللحظة، بناءً على مجموعة محددة من القواعد والمبادئ التوجيهية. ويحسب البرج لحظة ولادة الفرد، أو في بداية حدث، وذلك لأن التحالفات السماوية في تلك اللحظة كان يعتقد أنها تحدد طبيعة الموضوع قيد البحث. وتعد واحدة من الخصائص المميزة لهذا الشكل من التنجيم هي حساب درجة الأفق الشرقي الذي يرتفع خلف مسير الشمس في اللحظة المحددة قيد الدراسة، والمعروفة باسم الطالع. ويعد التنجيم بالأبراج الشكل الأكثر تأثيرًا وانتشاراً في أفريقيا، والهند، وأوروبا، والشرق الأوسط. وتتمتع التقاليد الغربية في العصور الوسطى والحديثة في علم التنجيم بأصول هلنستية. الأبراج. ويعد حساب الطالع أو التخطيط الفلكي أساس علم التنجيم بالأبراج وفروعه. ويوضح ذلك التمثيل ثنائي الأبعاد المواضع الظاهرية للأجرام السماوية في السماء من خلال أفضلية موقع الأرض في وقت ومكان محددين. وتنقسم الأبراج أيضاً إلى اثني عشر منزلاً سماوياً مختلفاً يتحكم في مجالات متعددة في الحياة، وتشمل الحسابات التي يتنبأ من خلالها البرج الحساب والهندسة البسيطة التي تساعد على تحديد الموضع الظاهري للأجرام السماوية في التواريخ والأوقات المرجوة استنادًا إلى الجداول الفلكية. وفي تنجيم الهيلينية القديمة، يحدد الطالع أول منزل كوكبي للأبراج. وتأتي كلمة "horoskopos" بمعنى الطالع في اليونانية، وهي التي اشتق منها كلمة "الأبراج"، وفي العصر الحديث، تشير الكلمة إلى الرسم البياني الفلكي عامة. فروع علم التنجيم بالأبراج. ويمكن تقسيم تقاليد التنجيم بالأبراج إلى أربعة فروع تهتم بمواضيع أو أغراض محددة. وغالبًا ما تستخدم هذه الفروع مجموعة فريدة من التقنيات أو تطبيق مختلف للمبادئ الأساسية للنظام. وتشتق العديد من المجموعات الفرعية والتطبيقات الأخرى من علم التنجيم من هذه الفروع الأربعة الأساسية. أما التنجيم الولادي فهو دراسة الرسم الولادي للشخص للحصول على معلومات حول الفرد وخبرته الحياتية. وتشمل Katarchic astrology كلًا من التنجيم الاختياري وتنجيم الحدث. وتستخدم الأولى علم التنجيم لتحديد أكثر لحظة ميمونة للبدء في المشروع، أما الأخيرة فهي تهدف لفهم كل شيء عن هذا الحدث بداية من الوقت الذي وقع فيه. ويستخدم Horary astrology للرد على سؤال محدد من خلال دراسة الرسم البياني للحظة طرح السؤال على أحد علماء الفلك. ويعتبر علم تنجيم العالم تطبيق للتنجيم على أحداث العالم، بما في ذلك الطقس، والزلازل، وصعود وسقوط الإمبراطوريات أو الأديان. ويشمل ذلك العصور الفلكية، مثل عصر الدلو، وعصر الحوت وهكذا. ويصل عمر كل واحد منهم حوالي 2.150 سنة، ويعتقد كثير من الناس بأن هذه الأعمار الضخمة تتوافق مع الأحداث التاريخية الكبرى والتطورات الراهنة في العالم. تاريخ علم التنجيم. وتوجد أصول الكثير من المذاهب الفلكية والطريقة التي تطورت لاحقاً في آسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط بين البابليين القدماء ونظام البشائر السماوية الخاص بهم، والذي بدأ في الظهور خلال منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد تقريباً. وانتشر هذا النظام في وقت لاحق إما بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال البابليين والآشوريين في مناطق أخرى مثل الهند، والشرق الأوسط، واليونان حيث اندمجت مع أشكال التنجيم الموجودة مسبقًا. وظهر ذلك النوع من التنجيم البابلي في اليونان في وقت مبكر من منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، ومن ثم اختلط التنجيم البابلي مع التقاليد المصرية للـdecanic astrology من أجل صناعة تنجيم الأبراج خلال أواخر القرن الثاني أو أوائل القرن الأول قبل الميلاد بعد الفتوحات السكندرية. وسريعاً ما انتشر الشكل الجديد من علم التنجيم، والذي يبدو أنه نشأ في الإسكندرية المصرية، في جميع أنحاء العالم القديم في أوروبا والشرق الأوسط والهند. ما قبل العصر الحديث. ويختلف التفريق بين علم الفلك والتنجيم من مكان لآخر، فقد كانا مرتبطان بقوة في الهند القديمة، وبابل القديمة وأوروبا خلال القرون الوسطى، ولكنهما انفصلا في العالم الهيليني. وظهر أول تمييز دلالي بين التنجيم والفلك في القرن الحادي عشر على يد الفلكي أبو ريحان البيروني. (أنظر التنجيم وعلم الفلك). ولقد تكرر نمط المعرفة المكتسبة من المساعي الفلكية عبر ثقافات متعددة، بدايةً من الهند القديمة، ومرورًا بحضارة مايا الكلاسيكية، ووصولًا بأوروبا في القرون الوسطى. ووفقًا لهذه المساهمة التاريخية، أطلق على علم التنجيم علم مبتدء مع وجود بعض التخصصات مثل الكيمياء القديمة. ولم يخلُ التنجيم من الانتقادات قبل العصر الحديث، بل كان كثيراً ما يهاجمه المتشككون الهلنستيون، وسلطات الكنيسة، وعلماء الفلك المسلمين في القرون الوسطى، مثل الفارابي، وابن الهيثم، وأبو ريحان البيروني، وابن سينا، وابن رشد. وكانت أسبابهم لدحض علم التنجيم في كثير من الأحيان تعود لأسباب علمية (تعد الأساليب التي يستخدمها المنجمين تخمينية وليست تجريبية) ودينية (صراعات مع العلماء المسلمين والأرثوذكس). استخدم ابن قيم الجوزية (1292م-1350م)، في "مفتاح دار السعادة"، الحجج التجريبية في مجال علم الفلك من أجل تفنيد التنجيم وقراءة البخت. ولقد مارس العديد من كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء علم الفلك أمثال جالينوس، وكامبردج، وجيرولامو كاردان، ونيكولاس كوبرنيكوس، وتقي الدين، وتايكو برايي، وغاليليو غاليلي، ويوهانس كيبلر، وكارل يونغ وغيرهم. المناهج الحديثة. ظهرت ابتكارات عديدة في الممارسات الفلكية في العصور الحديثة. الغرب. وخلال منتصف القرن العشرين، قاد ألفريد ويت وتلاه راينولد إبرتن استخدام نقاط المنتصف في تحليل الأبراج. ومنذ عقد الثلاثينيات وحتى عقد الثمانينيات في القرن العشرين، قاد المنجمون أمثال دان رودهاير، وليز غرين، ووستيفن ارويو استخدام علم التنجيم للتحليل النفسي، وتلاهم بعض من علماء النفس مثل كارل يونغ. وفي عقد الثلاثينيات، طور ونشر دون نيرومان شكلا من أشكال التنجيم الموقعي في أوروبا تحت اسم "Astrogeography". وفي عقد السبعينيات، طور المنجم الأمريكي جيم لويس نهجا مختلفا بعنوان Astrocartography. ويهدف كلا الأسلوبين إلى تحديد ظروف الحياة المختلفة من خلال اختلاف الموقع. الفيدي. ويستخدم علم الفلك الهندي أبراج مختلفة عن التنجيم الغربي، وهو فرع من فروع العلم الفيدي. وفي الهند، هناك اعتقاد سائد بعلم التنجيم، وهو يستخدم بشكل واسع. وفي عقد الستينات، أدخل سيشادي أيير نظام يشمل مفاهيم اليوغاني، ولقد اهتم بها منجمي الغرب. ومنذ بداية عقد التسعينيات، نشر المنجم الهندي الفيدي والكاتب كيه شودري كتاب بعنوان نهج النظام لتفسير الأبراج، ووضع نظام مبسط للالجيوتش (التنجيم التنبئي). وساعد هذا النظام، والمعروف أيضا باسم"SA"، أولئك الذين يحاولون تعلم الـJyotisha. كما طور كانساس كريشنامورتي مذهب الكريشنامورتي باداتي الذي يستند إلى تحليل النجوم (nakshatras)، عن طريق تقسيم النجوم بنسبة الداشا الخاصة بكواكب معنية. ويعرف هذا النظام أيضا باسم «الKP» و«شبه النظرية». وفي الآونة الأخيرة، ندد العلماء الهنود اقتراح استخدام أموال الدولة لتمويل أبحاث في علم التنجيم الفيدي. التأثير على ثقافة العالم. كان للتنجيم تأثير عميق على الثقافات الغربية والشرقية على مر آلاف السنين الماضية. وفي العصور الوسطى، عندما اعتقد المتعلمين في ذلك الوقت في علم التنجيم، كان يعتقد أن نظام الأفلاك والأجسام السماوية يعكس نظام المعرفة والعالم نفسه. أًصبح الاعتقاد في علم التنجيم راسخًا اليوم في أجزاء كثيرة من العالم: ففي أحد استطلاعات الرأي، أقر 31٪ من الأمريكيين باعتقادهم في علم التنجيم، ووفقا لدراسة أخرى، اعتبر 39٪ منهم أن التنجيم يعد شيء علميًا. كما كان للتنجيم تأثير على كل من اللغة والأدب. فعلى سبيل المثال، سميت الأنفلونزا بذلك الاسم، وهي مشتقة من كلمة "influentia" اللاتينية والتي تعني التأثير، لأن الأطباء كانوا يعتقدوا أن الأوبئة ناجمة عن كواكب ونجوم غير حميدة لها تأثيرات سلبية. وتأتي كلمة «كارثة» من كلمة "disastro" الإيطالية، المشتقة من البادئة "dis-" "وكلمة "star" اللاتينية، وهي تعني «منحوس». وتعتبر الصفات «قمري»، و«الزئبقي» (الزئبق)، "venereal" (فينوس)، "martial" (المريخ)، "jovial" (المشترى)، و"saturnine" (زحل)" كلمات قديمة تستخدم لوصف الصفات الشخصية، ويقال أنها تشبه أو تتأثر بالخصائص الفلكية للكوكب، وبعضها مشتق من سمات الآلهة الرومانية القديمة التي سميت بأسمائها. وفي الأدب، استخدم الكثير من الكتاب مثل جيفري تشوسر ووليم شكسبير الرموز الفلكية لإضافة الفطانة والدقة لوصف دوافع شخصياته. وفي الآونة الأخيرة، اقترح مايكل وارد بأن لويس قد وظف سجلات نارنيا بالإضافة إلى خصائص ورموز السبع سماوات. وغالباً ما نحتاج إلى فهم الرمزية الفلكية كي نقدر تلك الأدب. ويعتقد بعض المفكرين المحدثين مثل كارل يونغ، في القوة الوصفية لعلم التنجيم بشأن العقل دون الاشتراك في التنبؤات. وينعكس علم التنجيم في التعليم الجامعي في أوروبا في القرون الوسطى، والتي تم تقسيمها إلى سبع مناطق مميزة، يمثل كل واحدة منها كوكب معين يعرف باسم الفنون الليبرالية السبعة. وتأمل دانتي أليغييري قائلًا أن هذه الفنون، التي أصبحت في ما بعد العلوم التي نعرفها اليوم، مجهزة لنفس هيكل الكواكب. وفي الموسيقى، يعتبر أفضل مثال على تأثير علم التنجيم هو نفوذ جناح الأوركسترا والذي يسميه المؤلف الموسيقي البريطاني جوستاف هولست ب«الكواكب»، حيث يستند الإطار الخاص به إلى الرمزية الفلكية للكواكب. العلم والتنجيم. وبحلول فرنسيس بيكون والثورة العلمية، اكتسبت التخصصات العلمية الناشئة حديثاً وسائل طريقة التجربة والاختبار للتعريف العملي المنظم استنادًا إلى الملاحظات التجريبية. بدأ التباعد بين علم التنجيم والفلك منذ تلك النقطة، وأصبح علم الفلك واحدًا من أهم العلوم الأساسية، بينما ازداد نظر علماء الطبيعة إلى التنجيم بوصفه علم الخرافات. وزاد ذلك الانفصال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ينظر العلماء المعاصرين مثل ريتشارد دوكينز، ووستيفن هوكينغ إلى التنجيم بوصفه غير علمي، كما وصف أندرو فرانكوني من الجمعية الفلكية في منطقة المحيط الهادئ التنجيم بالزائف. وفي عام 1975م، ميزت الرابطة الإنسانية الأمريكية الذين آمنوا بالتنجيم، «على الرغم من عدم وجود أي أساس علمي لمعتقداتهم، وهناك أدلة قوية تثبت العكس». ووجد عالم الفلك كارل ساجان نفسه غير قادر على الإيمان بهذا الافتراض، ليس لأنه شعر بأن التنجيم كان صحيحًا، ولكن لأنه وجد أن لهجة المقولة تتميز بالاستبدادية. وذكر ساجان أنه على استعداد للإيمان بتلك الافتراض، ووصف ودحض المبادئ الأساسية للاعتقادات الفلكية، الذي يعتقد أنه يمكن أن يكون أكثر إقناعاً، وكان سينتج جدلاً أقل من تعميم هذا البيان. وعلى الرغم من أن علم التنجيم تميز بمكانة علمية محدودة لبعض الوقت، فإنه كان موضوعاً للجدل وللبحث بين المنجمين منذ بداية القرن العشرين. وفي دراستهم حول البحث العلمي في التنجيم الولادي خلال القرن العشرين، وثق نقاد علم التنجيم أمثال جيفري دين والمؤلفون المشاركون هذا النشاط البحثي المزدهر، وخاصة داخل المجتمع الفلكي. البحث العلمي. وكثيرًا ما فشلت الدراسات إحصائيا في إثبات العلاقات الهامة بين التوقعات الفلكية والنتائج المحددة فعليًا. واستنتجت اختبارات الفرضيات التي تعتمد على التنجيم أن دقة معاني التوقعات الفلكية لا تزيد على ما هو متوقع من قبيل الصدفة. فعلى سبيل المثال، عند الاختبار المعرفي، والسلوكي، والمادي وغيرها، لم تظهر دراسة "توائم الوقت" الفلكي تأثير الأجرام السماوية على خصائص الإنسان. وهناك اقتراح قائل بأن البحوث الإحصائية الأخرى غالباً ما يعتقد خطأً بأنها دليل على علم التنجيم بسبب قطع غير متحكم فيها. كما اقترح علماء النفس التجريبي أن هناك العديد من الآثار المختلفة التي يمكن أن تسهم في القناعات الفلكية. وهناك اتجاه معروف بالتحيز التأكيدي، حيث أن الناس الذين يحصلون على مجموعة متعددة من التنبؤات يميلون إلى أن تذكر عدد كبير من التنبؤات الدقيقة («ضربات») أكثر من تلك غير الدقيقة («أخطاء»). وبالتالي، يميل الناس إلى وصف مجموعة التنبؤات بأنها أكثر دقة مما هي عليه بالفعل. بالإضافة إلى ظاهرة نفسية ثانية تعرف بتأثير فورير، وهي تشير إلى اتجاه الأفراد لإعطاء تقديرات عالية الدقة لوصف شخصياتهم التي يُـفترض أنها صممت خصيصاً لهم، ولكنها في الواقع عادة ما تكون غامضة وعامة لدرجة أنها يمكن أن تنطبق على طائفة كبيرة من الناس. وعندما تتحول التوقعات الفلكية لتتوافق مع بعض الظواهر تحديدًا، يمكن لأمانة تلك التوقعات المجمعة أن تنجم عن التحيز التأكيدي. وعندما تستخدم التنبؤات لغة مبهمة، قد يعود مظهرها الفردي إلى تأثير فورير. وبالإضافة إلى تأثير فورير قام بييرستين بإعداد اختبار آخر للعلوم الزائفة ومن ضمنها التنجيم والذي خضعت له مختلف أنواع الطرق لتحليل الشخصية توقعات المستقبل ولم تنجح به أي طريقة من تلك الطرق بما فيها التنجيم. في عام 1995م قام باحثان ألمانيان من جامعة جورج اوكست (Georg-August-Universität) بإعداد بحث ردًا على ادعاء مناصري التنجيم في تشابه مصائر التوائم ادعت فيها إثر إحصائية لـ 234 توأم وجود تشابه بنسبة 68% في شخصيات التوائم بحسب توقعات الأبراج وكان هؤلاء قد اعتبروها إنجازاً مقارنة بالنسبة التي سنحصل عليها إذا ما توقعنا بشكل عشوائي وبالصدفة حيث ستكون النتيجة 50%. أعاد الباحثان التجربة التي قام بها مُـروّجو الأبراج عبر إعادة تحليل البيانات وإعادة تقييم النتائج التي كانت قائمة على صور نمطية وكان فيها تناقض أيضًا بين البيانات المذكورة في الإحصائية وبين البيانات الأصلية بالإضافة إلى أن النتيجة الكلية لنسبة التوقعات المطابقة لم تكن تختلف عن الصدفة. كما كتب عالم النفس الفرنسي والإحصائي الذي كرس حياته في محاولة لإثبات صحة بعض أساسيات علم التنجيم، وميشال جاوكيلين، أنه وجد علاقات بين بعض مواقع الكواكب وبعض السمات البشرية مثل الموهبة. وتعتبر أكثر المفاهيم المعروفة لجاوكيلين هي تأثير كوكب المريخ، والتي تشير إلى وجود علاقة بين كوكب المريخ الذي يشغل مواضع معينة في السماء عند ولادة بطل رياضي بارز أكثر من المواضع التي يتخذها عند ولادة شخص عادي. وقدم ريتشار تيرناس فكرة مشابهة في كتابه "كوزموس والنفسية"، حيث يدرس فيه التطابق بين تحالفات الكواكب والأحداث التاريخية الهامة والأفراد. ومنذ الإصدار الأصلي لها في عام 1955م، أصبح تأثير كوكب المريخ موضوع الدراسات النقدية والمنشورات التشكيكية التي تهدف إلى دحضها، بالإضافة إلى دراسات العلوم الهامشية المستخدمة لدعم توسيع الأفكار الأصلية. ولم تحصل أبحاث جاوكيلين إشعارًا علميًا، وقال أحد من أخضعوها للاختبار أن نسبة ظهور هذا التأثير تقل عن تأثير أي مصادفة فهي لا تظهر في 99.994% من الناس بشكل صحيح، هذا وقد كان جاوكيلين قد قال في نهاية حياته أن أي من تأثيرات الأبراج لم يجد لها أي علاقة بما يحدث في حياة الناس، ولم يبق له أي اعتقاد سوى فيما يتعلق بتأثير المريخ الذي تقل نسبة توقعه هو الآخر عن نسبة توقع الصدفة. قام ماك غريفي بدراسة على تواريخ ميلاد 16,634 عالم و6,475 سياسيٍ ليبرهن أن ما أدعاه المنجمون بخصوص أن يكون المولودون “من برج العذراء” ضعيفي الشخصية هو ادعاء خاطئ، فقد تضمنت لوائح تواريخ الميلاد هذه علماء وسياسيين من مواليد “برج العذراء” مثل أي برج آخر، مما يفيد بأن التنجيم غير قابل للاختبار. أيضًا الدراسة قامت بها مجلة Personality and Individual Differences عام 2006م شملت 15000 شخص، لتكون نتيجتها: أنه لا يوجد أي روابط بين تاريخ ميلاد الشخص وشخصيته!. العقبات التي تعترض البحث العلمي. وتجادل المنجمون حول وجود عقبات كبيرة أمام إجراء البحوث العلمية في الفلك، بما في ذلك الافتقار إلى التمويل، وافتقار المنجمين لخلفيات علمية وإحصائية، وقلة خبرة المتشككين وعلماء البحث في علم التنجيم. كما ذكر بعض المنجمين أن قليلاً من الممارسين اليوم يقومون بتجارب علمية حول التنجيم، لأنهم يشعرون بأن العمل مع العملاء يوميًا يمنح العملاء بتحقق شخصي. وهناك حجة أخرى للمنجمين تقول بأن معظم دراسات التنجيم لا تعكس طبيعة الممارسة الفلكية، وأن المنهج العلمي لا ينطبق على علم التنجيم. ويجادل بعض أنصار التنجيم بأن الاتجاهات السائدة ودوافع كثير من معارضي علم التنجيم قد قدمت الوعي أو التحيز غير الواعي في صياغة فرضيات ليتم فحصها، والإبلاغ عن النتائج. الآلية. لم يتفق المنجمون حول تقديم آليات مادية كامنة لتفسير الظواهر الفلكية، ويعتقد عدد قليل من المنجمين المعاصرين بوجود علاقة سببية مباشرة بين الأجرام السماوية والأحداث على كوكب الأرض. ووفقًا لمقال افتتاحي نشرته الجمعية الفلكية لمنطقة المحيط الهادئ، لا يوجد دليل على وجود آلية علمية محددة يمكن من خلالها أن تأثر الأجسام السماوية في شؤون كوكب الأرض. كما طرح بعض الباحثين علاقات سببية بين الملاحظات التنجيمية والأحداث، مثل نظرية التزامن التي طرحها كارل يونغ. لقد فتح كارل يونغ عبر فكرة التزامنية (Synchronicity) الباب لتبرير أمور كثيرة غير منطقية، ولا يوجد لها أي اثبات حقيقي أو أي علاقة سببية كالتنجيم، فالتزامن عند كارل يونغ هو إعطاء معاني للصدفة وفق أسس غير علمية، ولدى كارل يونغ نفسه لا يعد الأمر بمثابة علم. بينما طرح آخرون أساسا لقراءة البخت. ولا يزال البعض يقول أنه يمكن للعلاقات التجريبية المتبادلة أن تعتمد على نفسها معرفيًا، حيث أنها ليست بحاجة إلى أي دعم من أية نظرية أو آلية. وتثير تلك المفاهيم بعض التساؤلات الجدية لدى بعض المراقبين حول جدوى التحقق من التنجيم من خلال التجارب العلمية، بينما ذهب البعض لرفض تطبيق المنهج العلمي على علم التنجيم كليةً. وعلى الجانب اللآخرـ يعتقد بعض المنجمين بأنه يمكن لعلم التنجيم التأثر بالأسلوب العلمي، من خلال أساليب تحليلية متطورة، وهم يبحثون عما يثبت ذلك الرأي من الدراسات الرائدة. وبالتالي، دعا العديد من المنجمين إلى مواصلة الدراسات حول علم التنجيم استنادًا إلى التحقق الإحصائي. المدافعون عن التنجيم والأبراج أشاروا إلى ان “طول الدورة الشهرية للمرأة يتوافق مع مراحل القمر” (وهذا غير صحيح) و”حقول الجاذبية للشمس والقمر قوية بما فيه الكفاية للتسبب في ارتفاع وانخفاض المد والجزر على الأرض”.. لذلك هم يقولون إذا كان القمر يمكن أن يؤثر على المد والجزر، فمن المؤكد أن القمر يمكن ان يؤثر على الشخص! ولكن ما العلاقة بين المد والجزر وبين الانسان؟ إن ما يصفه عالم الفلك الراحل جورج آبيل بأنه يعادل وزن بعوضة واقفة على اليد. أضرار التنجيم. التنجيم قد يبدو نوعًا من الفنون الترفيهية أو بوصفه اعتقادًا غير ضار بالنسبة للكثيرين، غير أن هناك الكثير من الأضرار وعلى مستوى كبير بسبب الاعتقاد بالتنجيم. مثلًا في اليابان ووفقًا لمعتقدات المنجمين اليابانيين، فإن النساء المولودات في السنة المعروفة بحصان النار يُعتقد أن زيجاتهن ستكون فاشلة أو غير سعيدة في سنة 1966م، وهو العام الذي سيوافق عام حصان النار في اليابان، وبسبب ذلك انخفض معدل الولادات في اليابان إلى مليوني ولادة بنسبة 25 في المئة إثر عمليات الإجهاض التي وصلت إلى نصف مليون حالة. لم يكن الناس يريدون المخاطرة بإنجاب فتيات سيكون من الصعب تزويجهن! وكذلك الحال على المستوى الشخصي فإن الأشخاص الذين يؤمنون بالتنجيم؛ أي ما سيكتبه لهم بشكل عشوائي الكهنة والمنجمون؛ ويعتقدون أنه سينطبق عليهم؛ فبطبيعة الحال سيكون التنجيم جزءًا من اتخاذ القرار لديهم في العلاقات، والعمل، والأمور الشخصية، مما يخلف كوارث كبيرة تنعكس بشكل يشبه المرض على المجتمع، ويتزايد مع تزايد من يؤمنون بأمور كهذه، فمثلًا في الولايات المتحدة بين عامي 2004م و2008م كان 29% من الناس يتقبلون توقعات التنجيم. وتؤثر العلوم الزائفة على عقلية التفكير الجماعى المشهور بالحجج، وهذا أكبر تهديد لمجتمع الوسائط التعليمية، فالهدف من الإعلام هو الحصول على تقييمات عالية من خلال مناشدة الشعب وفي التفكير الجماعي، وكلما تقبل الناس فكرة ما، كلما إزدادت المعتقدات الراسخة في ثقافتهم، وهنالك قول مأثور لهذا النوع من الدعايات يقول: (إذا كررت الكذب بما فيه الكفاية، فسوف يصدقك الناس). لذلك تصبح العلوم الزائفة أقوى كلما ازداد تصديقها، وفي منهج وسائط الإعلام يحجب ازدهار العلوم الزائفة والأساطير وجود العلوم الصحيحة فالحقيقة الموضوعية والمنطق العلمي من أكثر الأشياء التي تهدد العلوم الزائفة. وهذه الآثار المذكورة يمكن ملاحظتها من خلال ملاحظة حضور المواد المتعلقة بالتنجيم حتى في المحافل الثقافية مثل معارض الكتب ومحال بيع الكتب وإلى حد كبير. في دين الإسلام. في الحديث النبوي: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) رواه أبو داود، وإسناده صحيح والسحر يعتبر باب من الكبائر وقد يكون من الكفر ولذلك ذكر في الحديث: عن وصيفة بنت أبي عبيد عن بعض ازواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرَّافًا فسألهُ عن شيءٍ فصدَّقهُ لم تقبل لهُ صلاةُ أربعينَ ليلة). "جائزة آغا خان للعمارة" هي جائزة معمارية أنشأها آغا خان الرابع في عام 1977 في مدينة جنيف بسويسرا وهي تهدف إلى تحديد ومكافأة المفاهيم المعمارية التي تلبي احتياجات وتطلعات المجتمعات الإسلامية في مجالات التصميم المعاصر والإسكان الاجتماعي وتنمية المجتمع وتحسين وترميم وإعادة الاستخدام والمناطق التي تحتاج للحفظ، فضلا عن تصميم المناظر الطبيعية وتحسين البيئة، الجائزة تقدم في دورات، كل دورة مدتها ثلاث سنوات لمشاريع متعددة، الجائزة هي جائزة نقدية مجموعها مليون دولار أمريكي، وترتبط الجائزة مع مؤسسة الآغا خان الثقافية ووكالة شبكة الآغا خان للتنمية . منح الجائزة. الجائزة تستهدف المجتمعات التي يكون للمسلمين فيها حضور كبير، وينظم على أساسها دورة مدتها ثلاث سنوات، وتحكمها لجنة توجيهية برئاسة الآغا خان الرابع، وتشكل لجنة جديدة في كل دورة لتأسيس معايير الأهلية للمشروع، وتقديم التوجيه الموضوعي مع الإشارة إلى المخاوف الحالية، ووضع خطط للمستقبل على المدى الطويل للجائزة، اللجنة التوجيهية مسؤولة عن اختيار رئيس لجنة التحكيم الذي يعين لكل دورة من الجائزة، وتعيين الأنشطة مثل الندوات والزيارات الميدانية، وحفل توزيع الجوائز والمنشورات والمعارض . يعطى رئيس الجائزة جائزة تكريمية للإنجازات التي تقع خارج ولاية لجنة التحكيم الرئيسية، وقد تم تقديم هذه الجائزة الفرعية من رئيس لجنة الجائزة أربع مرات: في عام 1980 أعطيت للمهندس المعماري والتخطيط الحضري المصري حسن فتحي، وفي عام 1986 أعطيت للمهندس العراقي والمربي رفعت الجادرجي، وفي عام 2001 أعطيت للمهندس السريلانكي سري جيفري باوا، وفي عام 2010 أعطيت لمؤرخ الفن الإسلامي والهندسة المعمارية أوليغ غرابار . دورات الجائزة. قيمة جوائز جائزة آغا خان للعمارة تصل إلى مليون دولار أمريكي، والتي تشكل أكبر جائزة معمارية في العالم، وتعرض كل ثلاث سنوات للمشاريع المحددة من قبل لجنة التحكيم الرئيسية، ومنذ عام 1977 تم تجميع الوثائق على أكثر من 7500 مشروع بناء تقع في جميع أنحاء العالم، منها أكثر من 100 مشروع حصلوا على جوائز . الدورة الأولى (1978-1980). أقيم حفل توزيع جوائز الدورة الأولى في حدائق شاليمار في لاهور في باكستان، وخلال هذه الدورة أعطيت جائزة الرئيس لللمعماري المصري حسن فتحي تقديرا لالتزامه مدى الحياة للعمارة في العالم الإسلامي، وكان المهندس المعماري البارز مزهر الإسلام عضوا في لجنة تحكيم جائزة الرئيس الآغا خان للعمارة الأولى . الحاصلين على الجائزة: الدورة الثانية (1981-1983). جرى حفل حفل توزيع جوائز الدورة في الباب العالي في إسطنبول، أما الحاصلين على الجائزة فهم: الدورة الثالثة (1984-1986). وجرى حفل توزيع الجائزة في دورتها الثالثة في قصر البديع في مراكش في المغرب، وقد تم اختيار ستة فائزين من بين 213 منشأة دخلت غمار المسابقة، وكان الحفاظ على البلدة القديمة في مدينة موستار وترميم المسجد الأقصى أمثلة على التراث الثقافي، أعطيت جائزة الرئيس لمدى الحياة في الإنجازات المعمارية إلى المهندس المعماري العراقي رفعت الجادرجي، الحاصلين على الجائزة: الدورة الرابعة (1987-1989). جرى حفل توزيع الجائزة في قلعة صلاح الدين الأيوبي في القاهرة، نظرت الدورة الرابعة للجائزة في ما مجموعه 241 مشروع مرشح، ومن بين هؤلاء المشاريع تم اختيار 32 مشروع كانت على القائمة القصيرة للاستعراض تقني، وتم من خلال هذه القائمة القصيرة اختيار 11 مشروع فائز، لوحظت التركيز على موضوعين في هذه الدورة هما: إحياء تقاليد البناء الماضية، بالإضافة للمشاريع التي تعكس جهود الرعاية الفردية للعمارة والمنظمات غير الحكومية في تحسين المجتمع، الحاصلين على الجائزة: الدورة الخامس (1990-1992). أقيم حفل توزيع الجوائز في دورتها الخامسة في ساحة ريجستان في سمرقند عاصمة أوزبكستان، أما الحاصلين على الجائزة: الدورة السادسة (1993-1995). أقيم حفل توزيع الجوائز في دورتها السادسة في كراتون سوراكارتا في سوراكارتا في اندونيسيا، أما الحاصلين على الجائزة: الدورة السابعة (1996-1998). وجرى حفل توزيع جائزة آغا خان للعمارة في قصر الحمراء في غرناطة في إسبانيا، اختارت لجنة التحكيم سبعة مشاريع فائزة من 424 مشروع تقدم للحصول على الجائزة، وخلال هذه الدورة تم التركيز بشكل خاص على المشاريع التي استجابت بشكل خلاق للقوى الناشئة في العولمة، بالإضافة لبعض القضايا مثل الضغط السكاني والتدهور البيئي وأزمة الدولة القومية والتغيرات في نمط الحياة والقيم الثقافية والعلاقات بين الفئات الاجتماعية وبين الحكومات والشعوب، أما الحاصلين على الجائزة: الدورة الثامنة (1999-2001). أقين حفل توزيع جائزة آغا خان للعمارة في قلعة حلب في سوريا، وخلال هذه الدورة أعطيت جائزة الرئيس لجيفري باوا تكريما له واحتفال بالإنجازات التي قام بها في حياته ومساهمته في مجال الهندسة المعمارية، أما الحاصلين على الجائزة: الدورة التاسعة (2002-2004). أقيم حفل توزيع جائزة آغا خان للعمارة في مقبرة همايون في نيو دلهي في الهند، خلال الدورة التاسعة تم ترشيح 378 مشروع، ومن بين هؤلاء المشاريع تم اختيار 23 مشروع لاستعراضها في قائمة صغيرة، ثم تم الاختيار من لجنة التحكيم سبعة مشاريع لفوز بالجائزة، أما الحاصلين على الجائزة: الدورة العاشرة (2005-2007). عقدت جائزة آغا خان للعمارة أعمالها في دورتها العاشرة في أبراج بتروناس في كوالالمبور في ماليزيا، تميزت هذه الدورة بالذكرى السنوية الثلاثين لاقامة الجائزة، وتم عرض ما مجموعه 343 مشروع للنظر فيها، ثم جرى استعراض 27 من الموقع من قبل خبراء دوليين، أما الحاصلين على الجائزة: الدورة الحادية عشر (2008-2010). عقدت أعمال جائزة آغا خان للعمارة في الدورة الحادية عشر في متحف الفن الإسلامي في الدوحة، وتم في الدورة ترشيح ما مجموعه 401 مشروع، اختير منها 19 على القائمة المختصرة، وذهبت جائزة الرئيس للمعماري أوليغ غرابار، وأما الحاصلين على الجائزة: الدورة الثانية عشر (2011-2013). تم اختيار المرشحين النهائيين من مجموع 20 مشروع للاحتفال بجائزة آغا خان للعمارة في دورتها الثانية عشر، والتي أقيمة في لشبونة في إسبانيا، المشاريع الفائزة هي: الدورة الثالثة عشر (2014-2016). تم ترشيح ما مجموعه 348 مشروعًا من 69 بلدًا، والفائزون هم: رفعة الجادرجي (6 ديسمبر 1926 - 10 أبريل 2020)، مهندس معماري وفنان تشكيلي عراقي ولد في مدينة بغداد، وحصل على جائزة أغاخان للعمارة في عام 1986، وجائزة تميّز للإنجاز المعماري مدى الحياة عام 2015، ومنح الدكتوراه الفخرية من جامعة كوفنتري البريطانية في نفس العام. ودرس الفلسفة في جامعة هارفارد. غالبًا ما يشار إليه على أنه "عراب العمارة العراقية الحديثة"، حيث صمم أكثر من 100 مبنى في جميع أنحاء البلاد. ووصفته الباحثة الفرنسية في فن العمارة الحديثة في العراق سيسيليا بييري بأنه "كان أحد عمالقة العراق في القرن العشرين". وهو عضو فخري مُنتخب في الجمعية الملكية البريطانية للمعماريين منذ 1982. النشأة ونهجه المعماري. ولد الجادرجي في بغداد عام 1926 لعائلة ذات نفوذ يسارية التوجه. لعب والده الصحفي والسياسي والوزير كامل الجادرجي، دورًا مركزيًا في الحياة السياسية العراقية كمؤسس للحزب الوطني الديمقراطي عام 1946 ثم رئيسًا للحزب. وأشقاؤه هم نصير الجادرجي وباسل ويقظان وأمينة. أمّا جده الذي يحمل الاسم نفسه (رفعت) فقد كان رئيس بلدية بغداد أواخر العهد العثماني. درس الجادرجي ليصبح مهندسا معماريا. في عام 1952، بعد أن أكمل تدريبه وتخرج، عاد إلى بغداد وبدأ العمل على ما أسماه "تجاربه المعمارية". تعد الهندسة المعمارية لرفعة الجادرجي مستوحاة من خصائص العمارة العراقية الإقليمية، والذكاء المتأصل فيها، ولكن في الوقت نفسه أراد الجاردجي التوفيق بين التقاليد والاحتياجات الاجتماعية المعاصرة. شرح الجادرجي فلسفته تلك في مقابلة: في سياق العمارة، أطلق الجادرجي على هذا النهج لقب النهج "الإقليمي الدولي". كان نهج الجادرجي متسقًا تمامًا مع أهداف مجموعة بغداد الحديثة، التي تأسست عام 1951، والتي كان أحد أعضائها الأوائل. سعت هذه المجموعة الفنية إلى الجمع بين التراث العراقي القديم والفن والعمارة الحديثة، من أجل تطوير جمالية عراقية، لم تكن فريدة من نوعها في العراق فحسب، بل أثرت أيضًا في تطوير لغة بصرية عربية. كان رفعة أحد الشركاء في مكتب الاستشاري العراقي في بغداد. واكمل شهادة البكالوريوس في العمارة من جامعة هامرسميث عام 1954. ومن أعمالهِ مبنى الاتحاد العام للصناعات، ومبنى نقابة العمال، ومبنى البدالة الرئيسية في السنك، ومبنى البرلمان العراقي. ولهُ أعمال فنية أخرى فهو المصمم للقاعدة التي علق عليها الفنان جواد سليم نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد كما أنه صمم نصب الجندي المجهول الأول في عقد الستينات من القرن العشرين في ساحة الفردوس. وصمم أيضا العلم العراقي الأزرق المثير للجدل والذي لم يعتمد. تأثرت أعمال رفعت المعمارية بحركة الحداثة في العمارة ولكنها كانت ذات طابع محلي. معظم واجهات المباني التي صممها مغلفة بالطابوق الطيني العراقي وعليها أشكال تجريدية تشبه الشناشيل وغيرها من العناصر التقليدية ولكن بتكنولوجيا بناء حديثة. وصل رفعة الجادرجي بالعمارة التقليدية "التحدارية" كما يطلق عليها إلى المستوى الشكلي التجريدي، فأصبح ينظر إليها كمنحوتة فنية لها خصائص تقليدية مجردة حسب مفهومه، لكنه لم يتعامل مع الفراغ المعماري بتلك النظرة التحدارية أو بتلك الخلفية التقليدية، فعندما نشاهد مساقطه الأفقية نجد أنها في كثير من الأحيان تكون مساقط أفقيه مستوحات من الحداثة. مسيرته. كانت أعمال الجادرجي الأولى مرتبطة بالخطاب الذي تبناه أعضاء مجموعة بغداد للفن الحديث وممثلة له، بما في ذلك النحاتان جواد سليم ومحمد غني حكمت والفنان المثقف شاكر حسن آل سعيد. اعتمدت تصاميمه على تجريد مفاهيم وعناصر المباني التقليدية وإعادة بنائها بأشكال معاصرة. ومع ذلك، أشار منتقدو الجادرجي إلى أنه على الرغم من تعاطف الجادرجي مع أهداف الجماعة، إلا أنه كان حداثياً في جوهره. كانت أعمال الجادرجي الأولى في المقام الأول تختص بترميم وإعادة بناء المباني القديمة. في عام 1959، كلف ببناء نصب تذكاري عام بارز، وهو "نصب الجندي المجهول بالكرخ"، الذي دمرته فيما بعد حكومة صدام حسين البعثية، واستبدل بتمثال لصدام نفسه. وكان يشير نصب الجادرجي، الذي يقع في موقع مركزي في ساحة الفردوس ببغداد، إلى التقاليد العراقية، ويستلهم من النصب القوسي المماثل بالقصر الساساني، بطسيفون. وصف النصب بأنه عبر عن بنية بسيطة ورمزية وحديثة، وتكشف الرسومات التخطيطية للتصميم (والموجودة في معهد الفنون الجميلة في بغداد) عن مصدر إلهام التصميم، والذي يشبه أمًا تنحني لالتقاط طفلها الشهيد. استمر الجادرجي في استخدام الزخارف العراقية القديمة في تصاميم بنائه. وتستلهم أعماله، مثل مبنى حسين جميل (1953)، ومستودع التبغ (1965)، سكن رفيق (1965) وبناية البريد المركزي (1975)، من الممارسات العراقية التقليدية لضبط درجة الحرارة من خلال التهوية الطبيعية، والساحات، وعكس الضوء. كما استخدم اللغة المعمارية المتمثلة في الأقواس والأرصفة المتجانسة التي تذكر الزوار بتاريخ العمارة العراقية القديمة. على الرغم من أن تصميماته غالبًا ما تستخدم عناصر محلية، إلا أنه غالبًا ما كان يدمجها في أشكال جديدة. في بعض الأحيان، اعتمد على التصميمات الخارجية التقليدية، لكنه صمم الديكورات الداخلية بصيغة أوروبية. عمل الجادرجي في منصب رئاسة قسم المباني، في مديرية الأوقاف العامة ثم مديرا عاما في وزارة التخطيط في أواخر الخمسينيات، ورئيسا لهيئة التخطيط في وزارة الإسكان، وساعده ذلك في تطوير اهتماماته الهندسية. في عام 1978، حكم على الجادرجي بالسجن مدى الحياة بتهم لا أساس لها خلال رئاسة أحمد حسن البكر. ومع ذلك، بعد أن أمضى قرابة عامين في سجن أبو غريب، أطلق سراحه عندما تولى صدام حسين السلطة. أراد صدام أن يشرف أفضل مهندس معماري في العراق على الاستعدادات لعقد مؤتمر عدم الانحياز في بغداد عام 1983 وللمساعدة في الخطط العامة لـ"منح بغداد عملية تجميل". أصبح الجادرجي مستشار الحسين المعماري لتخطيط مدينة بغداد للفترة 1982-1983. أثناء سجنه، كتب كتابًا عن العمارة، بعنوان "الأخيضر والقصر البلوري،" مستخدمًا عناصر هربتها زوجته إليه في سجن أبو غريب. وصف الكتاب بأنه "عمل أساسي ومهم" في موضوع العمارة العراقية. في الثمانينيات، أصبح الجادرجي مستشارًا لرئيس البلدية، وهو الدور الذي جعله يشرف على جميع مشاريع إعادة الإعمار في بغداد. غادر العراق عام 1983 لتولي منصب أكاديمي في جامعة هارفارد. بعد بضع سنوات، ولدى عودته إلى بغداد، أحزنه التدهور الذي أصاب المدينة. وقال حينها "لا أصدق ما الذي جرى. لقد تحول كل شيء إلى خراب تقريبا، لقد تعرض العراق لغزوات ولم يستقر منذ فترات طويلة وهذا ما ينعكس باستمرار على التفاصيل الحياتية والعمرانية". عندما عاد إلى العراق في عام 2009، خيبت البلاد آماله بشكل كبير. وتضيف شرارة: "ذهبنا لمدة 10 أيام. "زرنا أربيل وبغداد، لكن الرحلة كلها أحزنته - مجرد رؤية ما حدث للعراق، وما أصبح عليه شارع الرشيد في بغداد، كان كافياً لإعادتنا إلى لندن. قرر هو وزوجته مغادرة العراق بشكل دائم واستقرا في لندن والتي أقام فيها بقية حياته، وبها توفي. جنبا إلى جنب مع والده، قام الجادرجي بتوثيق معظم أجزاء بغداد الأبرز وكذلك العراق وسوريا بشكل عام من خلال الصور، إذ كانا يخشيان أن تضيع الهندسة المعمارية والآثار الإقليمية بسبب التنمية الجديدة المرتبطة بطفرة النفط. في عام 1995 نشر كتابا يضم صور والده الثمينة. أتاح له منصب والده كسياسي الوصول إلى العديد من الأشخاص والأماكن التي ربما كانت صعبة الوصول على المصورين الآخرين. فاز كتابه المعنون "في سببية وجدلية العمارة" بجائزة الشيخ زايد للكتاب، وذكرت صفحة الجائزة أن سبب فوزه كان "لأنه يجمع بين حس الفنان وتأمَّل المفكِّر، ويقدِّم فيه منظوراً جديداً لمحددات فن العمارة بين الحاجات النفعية والرمزية والجمالية على المستويات الجماعية والفردية، ممّا يؤدي لتغليب الجانب الوظيفي تارة وتطعيم العمارة بالعناصر التراثية تارة أخرى، ليخلص إلى بلورة رؤية جدلية للمعاصرة مشبعة بالقيم الجمالية ومنخرطة في الكونية في آن واحد". أعماله. على الرغم من أن الجادرجي صمم العديد من المساكن، إلا أنه اشتهر بأعماله العامة، بما في ذلك مباني ومقرات المؤسسات والمعالم البارزة. تمت إزالة "نصبه التذكاري للجندي المجهول" (1959)، الذي يوصف بأنه هيكل بسيط ورمزي وحديث، من ساحة الفردوس لإفساح المجال لتمثال صدام حسين في أوائل الثمانينيات. تم إسقاط التمثال البديل بدوره في 9 أبريل 2003 على مرأى من العالم، حيث صورت وسائل الإعلام العالمية الدمار. ومن أعماله البارزة الأخرى: من مؤلفاته. للجادرجي العديد من الكتب والمقالات حول العمارة ومعظم مؤلفاتهِ في التنظير المعماري، ومنها: إرثه. في عام 2017، تم إنشاء جائزة رفعة الجادرجي لتكريم المهندسين المعماريين المحليين الذين يشاركون في إعادة بناء أجزاء مدمرة من العراق. تمنح الجائزة تحت مظلة جوائز تميز. في نفس العام، تبرع أيضًا بأرشيفه المعماري وأرشيف الصور الفوتوغرافية لوالده كامل الجادرجي إلى مركز التوثيق التابع لمكتبات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. الحياة الشخصية. في عام 1954، تزوج من الناشطة الشيوعية بلقيس شرارة، وهي من مواليد مدينة النجف عام 1933، والحاصلة على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة بغداد عام 1956. ولم ينجبا أطفالًا لرفضهما فكرة إنجاب الأطفال وقال: "أنا وزوجتي قرّرنا ألا ننجب أطفالاً؛ لأن البشر يخرّبون الأرض". وتحدث الجادرجي في حديث مع ريكاردو كرم عن إلحاده. بعد دراسة الفلسفة مع زوجته بلقيس شرارة، توصل إلى فهم أن "الأديان نشأت من السحر". قال إنه يحترم الأديان كافة مع ذلك، وطلب بعد وفاته ألا يصلى عليه، وأن يحرق جسده. تقاعد الجادرجي من الهندسة المعمارية في عام 1982 وبعد ذلك كرس وقته للبحث والكتابة. توفى الجادرجي بسبب إصابته بمرض فيروس كورونا في لندن يوم الجمعة الموافق 10 نيسان 2020 عن عمرٍ يُناهز 93 سنة. ونعاه رئيس الجمهورية العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء المكلف مصطفى الكاظمي. حينما بدأت الإمبراطورية الرومانية في الاضمحلال، وبدأ الطراز الرومانسكي في الظهور في أقطار غرب أوروبا والتي كانت لا تزال تحت سيطرة روما، وحددت المواقع الجغرافية لهذه البلاد كثير من مظاهر الطراز وخصائصه. وفضلاً عن أن هذا الطراز من أصل روماني حيث أشتق اسمه، فإنه يدين بعض الشئ إلى العمارة البيزنطية، ولا ريب أن وجود الكثير من المباني الرومانية في إيطاليا وجنوب فرنسا كان له أكبر الأثر على معالم العمارة الرومانسكية في هذه المنطقة، حيث يضعف هذا التأثير في شمال فرنسا وألمانيا وإنجلترا لعدم وجود مباني رومانية في هذه المناطق. القبو في العمارة الرومانسكية. أهم ما يلاحظ في هذا الطراز كثرة الأقبية وان هذا بسبب تأكل الأسقف الخشبية بسبب النيران. وكانت الطريقة المستخدمة مستوحاة من الطريقة الرومانية حيث يتقاطع قبوين مستمرين نصف دائريين متساويين، مما ينتج عنه أن يكون سطح التقاطع على شكل بيضاوي. ثم تطورت حيث تم تحديد القبو المتقاطع عن طريق عقود يقال لها "ribs" تتكون من أضلاع عرضية وأضلاع متقاطعة. وكانت دعائمه عبارة عن أعمدة مربعة الأضلاع يحيط بها أعمدة أو أكتاف ترتكز عليها أحيانا أنصاف أعمدة وأكثر هذه الدعائم استخداما هو الذي يكون على شكل صليب إغريقي. وتتميز أيضا بالعقود المخمسة أو المدببة. الأعمدة. تمتاز الأعمدة في العصر الرومانسكي بتيجانها المختلفة الأشكال وأبسط أنواع هذه التيجان على شكل سلة ويتألف من مكعب قطعت زواياه السفلية بشكل مُستدير. تطور الطراز عبر أوروبا. انتشر الطراز تقريبا في جميع أنحاء أوروبا وإن ظهر أثره جلياً في فرنسا وألمانيا وإنجلترا بالأخص. فيما يلي عرض لأهم خصائص وأمثلة العمارة الرومانسكية ببعض مناطق أوروبا. الطراز الرومانسكي الإنجليزي. استعمل الإنجليز العقود الزخرفية في نهايات الحوائط من الخارج وقد كانوا دائما يقيمون برجا مربعا للأجراس أعلى تقاطع أذرع الكنيسة مع البهو الرئيسي. وكان يسمى الطراز الرومانسكي في إنجلترا بالطراز النورماندي. الطراز الرومانسكي الألماني. تحررت قليلا من تأثير العمارة الرومانية، فنجد أنه كان حتى هذا العصر للكنيسة مدخلًا من جهة الغرب وقبلة واحدة من جهة الشرق، فجاء الألمان وأضافوا قبلة أخرى في الغرب فأنتقل المدخل إلى جوانب الكنيسة، وفي بعض الأحيان كانت توجد ثلات قبلات. أما المساقط الأفقية فكانت كما هو متبع على شكل صليب ذات أسقف خشبية أعلا البهو الأوسط وأقبية أعلا الأجنحة الجانبية. العمارة الرومانيسكية. إن العمارة الرومانيسكية هي أسلوب تشييد خاص بالفن الرومانيسكي، والتي أنتشرت في أوروبا القرن الحادي عشر والثاني عشر حتى ترسخ الفن القوطي في فرنسا القرن الثاني عشر وبشكل أكبر في الدول الأوروبية الأخرى. الصفة "رومانيسكي" هي الترجمة الإيطالية لكلمة roman وهي لفظة أُطلقت في القرن الثامن عشر في فرنسا للأشارة إلى اللغات والأداب الرومانية واللاتينية الحديثة. تشارليز دي جيرفيل عرف أيضاً كلمة "roman" في لغتة المعمارية حيث حاز نجاحًا : ففي فترة قصيرة كلمة "رومانيسكي" كان يوصف بها كل الثقافة التصويرية في فرنسا والتي تطورت بعد الرومانيون من أجل ازدهار العمارة الغوطية. المفهوم الرومانيسكي. إن مصطلح "رومانيسكي" يرجع تحديدًا إلى العمارة الرومانية والتي أخذ منها بعض العناصر التركيبية (القوس، العمود، الدعامة والقبو) وخلفية ضخمة ومتسعة. ومع ذلك فتفسير الرومانيسكية بأنها إحياء لعلم التشييد الروماني وبالتالي فضائية العمارة الأمبراطورية ليست مقبولة من الجميع ولكن اقترب مفهموم العمارة الرومانية بأنها مشتقة من العمارة الرومانيسكية. وعلى نفس نسق المصطلح الرومانيسكي والذي يستخدمهُ المؤرخون فهناك بعض المصطلحات مثل ما قبل الرومانيسكية (والتي تشير إلى الإنجازات المعمارية في القرن التاسع والعاشر)، والرومانيسكية البدائية (والتي تشير إلى المظاهر الأولية لهذة اللغة الحديثة في المرحلة ما بين القرن العاشر والحادي عشر)، والرومانيسكية المُتأخرة وذلك بالنسبة للأقاليم والتي لم تتقبل الأسلوب الغوطي الجديد في القرن الثالث عشر. من منتصف القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين أصبحت العمارة الرومانيسكية مصدر إلهام لأتجاه فني جديد والتي عرفت بعمارة رومانية حديثة. الإطار التاريخي. إن الثقافة و الحضارة الأوروبية قد خضعت لطفرة بعد عام 1000، ويرجع ذلك إلى سلسلة من ابتِكارات التكنولوجية في مجال الزراعة أولاً والذي أدى إلى زيادة الإنتاج الغذائي وانتشال السكان من نقص غذاء متوطن. مما أدى إلى بدء مرحلة مميزة والتي تسمح بزيادة عدد السكان وأستئناف التجارة وتنمية القرى والمدن التي تعتبر مركز الأسواق؛ إن نمو المناطق الحضرية أدى تدريجيًا إلى ظهور طبقة أجتماعية جديدة وهي"البرجوازية" والتي مُتخصصة في الأنشطة التصنيعية والتجارية والوسيطة بين الفلاحين والأرستقراطيين أو رجال الدين. وكذلك في فرنسا، فقد قام النظام الإقطاعي بتفكيك السلطة وذلك من أجل تكوين طبقة لسادة الحرب. كل هذة الكيانات طالبت بأنشاء مباني جديدة وخاصتا الدينية. ويضاف إلى ما سبق الأصلاح الديني التي تقوم به الأديرة (مثل دير كلوني في القرن الحادي عشر وسيتواكس في القرن الثاني عشر)، ونظام الكنائس الأبرشية في الأرياف، وأنتشار الرحلات الدينية وبالتالي الكنائس الكبرى والمستشفيات ومساكن للحجاج. خصائص الرومانيسكية. إن الرومانسيكية تتمثل بوضوح في جانبين متناقضين: الجانب الأول أنها ليست نتاج دولة واحدة أو أقليم واحد ولكنها نشأت في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا بشكل متزامن، وأثناء تطورها أحدثت تأثيرات متبادلة في كل أوروبا الغربية حتى أنشأت فعليا ثقافة أوروبية. الجانب الأخر أن كل أقليم يقدم نماذج ومخططات بنائية ومادية مُختلفة عن بعضها البعض. وهذة الطبيعة الثنائية من المحتمل أن تكون الصورة التاريخية والجغرافية الأفضل لأوروبا في العصور الوسطى وذلك لأنها وحدت عناصر عالمية بأخرى محلية بشكل كبير. وهذا يحتوي على مجموعة خصائص متنوعة والتي يمكننا نسبتها إلي العمارة الرومانيسكية. العمارة الدينية. العمارة الدينية الداخلية. وبالأخذ في الأعتبار الاختلافات المحلية، نستطيع أن نجد بعض العناصر المميزة في الأسلوب الرومانيسكي وخاصة فيما يتعلق بالمنشأت الدينية والتي هي أكبر مظهر لذلك. على سبيل المثال، فالتقسيمة الداخلية غالبًا ما تكون مفصلة وتنقسم إلى امتدادات: الامتداد الواحد في صحن الكنيسة المركزى (بقاعدة مربعة) كثير ما يقابله امتدادان بطول أقل بمقدار النصف في اصحان الكنيسة الجانبية. يكثر بناء الحوائط الصلبة، ومعالجة الأسطح تكون بطريقة قابلة للتشكيل سواء من الداخل أو الخارج، مع وجود عناصر بارزة وأخرى مُضمرة، والتي بالإضافة لأنها تباين تقوسات القناطير فهى تخلق ألعاب الضوء والظل. لا يتم استخدام العمدان فقط في كنائس المسيحية المبكرة ولكن تستخدم أيضًا الدعامات، وبعد ذلك تم استخدام دعامات مُركبة كتلك على شكل الصليب بأنصاف عواميد بداخلها. تقدم العمدان، عدا حالات الترميم، تيجان منحوتة بأشكال للنبات أو أشكال خيالية، إما هندسية، ولكنها على أية حال أصيلة ومختلفة مقارنة بالهندسة المعمارية الرومانية أو الخاصة بالمسيحية المبكرة. الأقباء وما فوقها الصليب. في القرن التاسع عشر أتخذت مدرسة الفلسفة الوضعية (الواقعية) أستخدام القبب المُغطاة عُنصرًا مُميزًا للعمارة الرومانيسكية والأقباء خاصة، وتبسيطاُ ربما يكون إلزاميا من أجل تطور يربط بين فن العصور الوسطى والفن الغوطي والذي لا يتتطابق تمامًا مع الواقع. من جهة فإن المنشأت الهامة المتعلقة بالعمارة الرومانسكية مثل الكاتدرائية في مودينا وسان ميناتو ال مونتي في فلورنسا والكنيسة الرئيسة سانت إتيان في كاين كانت في البداية مُغطاة بأعمدة، والتي فيما بعد تم إستبدالها بالقباب. و من جهة آخرى فأن أستخدام القباب وخاصة في المناطق الصغيرة، كان موجودًا بالفعل قبل عام 1000، على سبيل المثال في الكنائس الواقعة في المنطقة ما بين فورلي ورافيننا، ومنذ بداية القرن الحادي عشر في المنطقة الألمانية ولومبارديا ، وأيضآً في كنيسة سانتا ماريا الكبري في لوميلو. إن القباب وما فوقها الصليب كانت بشكل ما واحدة من المؤثرات التي سمحت بتنفيذ البنايات الرومانية الرائعة؛ و التي تتكون من تقاطع قوسين مائلين والذين يتميزوا بصفة ثابتة وهي تحمل الثقل بدلًا من الهيكل المعماري بأربعة دعامات ركنية فقط وذلك فيما يتعلق بالقباب النصف دائرية؛ مما أدى إلى تقليل الحاجة للأعمدة وإمكانية تخفيف الضغط على الجدران، والتي من المُمكن أن تكون لهذا السبب أكثر طولاُ في الأرتفاع وبها العديد من النوافذ متقدماُ بها نحو الغوطية في هذه الفترة الزمنية. التطوير المحلي للرومانيسكية. الرومانيسكية قد كانت ظاهرة أثارت اِهتمام مناطق واسعة من أوروبا حيث أن كل منطقة تتميز عن الأخرى لوجود بعض الأختلافات. وفي نهاية الأمر فإن الانعكاسات الإقليمية لا سبيل إلا إليها في أقليم كبير بهذا الشكل ومع أنماط مختلفة من الحكومة: في المنطقة الألمانية كان مازال قويًا سلطة الأباطرة، ولذلك فمن الطبيعي الإستمرارية الفنية مع العمارة الفرنجية والعمارة الأوتونينية، بينما أدي التطور المبكر للبلديات في إيطاليا إلى مشهد أكثر حركة وأختلافًا. بالنسبة لإيطاليا فإن الكاتدرائية هي النموذج الأثري بينما في فرنسا الدير، في إسبانيا فقد تعاونت الأديرة الكبرى مع أمراء المدن من أجل إنشاء الأضرحة أماكن العبادة للحجاج؛ في جنوب إيطاليا فإن الأجواء شجعت علي التبادل مع العرب والبيزنطيون؛ و أخيرًا في نورمانديا كان هناك طبقة من الأمراء، بدعم كبير من رؤساء الأديرة والأساقفة، أسسوا سلسلة من المؤسسات المهيبة لتشرييع سلطتهم، الأمر الذي تكرر بعد أحتلال أنجلترا. التسلسل الزمني. قد يكون مجديأً ترتيب قائمة مرتبة ترتيبأً زمنيأً بأسماء المعالم الأثرية الرئيسية المنشأة في أوروبا ما بين القرن الحادي عشر والنصف الأول من القرن الثاني عشر: - نصف القرن الحادي عشر : بناء كنيسة دير سانت فوي في كونكويس. ألمانيا. من الواضح أن ألمانيا هي الدولة حيث تُضافر الفن الروماني مع الفن الأتوني الخاص بهذة المنطقة. ومن كنيسة سان ريكاريو في سنتيولا (بالقرب من آبييفل الحالية، في شمال فرنسا) ُأنشئ العديد من العمارات الألمانية والتي يرجع تاريخها إلى أواخر القرن العاشر: وينتمي إلى هذا الإتجاة كنيسة سان بانطاليون والتي تتميز أساسيًا بـ 980 (Westwerk). نمط (Westwerk) تم إستكماله لاحقاَّ في كنيسة سان ميخائيل في هيلدسهايم، والتي نشأت بعد عام 1000 مباشرةُ: حيث أن تم إنشاء المبنى طبقًا لخريطة طبوغرافية لنموذج هندسي منظم، مع الصحن الرئيسي والتي لها ثلاث أروقة متداخلة مع ممرين وجوقين ومحرابين. السمات الخاصة لرواق الهيلدسهايم، بالرغم من سقفه الذي مازال خشبياً، هي أن الدعامات البديلة تدعم نظرية الأقواس النصف دائرية: وهذا الُمخطط، والذي يضمن تتابعً الركائز والأعمدة، كان له انتشاراً ملحوظ في وسط أوروبا. كان بمثابة نقطة تحول إعادة بناء كاتدرائية سبييرا (سبيرا الثانية) عام 1080 وذلك بعد الأنتهاء من الكاتدرائية الأولى (سبيرا الثانية) بعشرون عامًا. في البناية الجديدة تم أستئناف النموذج الرائع الخاص بالكنيسة السابقة بصحن أيضاَ واسع ومرتفع، ولكن هذه المرة مغطي بقبة وفوقها صليب بدلاَ من السقف المسطح. بالأضافة الي ذلك فبداخل الممرات أستمر العنصر التزييني لشبة الأعمدة المرتفعة والتي كانت قبل تتحمل الدعائم (الركائز) وبعد ذلك على الجدار وتضمنت أيضاَ السقف. كان الطابع التشكيلي لكاتدرائية سبييرا الثانية حاضرًا بشكل كبير حيث وصل لإنشاء ثلاث طبقات من الركائز و الأعمدة، حيث أن كل واحدة منهم طرأ عليها تطور لكل عنصر مستخدم من قبل: القباب، الأقواس، الأقواس المطلة على الممرات الجانبية والأقواس بدون فتحات حول النوافذ. في الخارج تم إنشاء مُتحف والذي يحيط بالكنيسة من أعلى المقصورات والتي تتميز بأقواس فوق الأعمدة: والتي تُفيد في بناء الأجزاء الأكثر قدمًا في المبنى والتي أستمرت في العديد من أبنية الأقليم وذلك لأضافة تأثير ضوئي وظلّي أكثر من كونه له أستخدام عملي حقيقي. نموذج أخر لعمارة هذا العصر وهي كنيسة دير سانتا ماريا لاغ والتي بدأت 1093 وأنتهت في القرن الثالث عشر. على الرغم من مرور فترة زمنية طويلة من إنشأها، إلا أن مظهر البناء فريد ومميز بتقريب الأحجار المختلفة بشكل معقد. الجزء الأساسي يشمل المنطقة الأثرية للممرو الويستوير وكلا منهم محاط ببرجين (من جانب القاعدة مُربعة ومن الجانب الأخر مُستديرة). بالأضافة إلى تقاطع الرواق وصحن الكنيسة والتي تقوم عليها الهيكل المُثمن الأضلاع، بينما الويستويرك محدد من قبل برج متين مكون من أحجار متداخلة في بعضها البعض وذات أسقف مائلة والتي تمثل أعلي مستوى في الكنيسة. إن الجدران الخارجية مُزخرفة بأحجار قاتمة وأقواس مُعلقة. كان عاملاً مهمً لرسوخ الأسلوب الرومانيسكي ما يسمي بمدرسة كولونيا، حيث قبلما تندلع الحرب العالمية الثانيةكان يوجد الكثير من الكنائس الرومانيسكية والتي تتميز بطرف مخروط ثلاثي، كما في كنيسة سانتا ماريا على سبيل المثال في كابيتول والتي يحددها من الجانب الشرقي منها ثلاثة محاريب متعامدة علي بعضهم البعض. بورجونيا. يتواجد في بورجونيا دير كلوني المتين والذي شهد إعادة بناء الكنيسة الرئيسية (كلوني الثانية) وذلك ما بين 948 و 981، والتي أشتهرت بحفرياتها الأثرية وتواجد بيت الكاهن الفسيح وجوقة ثلاثية بممر. تأسست الكنيسة الثالثة (كلوني الثالثة) في عام 1088، والتي تتميز بمساحة ضخمة:حيث يبلغ 187 أمتار والمزودة بساحة وخمسة أروقة، وجوقة ممتدة بممر ومحاريب مُتصلة، وهو ممر مزدوج بخمسة أبراج. في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر أصبحت علمانية وتم تدميرها تدريجيًا، حيث أنه تم اقتحامها أثناء الثورة الفرنسية على الرغم من أنها أكبر كنيسة أوروبية. اليوم لم يتبق سوى بعض بقايا الصليب الجنوبي للممر الشرقي ولأحد الأبراج، والتي عن طريقها من الممكن أن نأخد فكرة عن عظمتها المثيرة للأعجاب. الكثير من كنائس المنطقة أتخذو كنيسة كلوني نموذجً، فعلى سبيل المثال في كنيسة "باراي لي مونييل" والتي يوجد بها بنية الجدران الخاصة بصحن الكنيسة والممر والمقسمة وفقًا لثلاثة أنماط والسقف بقباب نصف دائرية. ومن المثير للأهتمام ملاحظة أن سلسلة الأقواس المعمارية كانت مقوسة بدقة فعلياَ كما أن الأعمدة مجمعة ومنقوشة عموديً. لقد تم استخدام نفس العناصر الزخرفية بأسلوب رفيع في كاتدرائية سان لازر في أتون، حيث يوجد بدلًا من شبة الركائز الداخلية أنصاف أعمدة (أو أعمدة مربعة داخلية)، والتي من الأرجح مأخوذة من عناصر زخرفية مشابهه حاضره في المدخل الروماني القديم في المدينة. كما دمرت كنيسة سانت بينين مثل كنيسة كلوني، وهي إحدى أكبر الكنائس الفرنسية القديمة المخصّصة لرحلات الحج، حيث تم بناءها بعد العام الألف بفترة قصيرة من قبل ويليام دي فولبيانو، وهو رئيس الكنيسة المقدسة سان ميشيل. وفي هذة الكنيسة يوجد خارج الرواق ساحة دائرية مستوحاة من المعبد البلاطي في مدينة آخن وأيضاَ شرفات وأبراج متدرجة خارجية. كما أن في بورجونيا تم تطبيق فن النحت الأثري بشكل كبير على الهندسة المعمارية والتي أصبحت بعد ذلك أحدي العناصر الرئيسية للرومانيسكية. لنكدوك وميدي بيرنيه. تطور أيضًا الأسلوب الرومانيسكي في لنكدوك في فترة مبكرة، ويرجع ذلك إلى النمو الاقتصادي والزيادة السكنية بالإضافة إلى أنقسام السلطة الرئيسية (والتي ساعدت على تطور الأديرة ذات قوة) وتدفق الحجاج والذي أدى أن المنطقة أصبحت مزدحمة. على سبيل المثال كنيسة سانت سيرنين في مدينة تولوز، وهي مرحلة من مراحل الحج، والتي تم إنشاءها قبل عام 1080. في عام 1096، تم تخصيص هيكل الكنيسة الرئيسي ولكن أنقطع هذا العمل المتواصل عام 1118 حتى أكتمال بناء الكنيسة بعد ذلك في القرن الثالث عشر. كان من المتوقع أن يكون المخطط الأفقي مُتسع بشكل عظيم منذ البداية، مع خمسة أروقة من بينهم الرواق الرئيسي ذات فخامة كبيرة، حيث تم تصميم مساحة لبيت الكاهن شاسعة متصلة وبرج شاهق متقاطعا مع الممر وصحن الكنيسة، كما أن سقف الكنيسة تم بناءه على شكل قبة نصف كروية. أنه حقا لرائع النتاج النحتي الذي تزينت به الكنيسة. في الوقت نفسه في ميدي بيرنيه بُنيِ مرحلة أخرى أساسية في طريق سانتياجو في كومبوستيلا، في دير سان بيترو في مويساك، له أهمية خاصة للدير الذي أُنشى عام 1110. كما أن مساحة كبيرة رباعية الزوايا تشتهر بستة وسبعون أعمدة أعلاها منقوش ومنظمة وفقا لتعاقب أعمدة صغيرة مُزدوجة وفردية. على جانب الأعمدة الركنية والمركزية يوجد أيضًا أثنا عشر إطارًا مُزخرفًا وقليل البروز بدعامات ذات الحجم الطبيعي. كما يلاحظ في طريق سنتياجو في كومبوستيلا رومانيسكية الكاتدرائية السابقة "سانتا ماريا" في أولورون سانت ماريا، والتي يرجع تاريخ إنشاءها للقرن الثاني عشر من قبل غاستون الرابع، فيسكونت بيرن وهي المقر الأسقفي في ذلك الوقت لأبرشية أولورون. نورمانديا و أنجلترا. ( القبة المضلعة المصنوعة من الحجر في مقاطعة درهام كانت الأولي من نوعها في كنيسة أوروبية والتي وحدت البنية الداخلية بزخرفة معمارية رائعة حجرية ومساحة مثلثة عازلة ) . في نورمانديا عام 1025 قام ويليام دا فولبيانو بتأسيس كنيسة بيرنيه، بها رواق على شكل شبة دائري وقبة التي فوقها الصليب في الأروقة الجانبية . يتخلل الأقواس نوافذ ذات فتحتين والتي ينتج عنها فتحات لمقصورة غير موجودة . ولقد بدأ ويليام الفاتح بالفعل برنامجه لأعمال سكنية مهمه في نورمانديا والتي تم أستئنافها بعد عزو أنجلترا وذلك بنتائج مشابهه في الأقليم الجديد أيضا . ولقد تم بناء الكنيسة الكاتدرائية نوتردام في جوميجز ما بين عام 1040 وعام 1067 والتي تم بنائها علي نسق بيرنيه والدير الأصلي مونت سان ميشيل . حيث قدمت بعض الخصائص التي تقوم علي الأسلوب المعماري الجديد والتي تم تطويرها في البنايات التالية :