داء شاغاس أو داء المثقبيّات الأمريكيّ هو مرض ينتشر في المناطق المدارية الاستوائية، وهو مرض طفيلي يسببه طلائعي "التريبانوسوما الكروزية". ينتشر المرض بشكل أساسي عن طريق حشرات معروفة باسم الفسافس -جنس من البق- أو البَقُّ المُقَبِّل. تتغير الأعراض المرضية خلال مدة العدوى. في المراحل المبكرة، تكون الأعراض عادةً إمّا غير ظاهرة أو خفيفة، وقد تشمل الحمّى، وتورمَ العقد اللمفاوية، والصّداعَ أو ورماً في منطقة اللدغة. بعد مرور ثماني إلى إثني عشر إسبوعاً على الإصابة، يدخل الشخص المُصابُ المرحلةَ المزمنةَ من المرض، وبنسبة من 60 %إلى 70 % من الحالات، لا تنتج المزيد من الأعراض المرضية بعد ذلك. أما النسبة المتبقية من المصابين والتي تتراوح من 30 % إلى 40 %، فتتطور لديهم الأعراض بعد عشْر سنوات إلى ثلاثين سنة من الإصابة بالعدوى، وتشمل تلك الأعراض تضخماً في بطيني القلب في 20 % إلى 30 % من المصابين، مما يؤدي إلى قصور القلب. وفي 10 % من المصابين، قد يحدث أيضاً تضخم في المريء أو توسع في القولون. تنتقل التريبانوسوما الكروزيّة للإنسان والثّديّات الأخرى عن طريق "البَقِّ المُقَبِّل" مصّاص الدماء، الّذي ينتمي إلى تحت فصيلة الفسافس. تُعرف هذه الحشرات بأسماء مختلفة حسب المنطقة الّتي توجد فيها، فعلى سبيل المثال، تُعرف باسم فينشوكا في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي والباراجواي، وباسم باربيرو في البرازيل، وباسم بيتو في كولومبيا، وتعرف باسم شينش في أمريكا الوسطى، وباسم شيبو في فنزويلّا. وقد ينتشر هذا الدّاء أيضاً عن طريق عمليّات نقل الدم وعمليّات زراعة الأعضاء وعن طريق تناولِ طعامٍ ملوّثٍ بالطّفيليّات وبالانتقال العمودي، أي من الأمّ إلى الجنين. يتم تشخيص المرض في حالاته المبكّرة عن طريق إيجاد الطّفيليّات في الدّم باستعمال المجهر. أمّا الحالات المتقدّمة، فتشخّص عن طريق إيجاد الأجسام المضادة للتريبانوسوما الكروزيّة في الدّم. تتمثل الوقاية بشكل أساسيّ بالتّخلّص من البَقِّ المُقَبِّل وتفادي عضّته. وقد ينطوي ذلك على استخدام المبيدات الحشرية أو الناموسية. ويعد فحص الدّم قبل عمليّات نقل الدم طريقةً أخرى لتفادي الإصابة. لم يتمّ تطوير مطعومٍ للمرض حتى سنة 2017. أما بالنّسبة لحالات الإصابة المكتشفة مبكّراً فيتم معالجتها باستخدام كل من الدوائين بنزنيدازول أو نيفورتيموكس. في الغالب تنجح المعالجة بهذه الأدوية إذا تم إعطاؤها مبكّراً، لكن كلّما زادت مدّة الإصابة بالمرض قلّ مفعول الدّواء. في الحالات المزمنة من المرض يمكن أن تنجح تلك الأدوية في تأخير أو منع تطوّر أعراض المرض للمرحلة النّهائيّة. بنزنيدازول ونيفورتيموكس يسبّبان أعراضاً جانبيّة مؤقتة في 40 % من المصابين، وتشمل هذه الأعراض أمراضاً جلدية، وتسمّماً في الدّماغ وتهيّجاً في الجهاز الهضميّ. تشير التقديرات إلى أن 6.6 مليون شخص مصاب بداء شاغاس، أغلبهم من المكسيك، وأمريكا الوسطى، وأمريكا الجنوبية. في عام 2015، قُدِّر بأنّ داء شاغاس تسبب بحوالي 8000 حالة وفاة تقريباً في عام 2015. وقد كان أغلب المصابين بالدّاء من الفقراء، وأغلبهم لم يدرك حتى إصابته بالعدوى. وقد أدّت التحركات السكانية الواسعة النطاق إلى زيادة المناطق التي يوجد فيها داء شاغاس، وهذا ينطبق على عددٍ من البلدان الأوروبية إضافةً إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد شهدت هذه المناطق زيادةً في عدد الإصابات خلال السنين الماضية وحتى عام 2014. وقد تم وصف المرض لأول مرة في عام 1909 من قبل الطبيب البرازيلي كارلوس شاغاس، الذي سُمي المرض باسمه. ويصنف داء شاغاس على أنه مرض مداري مهمل. ويؤثر على أكثر من 150 نوعاً من الحيوانات الأخرى. علامات المرض والأعراض. يمرّ المصابون بمرض شاغاس بمرحلتين مختلفتين من المرض: مرحلة حادة غير مزمنة تحدث بعد الإصابة بالعدوى بفترة قصيرة، ومرحلة مزمنة تتطور مع مرور الزمن. المرحلة الحادة من المرض تبقى لعدة أسابيع أو أشهر بعد الإصابة بالمرض. لا يتم ملاحظة هذه المرحلة في العادة، لأنها خالية من الأعراض المرضية أو تكون أعراضها خفيفة جداً وعامة جداً بحيث يصعب نسبها إلى مرض شاغاس. وتشمل هذه الأعراض الحمّى، والإرهاق، وآلام في الجسم والعضلات، وصداع في الرأس، وطفح جلدي، وفقدان للشهية، والإسهال، والشعور بالغثيان، والتقيؤ. أما علامات الفحص البدني، فتشمل على تضخم خفيف في الكبد أو الطحال، وتورّم في الغدد وتورّم موضعي (شاغوما) في منطقة دخول الطفيليات إلى الجسم. أبرز علامات المرحلة الحادة من داء شاغاس هي علامة رومانا ، التي تتضمّن تورّماً في الجفون على جانب الوجه بالقرب من مكان العضة أو مكان إفراز الحشرة لبرازها أو إذا تم فرك العينين بالبراز عن طريق الخطأ. نادراً ما قد يموت الأطفال الصغار أو الأشخاص البالغون في المرحلة الحادة من المرض بسبب التهاب شديد في عضلة القلب (التهاب عضلة القلب) أو في الدّماغ (التهاب السحايا). وقد تكون المرحلة الحادة أكثر شدة وخطورة عند الأشخاص ضعافِ جهاز المناعة. إذا تطوّرت الأعراض خلال المرحلة الحادة من المرض، فإنها عادةً ما تزول تلقائيًا خلال ثلاثة إلى ثمانية أسابيع عند (90)% تقريباً من المصابين. على الرغم من أن الأعراض تتلاشى، فإن المرض يبقى ويدخل المرحلة المزمنة حتى مع استخدام العلاج. أما المصابون بالحالة المزمنة من مرض شاغاس، فإن (60-80)% منهم لن تظهر لديهم الأعراض (تسمى بالمرحلة "غير المحددة" من مرض شاغاس المزمن)، أمّا النّسبة المتبقية (20-40)% فتظهر لديهم أعراض خلال حياتهم تهددهم بالخطر، وتشمل على اضطرابات في القلب أو في الجهاز الهضمي (يُسمى بالمرحلة "المحددة" المزمنة من مرض شاغاس). في (10)% من المصابين، تتطوّر الإصابة من المرحلة الحادة للمرض إلى مرحلة سريرية أعراضيّة (مصحوبة بأعراض) من المرحلة المزمنة من مرض شاغاس. إنّ المرحلة الأعراضيّة (المحددة) المزمنة للمرض تؤثر على الجهاز العصبي، الجهاز الهضمي والقلب. ويتأثر حوالي ثلثي المصابين بالأعراض المزمنة بأضرار في القلب، وتشمل اعتلال عضلة القلب التوسعي مما يؤدي إلى عدم انتظام نبضات القلب وقد يؤدي إلى الموت المفاجئ. حوالي الثلث من المرضى تتطوّر لديهم أضرار في الجهاز الهضمي، مما قد يؤدي إلى توسع في القناة الهضمية (تضخم القولون وتضخم في المريء)، إضافةً إلى فقدان الوزن الشديد. أما الصعوبات في بلع الطعام (تعذر ارتخاء مريئيّ ثانوي) فقد تكون أولَ أعراضِ وجودِ علةٍ في الجهاز الهضمي وقد تؤدي إلى سوء التغذية. هناك ما نسبته (20)% إلى (50)% من الأشخاص الذين يعانون من تأثر الأمعاء بالمرض معرضون أيضا للإصابة بتأثر قلبيّ (شمول الإصابة بالمرض على القلب). ما يصل إلى (10)% من الأشخاص المصابين بالمرحلة المزمنة من المرض يتطور لديهم التهاب الأعصاب الذي يؤدّي إلى تغيرات في استجابة الأوتار العضلية وضعف في القدرة الحسية. أما الحالات المنعزلة فيظهر لديها تأثر الجهاز العصبي المركزي، ويشمل هذا على الخرف، والارتباك، والحالات المزمنة من التلف الدماغي، ومشاكل في الحركة، والإحساس. أما العلامات السريرية الظاهرة لداء شاغاس فتحدث بسبب موت الخلايا في النسيج الهدف (المصاب) الذي يحدث خلال الفترة المعدية، عن طريق الحث على حدوث استجابة التهابية وآفات خلوية وتليف، بالتسلسل. على سبيل المثال، اللَيشُمانَة (طفيليات) داخل الخلايا تؤدي إلى تدمير الخلايا العصبية الموجودة داخل جدار العضو في الجهاز العصبي الذاتي في الأمعاء والقلب، مما يؤدي إلى تضخّم في الأمعاء ويسبب تمدد الأوعية الدموية في القلب. وإذا تُرِك المرض غير معالج، فإن داء شاغاس قد يكون مميتاً، بسبّب أضرار في عضلة القلب في أغلب الحالات. انتقال المرض. طرق الانتقال الرئيسية. في الأماكن التي ينتشر فيها مرض شاغاس، فإن الطريقة الأساسية لانتقال المرض هي حشرة ناقلة تُدعى بترياتوميني. تنتقل عدوى المثقبية الكروزية لهذه الحشرة عند تغذيتها على دم شخص أو حيوان مصاب. خلال النهار، تختبئ هذه الحشرات في الشقوق الموجودة في الجدران والأسقف. تخرج هذه الحشرات في الليل عندما يكون المصابون نياماً؛ ولأنها تفضّل التغذية على وجوه الناس، فهي تعرف باسم "البَقّ المُقَبِّل". بعد أن تقوم هذه الحشرات بِعَضِّ الكائن الحي وابتلاعِ دمهِ، تتغوَّطُ عليه. وبهذا تنقل هذه الحشرات طفيليات المثقبية الكروزية (المعروفة باسم مثقبيات) عن طريق بُرازها الذي تتركه بالقرب من مكان العضة. يسبب القيام بحك منطقة العضة بدخول السَّائِط المِثْقَبِيّ (طفيليات المثقبية الكروزية) إلى العائل من خلال الجرح أو من خلال الأغشية المخاطية السليمة، مثل الملتحمة. فور دخوله العائل، يقوم السَّائِط المِثْقَبِيّ باجتياح الخلايا، حيث يتمايز إلى ليشمانة داخل الخلايا. ثم تتكاثر هذه الليشمانيات عن طريق الانشطار الثنائي وتتمايز إلى السائط المثقبي، الذي ينتقل بدوره إلى الدورة الدموية. تتكرر هذه الدورة في كل خلية حديثة الإصابة بالعدوى. يستمر التكاثر فقط عند دخول الطفيليات إلى خلية أخرى أو عند ابتلاعها من قبل ناقل آخر. المناطق ذات الأشجار الكثيفة (مثل الغابات المطيرة الاستوائية) والمدن الحضرية لا تعد مناطق جيدة لتكوين دورة لعدوى الإنسان. مع ذلك، فإن المناطق الحرجية وحيواناتها التي يتم تقليصها لاستثمارها اقتصادياً ولاستيطان الإنسان فيها، مثل المناطق التي تم قطع أشجارها حديثا، أو مناطق نمو نخيل البياسافا، وبعض المناطق في الأمازون، قد يمكن تكوين دورة عدوى الإنسان فيها، لأن الحشرات تبحث عن مصادر جديدة للغذاء. طرق أخرى. يمكن أن تنتقل التريبانوسوما الكروزية أيضاً عن طريق عمليات نقل الدم. فجميع مكونات الدم معدية باستثناء مشتقات الدم (مثل الأجسام المضادة المجزّأة). تبقى الطفيليات حيةً في درجة حرارة (4 ْس) لمدة 18 يوماً على الأقل أو لمدة 250 يوم كحد أقصى عندما تتواجد في درجة حرارة الغرفة. إنه من غير الواضح إذا كانت المثقبية الكروزية يمكن أن تنتقل خلال مكونات الدم المجمدة-الذائبة. تتضمن الطرق الأخرى أيضاً نقل الأعضاء وعن طريق حليب الثدي، والتعرض للعدوى بالخطأ في المختبرات. يمكن أن ينتقل داء شاغاس أيضاً خلقياً (من امرأة حامل إلى طفلها) عن طريق المشيمة، وهو السبب في 13% من حالات وفيات المواليد في أجزاء من البرازيل. انتقال المرض عن طريق الفم طريقة غير معتادة للعدوى، ولكنها شُخّصت. في عام 1991 انتقل داء شاغاس إلى عمال مزرعة في محافظة بارايبا في البرازيل، بسبب أكلهم لطعام ملوث، وقد حصلت أيضاً حالات عدوى عن طريق شرب عصير نخل الآساي والجارابا الملوّث. كما حدث أيضاً تفشٍّ للمرض سنة 2007 في 103 من أطفال المدارس في فنزويلا، ونُسب السبب إلى عصير جوافة ملوث. تزداد مشكلة مرض شاغاس سوءاً في أوروبا؛ لأن معظم حالات الإصابة المزمنة ليس لها أعراض، وسببها الهجرة من أمريكا اللاتينية. التشخيص. يتمثل تشخيص داء شاغاس بالعثور على التريبانوسوما الكروزية في الدم، الذي يتم عن طريق الفحص المجهري لدم حديث مضاد للتخثر، أو فحص الغِلاَلَةِ الشَّهْباء للدم للعثور على طفيليات متحركة، أو يتم عن طريق تحضير لطاخة (مسحة) للدميكون بعضها يكون رقيقاً وبعضها سميكاً يتم صبغها بالغيمزا، لتسهيل رؤية الطفيليات. عند الفحص باستخدام المجهر، قد يتم الخلط بين التريبانوسوما الكروزية و"التريبانوسوما الرانغيلية"، التي لا تُعتبر مسببةً للأمراض لدى الإنسان. يمكن عزل التريبانوسوما الكروزية عند حقن الفئران بها، عند استنباتها في أوساط مخصصة (مثل مُسْتَنْبَتُ نوفي-ماكنيال-نيكول وLIT)، وعن طريق التَشْخيصِ الثَوَائِيّ، حيث حشرات الرَّضُوفِيَّات غير المصابة بالعدوى تتغذى على دم المريض، ويتم بعد ذلك فحص محتويات الأمعاء للتأكد من وجود الطفيليات. هناك العديد من المعايرات المناعية الموجودة التي يمكن من خلالها تمييز المثقبيات الكروزية عن غيرها (تمييز المثقبيات الكروزية عن أية مسببات مرضية أخرى). وتشمل هذه الفحوصات: اكتشاف حالات تثبيت المتممة، التراص الدموي غير المباشر، مقايسة التَأَلُّق الفلورية بشكل غير مباشر، المُقايَسَةُ المَناعِيَّةُ الشُّعاعِيَّة، والمُقايَسَةُ الامْتِصاصِيَّةُ المَناعِيَّةُ للإِنْزيمِ المُرْتَبِط. كبديل، التشخيص وتمييز المثقبيات الكروزية يمكن القيام به عن طريق استخدام تفاعل البلمرة التسلسلي. الوقاية. لا يوجد حالياً أي لقاح ضد داء شاغاس. تتركز الوقاية عموماً على خفض أعداد الحشرات التي تنشر المرض (الترياتوم) والتقليل من احتكاك البشر معهم. ويتم ذلك عن طريق استخدام البخاخات ومواد الطلاء المحتوية على المبيدات الحشرية (البيريثرويد المصنعة)، وتحسين ظروف السكن والظروف الصحية في المناطق الريفية. بالنسبة لسكان المناطق الحضرية، فإن قضاء العطلات والتخييم في البرية أو النوم في الفنادق أو منازل الطين في المناطق الموبوءة قد يكون خطيراً، وينصح باستعمال ناموسية. تشمل بعض التدابير لمكافحة ناقلات الأمراض ما يلي: ويجري حالياً اختبار عدد من اللقاحات المحتمل نجاحها. وقد أعطى التطعيم ب"التريبانوسوما الرانغيلية" نتائج إيجابية في النماذج الحيوانية. وتجري اختبارات لفحص إمكانات استخدام الحمض النووي كعلاج مناعي لمرض شاغاس الحاد والمزمن من قبل العديد من المجموعات البحثية. كان نقل الدم في السابق ثاني أكثر طرق انتقال مرض شاغاس شيوعًا، لكن تطوير اختبارات فحص بنك الدم وتنفيذها قلل بشكل كبير من هذا الخطر في القرن الحادي والعشرين. يخضع التبرع بالدم في جميع بلدان أمريكا اللاتينية الموبوءة بالمرض للاختبار، وفحص الدم ينتشر في بلدان العالم، مثل فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي لديها أعداد كبيرة ومتزايدة من المهاجرين من المناطق الموبوءة. في إسبانيا، يتم تقييم المتبرعين باستبيان لتحديد الأفراد المعرضين لخطر التعرض لداء شاغاس. وافقت إدارة الغذاء والدواء على اختبارين لمرض شاغاس، أحدهما تمت الموافقة عليه في نيسان (أبريل) 2010، ونشرت الإدارة توجيهات أوصت باختبار جميع منتجات الدم والأنسجة المتبرع بها. مع أن هذه الاختبارات ليست مطلوبة في الولايات المتحدة، لكنه يتم اختبار (75-90)٪ من إمدادات الدم للتأكد من عدم وجود داء شاغاس، بما في ذلك جميع الوحدات التي يتم جمعها من قبل الصليب الأحمر الأمريكي، وهو ما يمثل 40٪ من إمدادات الدم في الولايات المتحدة. وقدمت شبكة بيوفيجيلانس شاغاس تقارير عن حالات كانت فيها فحوصات الدم موجبة لمرض شاغاس في الولايات المتحدة، كما ذكرت مختبرات تستخدم اختبار الفحص الذي وافقت عليه إدارة الأغذية والعقاقير في عام 2007. التعامل مع المرض. هناك طريقتان لعلاج داء شاغاس: الأولى باستخدام الأدوية المضادة للطفيليات؛ للقضاء على الطفيليات، وتتضمن الثانية علاج الأعراض المرضية حتى يصبح التحكم بالأعراض وعلامات المرض ممكناً. يشمل التحكم بالمرض على التركيز على الفشل المتزايد في الجِهازِ العَصَبِيِّ اللَّاوُدِّيّ. قد يؤدي المرض المستقل الذي يسببه داء شاغاس في النهاية إلى تضخم المريء وتضخم القولون وتسريع اعتلال عضلة القلب التوسعي. أما الآليات التي تبين سبب استهداف داء شاغاس للجهاز العصبي اللاودي وعدم مهاجمة المرض للجهاز العصبي المستقل فهي غير واضحة حتى الآن. العلاج. إن العلاج عن طريق الأدوية المضادة للطفيليات هو الأكثر جدوى في بداية العدوى، لكنه لا يقتصر على الحالات في المرحلة الحادة من المرض فقط. يمكن الاختيار من بين عدة أدوية مثل ازول أو المشتقات النيتروجينية كبنزنيدازول أو النيفورتيموكس. لكن كلا الدوائين محدودان من حيث قدرتهما على العلاج الطفيلي (قدرته على القضاء على المثقبيات الكروزية من الجسم بشكل كامل)، خصوصاً في الحالات المزمنة، وقد تم تسجيل حالات قاومت فيها الطفيليات هذه العقاقير. تظهر الدراسات بأن العلاج باستخدام مضادات الطفيليات يؤدي إلى الشفاء في حوالي (60-85)% من المرضى البالغين، وأكثر من (90)% من الرضع إذا تم إعطاء العلاج خلال السنة الأولى من المرحلة الحادة من المرض. أما الأطفال (الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 سنة) المصابون بالمرحلة المزمنة من المرض، فتبلغ نسبة الشفاء لديهم حوالي (60)% عند استخدام البنزنيدازول. مع أن نسبة الشفاء من المرض تنخفض مع زيادة مدة الإصابة، فإن العلاج باستخدام البنزنيدازول يبطئ من بداية أمراض القلب في البالغين المصابين بالمرحلة المزمنة من المرض. إن علاج المرحلة المزمنة من المرض في النساء قبل أو خلال الحمل لا يقلل من احتمال نقل المرض إلى الجنين. وبالمثل، فإنه من غير الواضح فيما إذا كان العلاج الوقائي خلال المرحلة المزمنة من المرض مفيداً للأشخاص الذين سيتعرضون لنقص (تثبيط) المناعة (على سبيل المثال عند الأشخاص الذين ستنقل أعضاء لهم) أو في الأشخاص ضعيفي المناعة (مثل المصابين بفَيروس العَوَزِ المَناعِيِّ البَشَرِيّ، الإيدز). المضاعفات. في المرحلة المزمنة من المرض، يتضمن العلاج التحكم بمظاهر المرض السريرية. على سبيل المثال، فإن الناظمة القلبية والأدوية المستخدمة لعلاج نبضات القلب غير المنتظمة، مثل الدواء المضاد لاضطراب النظم المسمى بأميودارون، قد يساهم في إنقاذ حياة شخص يعاني من أمراض قلب مزمنة، بينما قد يحتاج المريض لعملية جراحية للتخلص من التضخم في الأمعاء. لكن الشفاء غير ممكن في هذه المرحلة من المرض. الأمراض القلبية المزمنة التي يسببها مرض شاغاس هي أحد الأسباب الرئيسية للقيام بعمليات زراعة القلب. لكن وحتى وقتٍ قريبٍ، كان داء شاغاس يعتبر مانعاً لإجراء عملية زراعة القلب، فأضرار القلب قد تعود مجدداً لأن الطفيليات من المتوقع أن تنتهز الفرصة التي يقدمها لها كابت (مثبط) المناعة الذي يتبع العملية الجراحية. كان من الملاحظ أن نسبة بقاء المصابين بمرض شاغاس على قيد الحياة ازدادت بشكل واضح عند استخدام جرعات أقل من الدواء الكابت للمناعة سايكلوسبورين. حديثاً اكتشف بأن المعالجة المباشرة لعضلات القلب باستخدام الخلايا الجذعية عن طريق نقل خلايا نخاع العظم أدى بشكل ملحوظ إلى التخفيف من أخطار فشل القلب عند المصابين بمرض شاغاس. علم الأوبئة. يتأثر حوالي ثماني إلى عشرة ملايين شخص بداء شاغاس يسكنون في بلدان أمريكا اللاتينية التي ينتشر فيها المرض، بالإضافة إلى ما بين300 و400 ألف شخص يسكنون في مناطق لا ينتشر فيها المرض، مثل إسبانيا والولايات المتحدة. يصاب بداء بشاغاس حوالي 41200 شخصاً سنوياً في البلدان التي ينتشر فيها المرض، إضافةً إلى 14400 رضيعاً يولدون مصابين بالمرض سنوياً. في 2010، أدى المرض لوفاة 10300 شخصاً مقارنة بالوفيات عام 1990 التي وصل عددها إلى 9300. يوجد المرض في 18 بلداً متفرقاً في القارات الأمريكية، تتراوح بين أمريكا الجنوبية وشمال الأرجنتين. يوجد داء شاغاس في منطقتين بيئيتين مختلفتين؛ في المنطقة الشمالية المخروطية يعيش الناقل الرئيسي للمرض داخل وبالقرب من المناطق السكنية. في أمريكا الوسطى والمكسيك، يعيش الناقل الرئيسي في داخل المساكن وفي المناطق غير المسكونة أيضاً. في كلتا المنطقتين، يتواجد الداء بشكل حصري في المناطق القروية، حيث يتكاثر الترياتوم ويتغذى على أكثر من 150 صنفاً من 24 عائلة مختلفة من الثّدييّات الأليفة والبرية الموجودة، ويتغذى أيضاً على الإنسان، الذي يُعتبر مخزنا طبيعيا للتريبانوسوما الكروزية. على الرغم من أن حشرات الترياتوم تتغذى على الطيور، إلا أنه يبدو أنها حصينة ضد الإصابة بالعدوى، وبالتالي فهي لا تعتبر مخازن للمثقبية الكروزية. حتى عندما يتم القضاء على مستعمرات الحشرات في أحد البيوت وفي مساكن الحيوانات الأليفة المجاورة، فإنها تعود للظهور مجدداً من النباتات أو الحيوانات التي تعتبر جزءاً من دورة العدوى القديمة الحرجية (في الحيوانات البرية). وهذا يكثر حدوثه في الناطق السهلية العشبية المفتوحة، لوجود أشجار مبعثرة بين المناطق السكانية. إن المخزن الأساسي للمثقبية الكروزية في الحيوانات البرية في أمريكا يتضمن الأبوسوم، والراكونات، والمدرع، والسناجب، الجيروذات، والفئران. الأوبوسوم هو من أهم المخازن؛ لأن الطفيليات بإمكانها إنهاء دورة حياتها في الغدد الشرجية لهذا الحيوان دون الحاجة لإعادة الدخول إلى الحشرة الناقلة. ينتشر مرض شاغاس في الأوبوسوم في أمريكا بنسبة تتراوح بين (8.3)% حتى (37.5)%. توصلت دراسات أقيمت على راكونات في الجنوب الشرقي إلى أن نسبة الإصابات تتراوح بين (47)% إلى (15.5)%. أما الدراسات على نسبة انتشار المرض في المدرعات فأقيمت في لويزيانا، وتشير إلى أن نسبة الإصابة تتراوح ما بين (1.1)% إلى (28.8)%. بالإضافة إلى هذا، فإن القوارض الصغيرة مثل السناجب والفئران والجرذان تلعب دوراً مهماً في دورة العدوى الحرجية، وهذا بسبب حب تغذية الحشرات الناقلة للعدوى عليهم. كما أظهرت دراسة في تكساس أن (17.3)% هو معدل انتشار المثقبية الكروزية وتمت هذه الدراسة على 75 نموذجاً يمثلون 4 أنواع مختلفة من القوارض الصغيرة. يعتبر داء شاغاس في مرحلته المزمنة أحد أضخم المشاكل الصحية في العديد من البلدان في أمريكا اللاتينية، على الرغم من فاعلية الإجراءات الصحية والإجراءات الوقائية التي تم اتخاذها، مثل القضاء على الحشرات الناقلة للعدوى. ومع ذلك، فقد تمت العديد من الإنجازات عند محاربة المرض في أمريكا اللاتينية؛ فقد تم خفض نسبة الإصابة في الأطفال والشباب في بلدان المخروط الجنوبي بنسبة (72)%، وتم الإعلان أنه ما لا يقل عن ثلاثة بلدان (الأورغواي في 1997، تشيلي في 1999، وفي البرازيل في 2006) أصبحت خالية تماماً من نواقل المرض والمعديات. في الأرجنتين، تم وقف انتقال العدوى في 13 مقاطعة من المقاطعات التسعة عشرة المُستوطَنة، كما تمّ إحراز تقدم كبير نحو تحقيق هذا الهدف في كل من باراغواي وبوليفيا. إن فحص الدم المتبرع به، وفحص مكوناته، وفحص الأعضاء المتبرع بها، إضافةً إلى الخلايا والأنسجة المتبرع بها ومنتجاتهما للبحث عن المثقبية الكروزية، أصبح إجبارياً في جميع البلدان التي ينتشر فيها المرض، وقد تم تطبيق هذا ما يقارب 30000 شخصٍ مصابٍ يعيشون في أمريكا، وهذا على الأغلب بسبب الهجرات من بلدان أمريكا اللاتينية. وكانت هناك 23 حالة تم الحصول عليها من حالات البق المُقَبِّل في الولايات المتحدة بين عامي 1955 و2014. مع تزايد تحركات السكان، أصبح احتمال انتقال العدوى عن طريق نقل الدم أكثر أهمية في الولايات المتحدة. يتم الآن فحص منتجات الدم والأنسجة المنقولة عن طريق الدم بشكل نشط في الولايات المتحدة، وبالتالي معالجة هذه المخاطر وتقليلها. تاريخ المرض. سمي المرض باسم الطبيب وعالم الأوبئة البرازيلي كارلوس شاغاس، الذي قام بوصف المرض لأول مرة في 1909. لم يكن المرض يعتبر مشكلةَ صحة عموميةٍ عند الإنسان حتى الستينيات من القرن الماضي (تم تجاهل الوباء الذي ظهر في البرازيل في 1920 عالمياً). اكتشف الدكتور شاغاس بأن أمعاء ترياتوميدي (الآن الرَّضُوفِيَّات: الترياتوم) تحتوي على كائن أولي سوطي، وهو نوع جديد من فصيلة المثقبيات "التريبانوسوما"، وتمكن العالم عن طريق التجربة من إثبات أن العدوى يمكن أن تنتقل إلى قرود القشة عندما تعضها حشرة حاملة للمرض. وبينت دراساتُ لاحقة أن السعادين السنجابية أيضاً معرضةٌ للإصابة بالعدوى. قام شاغاس بتسمية الطفيليات المعدية بالمثقبية الكروزية وسماها لاحقاً ذاك العام باسم "المتثاقبة الكروزية" تشريفاً ل"أوسوالدو كروز" ، الطبيب وعالم الأوبئة البرازيلي المعروف الذي قام بمحاربة أوبئة من الحمى الصفراء، والجدري، والطاعون الدبلي في ريو دي جنيرو ومدن أخرى في بداية القرن العشرين. وكان شاغاس أول من اكتشف ووضح الطفيليات الفطرية المُتَكَيِّسَةُ الرِّئَوِيَّة بدون علم، وربطت هذه الطفيليات بعدها بالفينسيكليدين المعروف ( التهاب المُتَكَيِّسَةِ الرِّئَوِيَّة في مرضى الإيدز). وأدى الخلط بين دورة حياة هذين المسببين للأمراض لأن يميز جنس المتثاقبة الكروزية، لكن اتّباعه لوصف غيره للمتكيسة الرئوية كجنس مستقل، أدى به إلى العودة لاستخدام مصطلح المثقبية الكروزية. كان يعرف داء شاغاس ب"داء شاغاس-مازا" في الأرجنتين، تكريماً لسلفادور مازا الطبيب الأرجنتيني الذي بدأ بالبحث في هذا المرض في عام 1926، والذي أصبح على مر السنين الباحث الأساسي في هذا المرض في البلاد كلها. في عام 1927، قدم مازا أول دليل علمي على وجود "المثقبية الكروزية" في الأرجنتين، مما أدى في النهاية إلى دعم الكليات الطبية المحلية والأوروبية له وتلقيه الدعم من صانعي القانون في الحكومة الأرجنتينية. من المعتقد بأن شارلز داروين قد يكون عانى من داء شاغاس بسبب عضة الحشرة السوداء العظيمة المنتشرة في بامباس ("فينشوكا") (انظر مرض شارلز داروين). قام داروين بتدوين الأحداث في مذكراته رحلة البيجل التي قام بها في مارس من عام 1835 إلى شرق الأنديز بالقرب من الميندوزا. كان داروين شاباً وكانت حالته الصحية جيدة بالعادة، وإن كان قبلها بستة أشهر قد مرض لمدة شهر بالقرب من فالبارايسو، لكن في عام 1837، بعد مرور عام تقريباً على عودته إلى إنجلترا، بدأ يعاني بشكل متقطع من مجموعة غريبة من الأعراض المرضية، مما أدى به لأن يصبح مقعداً لجزء كبير من بقية حياته. وقد لاقت المحاولات لفحص بقايا داروين في دير ويست منستر باستخدام تقنية تفاعل البلمرة التسلسلي الحديثة معارضةً شديدةً من قبل أمين الدير. البحث. بينت العديد من التجارب العلاجية على الحيوانات أملاً في إيجاد دواء للمرض؛ وتشمل هذه التجارب مثبّطات إنزيم أوكسيدوسكوالين سايكليز وسكوالين سينثيز ومثبطات سيستين بروتياز ديرماسيبتن التي تم جمعها من ضفادع جنس "ضفدع الورق" ("ضفدع الورق الجبلي" و"ضفدع الورق المميز"), السيسكويتربين لاكتون ديهايدروليوكوداين الذي يؤثر على نمو التريبانوسوما الكروزية المستنبتة في مرحلة الشعرورة، ومثبطات امتصاص البيورين ، ومثبطات الإنزيمات المشاركة في عمليات أيض التريبانوثيون. و من المأمول أن يتم الكشف عن أهداف دوائية جديدة بعد تسلسل جينوم التريبانوسوما الكروزية. لمرض شاغاس تأثير واضح على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية واقتصاد العالم؛ حيث تقدر تكلفة العلاج في الولايات المتحدة الأمريكية بما يقارب 900 مليون دولار سنوياً، وهذا يشمل تأمين العلاج في المستشفى والأجهزة الطبية مثل صانع الخطو (منظم النبض). أما التكلفة العالمية فتقدر بحوالي 7 مليارات دولار. أظهرت دراسة بأن استخدام الميغازول أكثر نشاطاً ضد مرض شاغاس من البنزنيدازول ولكن هذا لم يُدرس على الإنسان حتى الآن. فيكسينيدازول، وهو دواء قديم أعيد اكتشافه لهذا الهدف يتم اختباره في الدور الثاني من التجارب السريرية. وُجد أنّ مطعوم (TcVac3) ضد مرض شاغاس كان فعالاً على الفئران، وهنالك خطط لدراسة فاعليته على الكلاب. يؤمل بأن يكون هذا المطعوم متوافراً بشكل تجاري بحلول عام 2018. كارلوس جوستينيانو ريبيرو شاغاس (9 يوليو 1879 - 8 نوفمبر 1934)، طبيب برازيلي، اكتشف داء شاغاس، أو داء المثقبيات الأمريكي، في 1909. عمل شاغاس فريد في تاريخ الطب كونه الباحث الوحيد الذي وصف مرضاً معدياً جديداً تماماً: العامل الممرض والناقل وتظاهراته السريرية ووبائياته. وقد سميت باسمه إحدى بلديات ولاية ميناس جيرايس. السُّلّ أو الدّرن أو التّدرّن ويرمز له "TB" اختصارًا، هو مرض معد شائع وقاتل في كثير من الحالات تُسببه سُلالات مُختلفة من المتفطّرات (جنس جراثيم) وعادة" المتفطّرة السلية" يُهاجم السل عادة الرئة، ولكنه يُمكن أن يؤثر أيضًا على أجزاء أخرى من الجسم. وينتقل المرض عن طريق الهواء عند انتقال رذاذ لعاب الأفراد المُصابين بعدوى السل النشطة عن طريق السعال أو العطس، أو أي طريقة أخرى لانتقال رذاذ اللعاب في الهواء تُعد مُعظم الإصابات بإنها لا عرضية وكامنة، ولكن واحدة من بين كل عشر حالات كامنة ستتطور في نهاية المطاف إلى حالة عدوى نشطة والتي إذا ما تُركت دون علاج، ستسبب وفاة أكثر من 50٪ من المُصابين بها. تشمل الأعراض الكلاسيكية لعدوى السل النشط السعال المزمن مع البلغم المشوب بالدم والحمى والتعرق الليلي وفقدان الوزن (وهذا الأخير هو الذي يُبرر إطلاق تسمية "ضموري" التي كانت سائدة ومُتداولة سابقًا على هذا المرض). تؤدي إصابة الأجهزة الأُخرى إلى مجموعة واسعة من الأعراض. يعتمد التشخيص الطبي للإصابة بالسل النشط على الأشعة (عادة فحص الصدر بالأشعة السينية)، بالإضافة إلى الفحص المجهري والمزرعة الميكروبيولوجية لسوائل الجسم. يعتمدُ تشخيص حالات السل الخافي على اختبار السل الجلدي و/أو اختبارات الدم. يُعد العلاج صعبًا ويتطلب إعطاء مُضادات حيوية مُتعددة على مدى فترة زمنية طويلة. كما يجب فحص المُخالطين الاجتماعيين وعلاجهم إذا دعت الضرورة لذلك. تمثل مقاومة المضادات الحيوية مُشكلة مُتزايدة في حالات الإصابة بعدوى السل المقاوم للأدوية المتعددة (MDR-TB). تعتمدُ الوقاية على برامج الفحص والتطعيم بواسطة لُقاح عصية كالميت - غيران. ويعتقد أن ثلث سكان العالم قد أصيبوا بعدوى لمتفطرة السلية، مع حدوث الإصابات الجديدة بمعدل إصابة حوالي واحدة في الثانية تقريبا وفي عام 2007، قُُدّر عدد الحالات المُزمنة النشطة عالميًا بحوالي 13,7 مليون إصابة، في حين قُدّر عدد الإصابات بحوالي 8,8 ملايين إصابة جديدة عام 2010، و1.5 مليون حالة وفاة مُرتبطة بالإصابة، والتي حدث مُعظمها في الدول النامية ومُنذ عام 2006 بدأ العدد المُطلق لحالات السل بالانخفاض، وتناقص عدد الإصابات الجديدة مُنذ عام 2000. إن توزع إصابات السل ليس مُتماثلا في جميع أنحاء العالم؛ فحوالي 80٪ من السكان في العديد من البلدان الآسيوية والأفريقية إيجابي اختبار السلين، في حين فقط تظهر إيجابية هذا الاختبار لدى 5-10٪ فقط من سكان الولايات المتحدة يُصاب عدد أكبر من الأفراد في العالم النامي بالسل العقد بسبب المناعة المنقوصة ويرجع ذلك بشكل كبير إلى نسبة المُعدلات المُرتفعة للإصابة بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية وما يتبعُها من تطور الإصابة بمرض متلازمة نقص المناعة المكتسبة الإيدز. العلامات والأعراض. من المُقدّر أن حوالي 5 - 10٪ من غير المُصابين بفيروس نقص المناعة البشرية والمصابين بعدوى السل سيصبح مرضهم نشطًا خلال حياتهم وفي المقابل، فإن 30٪ من المُصابين بفيروس نقص المناعة البشرية سيصبح مرضهم نشطًا. قد يُصيب السل أي جزء من الجسم، ولكن إصابته للرئتين تُعتبر الأكثر شيوعًا (وهو ما يُعرف باسم السل الرئوي). يحدث السل خارج الرئوي عندما يتطور مرض السل خارج الرئتين. قد يتشارك السل خارج الرئوي مع السل الرئوي أيضًا تشمل العلامات والأعراض العامة الحمى والقشعريرة والتعرق الليلي وفقدان الشهية وفقدان الوزن والتعب، وقد يحدث تعجّر الأصابع الواضح أيضًا. السل الرئوي. إذا تحولت عدوى السل إلى حالة نشطة، فإنها ستُصيب الرئتين على الأغلب (في حوالي 90٪ من الحالات). وقد تشمل الأعراض ألم الصدر والسعال المُنتج للبلغم لفترة طويلة. حوالي 25٪ من الناس المُصابين قد لا تظهر لديهم أي أعراض (أي أنهم يبقون "لا عرضيين") أحيانًا، قد يُصاب المرضى بالسعال المدمى بكميات صغيرة، وفي حالات نادرة جدًا، قد تُسبب العدوى تآكل الشريان الرئوي، مما يؤدي إلى نزف غزير (أم دم راسموسن). قد يُصبح السلّ مرضًا مُزمنًا ويسبب تندبًا واسعًا في الفصوص العلوية من الرئتين. تتأثر فصوص الرئة العلوية بالسل أكثر من الفصوص السُفلية ويُعتبر سببُ هذا الاختلاف ليس واضحًا بشكل كامل. وقد يكون إما بسبب تدفق الهواء بشكل أفضل، أوبسبب ضعف التصريف الليمفاوي ضمن الأجزاء العلوية من الرئتين. السل خارج الرئوي. في 15 - 20٪ من الحالات النشطة، تنتشرُ العدوى خارج أعضاء الجهاز التنفسي، مُسببةً ظُهور أنواع أُخرى من السل يُشار إلى هذه الحالات مُجتمعة باسم السل خارج الرئوي. تُعد حالات السل خارج الرئوي أكثر شُيوعًا بين الأفراد الخاضعين لإجراءات كبت المناعة أو الأطفال الصغار. ويحدث هذا لدى أكثر من 50٪ من الأشخاص المُصابين بفيروس نقص المناعة البشرية. تشمل المواقع البارزة للعدوى خارج الرئوية غشاء الجنب (في التهاب الجنب السلي) والجهاز العصبي المركزي (في التهاب السحايا السلي) والجهازاللمفاوي (في الالتهاب السلي المنشأ في الرقبة) والجهاز البولي التناسلي (في السل البولي التناسلي) والعظام والمفاصل (في مرض بوت في العمود الفقري) وغيرها. وعندما ينتشرُ إلى العظام، يُعرف أيضا باسم "السل العظمي" وهو شكل من أشكال التهاب العظم والنقي. وهناك شكل آخر مُنتشر ويُعد أكثر خطورة من أشكال السل ويُدعى "السل المنتثر" واسمه الشائع المعروف هو السل الدخني. يُشكل السل الدخني حوالي 10٪ من حالات السل خارج الرئوي. الأسباب. البكتيريا الفُطْرية. يُعتبر السبب الرئيسي لمرض السل هو "المتفطرة السلية"، وهي عصية صغيرة، حيوائي، لامتحركة المحتوى العالي من الدهون هو سبب وجود العديد من الخصائص السريرية الفريدة لهذا العامل المُمرض وهي تنقسم كل 16 إلى 20 ساعة، وهو مُعدل بطيء للغاية مُقارنة مع غيرها من أنواع البكتيريا، التي تنقسم عادة خلال أقل من ساعة. للبكتيريا الفُطْرية غشاء خارجي مُزدوج الطبقة الدُهنية إذا أُستعمل ملوّن غرام فإما أن تبقى المتفطّرة السلية "إيجابية الجرام" بصورة ضعيفة جدًا أو أنها لا تحتفظ بالمادة المُلوّنة نظرًا لارتفاع مُحتوى جدارها الخلوي من الدهون وحمض مايكوليك والخمسين. يُمكن أن تحمل المطهر الضعيف وأن تبقى على قيد الحياة بصورة الحالة الجافة لمُدة أسابيع. في الطبيعة، يُمكن للبكتيريا أن تنمو فقط داخل خلايا الكائن الحي المضيف، ولكن يمكن زرع "المتفطّرة السلية" في المختبر باستخدام المُلوّنات النسيجية على عينات القشع المخرج مع السعال البلغم (وتسمى أيضا "البلغم")، يُمكن للعلماء التعرّف على الفُطْرية السلية تحت المجهر (الضوئي) العادي. بما أن الفُطْرية السلية تحتفظ ببعض المواد الملوّنة حتى بعد معالجتها بالمحاليل الحمضية، فهي تُصنف على أنها عصية مثبتة للحمض (AFB). حمض التقنيات الأكثر شُيوعًا لتثبيت المُلونات الحمضية هي تقنية ملون تسيل ونيلسن، والتي تصبغ العصيات المثبتة للحمض AFBs باللون الأحمر الزاهي الذي يبرز بوضوح على خلفية زرقاء، وملوّن أورامين-رودامين ويليه المجهر الومضاني يشمل معقد الفُطْرية السلية 4 أنواع أُخرى من البكتيريا الفُطْرية المُسببة للسل: "الفُطْرية البقرية" و"الفُطْرية الأفريقية" و"فُطْرية كانيتي" و"فُطْرية ميكروتي". "الفُطْرية الأفريقية" ليست واسعة الانتشار، ولكنها تُعد سبب هام للإصابة بالسل في بعض أنحاء أفريقيا. كانت "الفُطْرية البقرية" فيما مضى سببًا شائعا للإصابة بالسل، ولكن اعتماد عملية البسترة قللت بشدة من كونها تُمثل مُشكلة صحية في البلدان المتقدمة. أما "الفُطْرية كانيتي" فهي نادرة ويبدو أن وجودها محصور في منطقة القرن الأفريقي، بالرغم من أن عدة حالات قد شوهدت لدى المهاجرين الأفارقة. "الفُطْرية ميكروتي" نادرة أيضًا وأكثر ما تُشاهد لدى الأفراد المصابين بعوز المناعة، بالرغم من أن معدل انتشار هذا العامل المُمرض ربما لم يكن قد قدّر كما ينبغي. وتشمل المُتطفرات المُسببة للأمراض الأخرى المعروفة كل من "المتفطرة جذامية" و"الفُطْرية الجذامية" و"الفُطْرية الطيرية" و"الفُطْرية الكنزاسية". ويصنف النوعان الأخيران تحت مجموعة "البكتيريا فطرية غير السلية" البكتيريا فُطْرية غير السلية لا تسبب السل ولا الجذام، ولكنها تُسبب مرضًا رئويًا يُشبه السل. عوامل الخطر. هُناك عدد من العوامل التي تجعل الناس أكثر عُرضة للإصابة بعدوى السل. عامل الخطر الأكثر أهمية على الصعيد العالمي هو فيروس نقص المناعة البشرية؛ فحوالي 13٪ من جميع حالات السل مُصابون بهذا الفيروس وهذه مشكلة خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تكون معدلات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية مُرتفعة يرتبطُ السل ارتباطا وثيقًا بكل من الاكتظاظ وسوء التغذية، مما يجعله واحدًا من أمراض الفقر الرئيسية ويشمل المعرضون لمخاطر الإصابة العالية: الأفراد الذين يستعملون المخدرات غير المشروعة عن طريق الحقن، قاطني الأماكن التي يتجمع فيها الأشحاص المعرضون للإصابة والعاملين فيها (مثل السجون وملاجئ المشردين)، المجتمعات المحرومة والفقيرة بالموارد الطبية، الأقليات الإثنية المُرتفعة الخطورة، والأطفال الوثيقي الصلة بالمرضى من الفئة المُعرضة للخطر ومقدمي الرعاية الصحية الذين يخدمون هؤلاء المرضى. تُعتبر أمراض الرئة المزمنة عامل خُطورة كبير آخر مع السحارالسيليسي الذي يزيد من معدل الخطورة حوالي 30 ضعفًا أولئك الذين يدخنون السجائر لديهم ما يقرب من ضعفي إمكانية الأصابة بالسل مُقارنة بغير المدخنين يُمكن للحالات المرضية الأخرى أن تزيد أيضًا من خطر الإصابة بالسل، بما فيها إدمان الكحول وداء السكري (ثلاثة أضعاف الإمكانية) بعض الأدوية، مثل الستيرويدات القشرية وإنفلكسيماب (جسم مضاد وحيدة النسيلة مُضاد لعامل النخر الورمي ألفا) أصبحت من عوامل الخطر ذات الأهمية المُتزايدة، وخاصة في العالم المتقدم. وهناك أيضا الاستعداد الوراثي الذي لا تزال درجة أهميتة غير مُحددة بعد. الآلیة. انتقال العدوى. عندما يسعل المُصابون بالسل الرئوي النَّشط، أو يعطسون أو يتحدثون أو يغنون أو يبصقون فهم ينشرون القطرات المعدية الرذاذ التي يبلغ قطرها 0,5 حتي 5,0 ميكرومتر. يمكن لكل عطسة أن تنشر حتى 40000 قُطيرة أيٌ من تلك القُطيرات قد ينقل المرض، لأن الجُرعة المُعدية لمرض السل مُنخفضة جدًا (استنشاق أقل من 10 جراثيم قد تُسبب العدوى). الأفراد الموجودون على اتصال طويل أو متكرر أو قريب مع المصابين بالسل مُعرضون للإصابة بشكل كبيرٍ جدًا حيثُ يُقدّر مُعدلها حوالي 22٪. بإمكان الشخص المُصاب بالسل الرئوي النشط غير المُعالج أن ينقل العدوى إلى 10-15 شخصًا سنويًا أو أكثر. يجب أن يحدث انتقال العدوى من الأشخاص المصابين بالسل النشط، ومن غير المُعتقد أن تحدث العدوى من المُصابين بعدوى خافية. تعتمد امكانية انتقال العدوى من شخص إلى آخر على عدة عوامل، بما في ذلك عدد القطيرات المعدية التي تخرج من حامل المرض وفعالية التهوية ومدة التعرض وفوْعة "المتفطرة السلية" ذريّة، ومستوى المناعة في الشخص غير المصاب بالإضافة لعوامل أخرى. ويمكن إبطال انتشار سلسلة العدوى من شخص لآخر عن طريق العزل الفعال للأشخاص المُصاببن بسل رئوي نشط ("صريح") ووضعهم ضمن نظام علاجي مضاد للسل الرئوي. بعد أسبوعين من العلاج الفعِّال، لا يبقى الأشخاص المصابون بعدوى نشطة غير المقاومة قادرين على نقل العدوى للآخرين. لو أصيب شخص بالعدوى، فيستغرق الأمر من ثلاثة إلى أربعة أسابيع قبل أن يصبح الشخص المُصاب حديثًا مُعديًا بشكل يجعله قادرًا على نقل المرض للآخرين. الأمراض. يبقى حوالي 90% من أولئك المصابين بال"مُتفطرة سلية" لا عرضيين، أو ما يُدعى عدوى السل الخافي (ويُسميها البعض السل الخافي)، ولا تتجاوز إمكانية تحوّل العدوى الخفية إلى مرض سل رئوي واضح نشط مُعدل 10% فقط خلال الحياة. وترتفع لدى المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسب إمكانية تطور السل الرئوي النشط إلى ما يقرب من 10% سنويًا. وإذا لم يتم إعطاء العلاج الفعال، فإن معدل الوفاة بسبب حالات السل الرئوي النشط يصل حتى 66%. تبدأ الإصابة بالسل الرئوي عندما تصل المُتقطرات إلى أسْناخ رئوية، حيث تغزوها وتتناسخ داخل الجسيمات الداخلية للـ بلاعِم السِنْخية المكان الرئيسي للإصابة هو الرئتان، وتُعرف باسم "بؤرة غون"، وهو يقع عادة إما في الجزء العلوي من الفص السفلي، أو الجزء السفلي منالفص العلوي أو من المُمكن أن يحدث السل الرئوي أيضًا عن طريق العدوى من مجرى الدم. هذا هو المعروف باسم بؤرة سيمون وتوجد عادة في قمة الرئة. ويُمكن لانتقال العدوى الدموية الانتشار إلى مواقع أبعد، مثل الغدد الليمفاوية الطرفية والكلى والدماغ والعظام. يُمكن أن تتأثر جميع أنحاء الجسم بهذا المرض، وإن كان نادرًا ما يُصيب القلب والعضلات الهيكلية والبنكرياس أو الغدة الدرقية لأسباب غير معروفة. يُصنف مرض السل باعتباره واحدًا من أمراض الورم الحبيبي الالتهابية. تُعتبر الخلايا البلاعم والخلايا الليمفاوية T واللمفاويات B والأرومة الليفية من بين الخلايا التي تجتمع لتشكل الورم الحبيبي مع الخلايا الليمفاوية المُحيطة بالبلاعم المُصابة بالعدوى. ويُمنع الورم الحُبيبي انتشار المُتفطرات ويوفر بيئة محلية لتفاعل خلايا الجهاز المناعي. يُمكن للبكتيريا الموجودة داخل الورم الحبيبي أن تُصبح خاملة، مما يؤدي إلى إصابة خفية. من ميزات الورم الحبيبي الأُخرى هناك تطور موت الخلايا غير الطبيعي (نخر) في مركز درنات. عند النظر إليها بالعين المُجردة، يبدو لها منظر الجبن الأبيض الناعم ويُسمى النَخَرٌ الجُبْنِيّ. لو تمكّنت بكتريا السل الرئوي من الدُخول إلى مجرى الدم من منطقة نسيج متضرر، فيُمكنها أن تنتشر في جميع أنحاء الجسم وتؤسس العديد من بؤر الإصابة، وكُلها تظهر كدرنات بيضاء صغيرة ضمن النسيج الذي توجد فيه. يُطلق على هذا الشكل الحاد من مرض السل، الأكثر شيوعًا عند الأطفال الصغار والمُصابين بمرض نقص المناعة اسم سل دُخْنِي. الأشخاص المصابون بهذا السل المُنْتَثِر لديهم مُعدل وفيات مرتقع حتى مع العلاج (حوالي 30%). في كثير من الأشخاص، تزداد العدوى وتتراجع. وغالبًا ما يتوازن تدمير ونخر الأنسجة مع الشفاء والتليف. يتمُ استبدال الأنسجة المُتضررة بالندب والتجاويف المليئة بمادة نخرية جُبْنيَّة. خلال المرض النشط، تتصل بعض هذه التجاويف بالممرات الهوائية الشعب الهوائية ويمكن طرد هذه المواد عن طريق السعال. وهي تحتوي على بكتريا حيّة، وبهذا يمكنها نقل العدوى. يُعتبر العلاج بواسطة المُضاد الحيوي مُناسب فهو يقتل البكتريا ويسمح بتحقق الشفاء. يتم استبدال المناطق المتضررة عند الخضوع للعلاج في نهايته بأنسجة ندبية. التشخيص. السل النشط. يُعتبر تشخيص السل النشط الذي يعتمد فقط على العلامات والأعراض أمرًا صعبًا، كما هو الحال كذلك في تشخيص المرض في أولئك المصابين بكبت المناعة إلا أن تشخيص السل ينبغي وضعه في الاعتبار عند الأفراد الذين تظهر لديهم علامات أمراض الرئة أو دوام الأعراض البنيوية لفترة تتجاوز الأسبوعين. وتُعتبر الأشعة السينية على الصدر ومزارع البلغم المُتعددة للعصيات المثبتة للحمض عادة ما تكون جُزءًا من التقييم الأولي مقايسات إطلاق انترفيرون –غاما واختبارات التوبركولين (السلين) الجلدي قليلة الاستعمال في الدول النامية. كما أن مقايسات إطلاق انترفيرون –غاما (IGRA) تُعاني من محدودية مُماثلة لدى المُصابين بفيروس نقص المناعة. يتم إجراء التشخيص الأكيد للسل بتحديد وجود "مُتفطرة سلية" في عينة سريرية (مثال: قشع أو قيح أو نسيج أو خزْعَة). إلا أن عملية الزرع المخبري الصعبة لهذا الكائن الحي البطئ النموّ يُمكن أن تستغرق بين أسبوعين وستة أسابيع لزرع الدم أو البلغم. ولذلك غالبًا ما يُباشر بالعلاج قبل التأكد من نتيجة الزرع. قد يسمح اختبار تضخيم الحمض النووي واختبار نازعة أمين الأدينوزين بالتشخيص السريع للسلّ. إلا أنه لا يُوصى بعمل هذه الاختبارات بشكل روتيني لأنها نادرًا ما تُغيِّر من طريقة علاج الشخص المصاب. كما أن اختبارات الدم للكشف عن الأجسام المضادة ليست نوعية أو حساسة، لذلك لا يُوصى بها. السل الخافي. كثيرًا ما يُستخدم اختبار مانتو للتوبركولين الجلدي لفحص الناس المُعرضين للإصابة للسل بشكل مُرتفع. أولئك الذين تم تحصينهم سابقًا قد يكون نتيجة اختبارهم إيجابية كاذبة. قد تكون نتيجة الاختبار سلبية كاذبة لدى الأشخاص المُصابين بداء الساركويد أو أورام هودجكين اللمفاوية أو سوء التغذية أو قد تُلاحظ أكثر من غيرها لدى المصابين فعلاً بالسل النشط. يُوصى بإجراء مقايسات إطلاق انترفيرون غاما على عينة دم، لدى الأفراد الذين كانت نتيجة اختبار مانتو لديهم إيجابية. وهذه لا تتأثر بالتحصين أو بمعظم المُتفطرات البيئية، لذا فهي تؤدي لظهور نتائج إيجابية كاذبة أقلّ. ومع ذلك فهي تتأثر ب "البكتيريا الفطرية الشلغائية" و"بالبكتيريا الفطرية البحرية" و"البكتيريا الفطرية الكنزاسية". قد تزداد حساسية اختبار IGRA عند استخدامه بالإضافة إلى اختبار الجلد ولكنه قد يكون أقل حساسية من اختبار الجلد عندما يستخدم وحده. الوقاية. تعتمد جُهود الوقاية من السلّ ومكافحته أساسًا على تطعيم الرُضع والكشف والعلاج المُناسب للحالات النشطة. لقد حققت منظمة الصحة العالمية بعض النجاح مع نظم المُعالجة المحسّنة، وانخفاضا قليلًا في عدد الحالات. تنصح فرقة الخدمات الوقائية الأمريكية الأشخاص المُعرضين للإصابة بالسل الخافي لإجراء اختبار مانو ومقايسات إطلاق انترفيرون غاما. اللقاحات. إن اللقاح الوحيد المتوفر في الوقت الحاضر اعتبارًا من 2011 هو لقاح عصيات–السل (بي سي جي) الذي يُمنح حماية غير مُتناسقة ضد السل الرئوي المُتقلص، في حين أنه فعال ضد السل المُنتثر في مرحلة الطفولة. ومع ذلك، فإنه هو اللقاح الأكثر استخدامًا في جميع أنحاء العالم، مع أكثر من 90% من جميع الأطفال الذين تلقوا هذا التطعيم. ومع ذلك، فإن الحصانة التي يمنحها تقل بعد حوالي عشر سنوات. وبما أن السل غير شائع في معظم أنحاء كندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، لذا فإن لقاح BCG يُعطى فقط للأشخاص المُعرضين لإمكانية الإصابة المرتفعة. هُناك جُزء من الحجة المنطقية ضد استخدام اللقاح أنه يجعل اختبار التوبركولين الجلدي إيجابيًا كاذبًا، ومن ثم، لا جدوى منه في الفحص الكاشف. هُناك عدد من اللقاحات الجديدة الآن قيد التطوير. الصحة العامة. أعلنت منظمة الصحة العالمية مرض السل "حالة صحية عالمية طارئة" في عام 1993. وفي عام 2006، وضعت "شراكة دحر السل" الخطة العالمية لوقف السل التي تهدف إلى إنقاذ حياة 14 مليون من لحظة إطلاقه وحتى عام 2015. ويبدو أن عددًا من الأهداف التي وضعت سيكون من غير المحتمل أن تتحقق بحلول عام 2015، ويرجع ذلك في معظمه إلى الزيادة في عدد حالات السل المرتبطة بفيروس نقص المناعة البشرية، وظهور السل المُقاوم للأدوية المتعددة. يستخدم نظام تصنيف السل الذي وضعته جمعية الصدر الأمريكية بشكل أساسي في برامج الصحة العامة. العلاج. يستخدم علاج السل المُضادات الحيوية لقتل البكتيريا. من الصعب علاج السل بشكل فعال بسبب البنية غير العادية والتركيب الكيميائي لجدار الخلية المُتفطرة، مما يعوق دخول الأدوية ويجعل العديد من المضادات الحيوية غير فعالة. يُعد كُلً من الإيزونيازيد والريفامبيسين المُضادان الحيويان الأكثر استخدامًا، ويمكن للعلاج، أن يطول ويدوم عدة أشهر. عادةً ما يُستعمل مُضاد حيوي واحد لعلاج السل الخافي، بينما أفضل علاج لمرض السل النشط هو استخدام مجموعة من المُضادات الحيوية وذلك للحد من إمكانية تطوير البكتيريا للمقاومة المضادات الحيوية. يجب أيضًا مُعالجة الناس الحاملين للعدوى الخافية كي لا يتطور المرض بهم إلى مرض السل النشط في وقت لاحق من الحياة. توصي منظمة الصحة العالمية بالعلاج تحت المراقبة المباشرة، مثل وجود أي مُزود للرعاية الصحية لمُتابعة تناول الشخص للأدوية، في محاولة لخفض عدد الأشخاص الذين لا يتناولون المُضادات الحيوية على نحو مُلائم لا يوجد دليل قوي يدعم هذا التوجه على الأفراد الذين يأخذون أدويتهم بنفسهم بشكل مستقلّ، لذلك تبدو أساليب تذكير الناس بأهمية العلاج فعّالة أكثر. بداية جديدة. يستمر العلاج الجديد الموصى به للسل الرئوي لمدة ستة أشهر، اعتبارًا من عام 2010، ويتضمن مزيجًا من المُضادات الحيوية التي تحتوي على الريفامبيسين وآيزونيازيد وبيرازيناميد وإيثامبوتول خلال الشهرين الأولين، ويعطى الريفامبيسين والآيزونيازيد فقط خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. عندما تكون المقاومة للإيزونيازيد عالية، يمكن إضافة الإيثامبوتول كبديل خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. المرض المتكرر. إذا عاد مرض السل، فمن المُهم القيام باختبار لتحديد حساسيته إلى أي المُضادات الحيوية قبل تقرير العلاج. إذا تم الكشف عن السل المقاوم للأدوية المتعددة، يوصي بالعلاج على الأقل بأربعة مضادات حيوية فعالة لمدة 18 إلى 24 شهرا. مُقاومة الأدوية. تحدث المُقاومة الأولية عندما يُصاب الشخص بسلالة سلية مُقاومة. أما عندما يُصاب شخص بالسل بسلالات حساسة بالكامل للأدوية فقد تتشكل لديه مقاومة ثانوية (مكتسبة) أثناء العلاج بسبب أتباع علاج غير المُناسب أو لعدم اتباع نظام المُعالجة المُقررة على النحو المُناسب (عدم الامتثال) أو استخدام الأدوية ذات النوعية المُتدنية يُعتبر السل المُقاوم للأدوية مُشكلةً خطيرة تُهدد الصحة العامة في العديد من البلدان النامية نظرًا لأنه يتطلب علاج أطول مُدة وأدوية أكثر كُلفةً. يُعرّف السل المُقاوم للأدوية بأنه مقاوم لأكثر دوائين فعالين من الخط الأول: الريفامبيسين والايزونيازيد. اما السل الشديد المقاومة للأدوية فهو مقاوم أيضا لثلاثة عقاقير أو أكثر من الأصناف الستة من أدوية الخط الثاني. أما السل المقاوم كليا للأدوية فقد لوحظ أول مرة سنة 2003 في إيطاليا، ولكن لم يتم الإبلاغ عنه على نطاق واسع لغاية سنة 2012، وهو مُقاوم لجميع الأدوية المُستخدمة حاليًا. توقعات سير المريض. يحدث التقدم من عدوى السل إلى مرض السل الواضح عندما تتغلب العُصيّات على دفاعات الجهاز المناعي وتبدأ في التكاثر. في مرض السل الأولي (حوالي 1-5% من الحالات)، يحدث هذا الأمر بعد العدوى الأولية بوقت قصير. ولكن في معظم الحالات، تحدث العدوى الخافية بدون وجود أعراض واضحة. تُسبب هذه العصيات النائمة السل النشط في 5-10% من هذه الحالات الخافية، وكثيرًا ما يتم هذا بعد سنوات عديدة من حُدوث العدوى. ويزداد خطر إعادة التنشيط مع الكبت المناعي، كما يحدث في حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. ويزداد خطر إعادة التنشيط لدى الأفراد المُصابين بالمتفطرة السلية وفيروس نقص المناعة البشرية في نفس الوقت، ليصل إلى 10 في المائة في السنة. وقد أظهرت دراسات استخدام بصمات الحمض النووي لسلالات المتفطرة السلية أن تكرار الإصابة يؤدى بصورة ملحوظة إلى السل المُتكرر أكثر مما كان يُعتقد سابقًا، مع تقديرات انه قد يُساهم بإحداث أكثر من 50% من الحالات المُعاد تنشيطها في المناطق التي يشيعُ فيها السل. يُقدّر احتمال الموت جراء الإصابة بالسل بحوالي 4 في المائة اعتبارًا من عام 2008، وقد سُجل تراجع عن نسبة ال8 في المائة المُسجلة عام 1995. الوبائيات. أُصيب ثُلث سكان العالم تقريبًا بالمتفطرة السلية، وتحدُث إصابة جديدة واحدة كل ثانية على نطاق عالمي. ومع ذلك، فُمعظم الإصابات بالمتفطرة السلية لا تُسبب مرض السل، وتبقى 90–95 في المائة من الإصابات بدون أعراض. في عام 2007، كانت هُناك حوالي 13.7 مليون حالة مُزمنة نشطة. في عام 2010، تم تشخيص 8.8 مليون حالة سل جديدة، وحدثت 1.45 مليون حالة وفاة، ومعظم هذه الإصابات تحدث في البلدان النامية. من بين هذه الوفيات، كان هُنالك حوالي 0.35 مليون حالة مُصابة كذلك بفيروس نقص المناعة البشرية. يُعد السل هو السبب الثاني الأكثر شُيوعًا للوفاة من الأمراض المعدية (بعد تلك التي يتسبب فيها فيروس نقص المناعة المكتسبة/الإيدز). تناقص العدد الكلي لحالات السل مُنذ عام 2005، في حين انخفضت الحالات الجديدة من الإصابات مُنذ عام 2002. وقد حققت الصين تقدُمًا هائلًا في إنقاص مُعدل وفيات السل بين عامي 1990 و2010 بما نسبته 80% تقريبًا. يُعد السل أكثر شيوعًا في البلدان النامية؛ حيثُ تُشير الاختبارات إلى أن حوالي 80% من السكان في العديد من البلدان الآسيوية والأفريقية إيجابيو اختبارات التوبركولين، بينما فقط 5-10% من سكان الولايات المتحدة هُم إيجابيو التوبركولين. قد تراجعت الآمال في السيطرة تمامًا على هذا المرض بشدّة ويعود ذلك إلى عدد من العوامل، بما في ذلك صعوبة تطوير لقاح فعال وعملية التشخيص المُكلفة الثمن والتي تستغرق وقتًا طويلًا وضرورة العلاج لشهور عديدة وزيادة حالات السل المُرتبطة بفيروس نقص المناعة البشرية وظهور حالات مقاومة للعقاقير في الثمانينات. في عام 2007، كانت سوازيلند هي أعلى البلدان في معدلات الإصابة بالسل بواقع 1200 حالة في كل 000 100 نسمة. أما الهند ذات أكبر عدد إجمالي في الإصابات، حيث يقدر عدد الإصابات الجديدة فيها بحوالي مليوني حالة. وفي البلدان المتقدمة، يُعدّ السل أقل شيوعًا، ويوجد بشكل رئيسي في المناطق الحضرية. اختلفت معدلات الإصابة لكل 100 ألف شخص في المناطق المُختلفة من العالم لسنة 2010 حيث سجلت: على الصعيد العالمي 178، أفريقيا 332،الأمريكتين 36، وشرق البحر الأبيض المتوسط 173، أوروبا 63، جنوب شرق آسيا 278، وغرب المحيط الهادئ 139. أما في كندا وأستراليا، فالسل أكثر شيوعًا بين الشعوب الأصلية وخاصةً في المناطق النائية. تُقدر مُعدلات الوفيات الناجمة عن السل في الولايات المتحدة بين السكان الأصليين بخمسة أضعاف معدلها بين غيرهم من السكان. ويختلف معدل حدوث السل حسب السن. في أفريقيا، يُصيب بالسل بالدرجة الأولى المُراهقين وصغار البالغين. أما في البلدان التي انخفضت معدلات الإصابة بشكل كبير (مثل الولايات المتحدة)، فيُصيب السل بشكل أساسي كبار السن وناقصي المناعة. التاريخ. أصيب البشر بالسل مُنذ العصور القديمة فأول كشف لا لبس فيه عن المتفطرة السلية، ينطوي على أدلة عن هذا المرض وُجد في بقايا جواميس يرجع تاريخها إلى حوالي 17,000 سنة مضت. ولكن، أن يكون السل قد نشأ في الأبقار، ثم انتقل إلى البشر، أم أنه انتقل إليهما من سلف مُشترك، فهذا أمر غير واضح لغاية الآن. عند إجراء مقارنة بين جينات معقّد المتفطرة السلية في البشر وجينات معقّد المتفطرة السلية في الحيوانات أشارت النتيجة إلى أن الناس لم يُصابوا بمعقد المتفطرة السلية أثناء تدجين الحيوانات، كما كان يُعتقد سابقًا. تُعد كلتا سلالتي البكتيريا السلية ذات سلف مُشترك، مما يُمكن أن يكون قد أصاب البشر في وقت يرجع إلى ثورة العصر الحجري الحديث. تُظهر بقايا الهياكل العظمية أن البشر في عصور ما قبل التاريخ كانوا يُصابون بالسل عام 4000 قبل الميلاد، وقد وجد الباحثون التلاشي السلي في الأعمدة الفقرية للمومياوات المصرية التي يرجع تاريخها إلى 3000–2400 قبل الميلاد. "فثيسيس" هي كلمة يونانية الأصل تعني الضمور، مُصطلح قديم للسل الرئوي؛; حوالي 460 قبل الميلاد، عرّف "أبقراط" على أنه يُعد المرض الأكثر انتشارًا في العصر. وقيل انه كان يشمل الحمى والسعال المدمى، وكان مميتا دوما في معظم الأحوال وتوحي الدراسات الوراثية أن السل كان حاضرًا في الأمريكتين من حوالي العام 100 م. قبل الثورة الصناعية، غالبًا ما ربط الفولكلور بين السل ومصاصي الدماء. فعندما يتوفى أحد أعضاء الأسرة بسببه، تتراجع الحالة الصحية لأعضاء الأسرة الآخرين المُصابين ببطء. واعتقد الناس أن هذا سببه الشخص الأول الذي أصيب بالسل وأنه يستنزف الحياة من أفراد الأسرة الآخرين. على الرغم من أن النموذج الرئوي المرتبط بـالدرنات كان الدكتور ريتشارد مورتون قد وضع أُسسه كمرض في 1689، إلا أن السل بسبب تنوع أعراضه، لم يُحدد كوحدة مرضية حتى عشرينات القرن الثامن عشر، ولم يُطلق عليه اسم السل حتى 1839من قبل يوهان لوكاس شونلاين خلال السنوات 1838–1845، جلب الدكتور جون كروغان، مالك كهف الماموث، عددًا من الأشخاص المُصابين بالسل إلى الكهف أملا في علاج هذا المرض ضمن درجة الحرارة الثابتة ونقاء هواء الكهف؛ ولكنهم ماتوا في غضون سنة. افتتح هيرمان بريمر مصحات السل الأولى في عام 1859 في (حاليًا سوكولوفسكو) سيليزيا. تمّ التعرّف على العصيّة التي تسبب السل ،"المتفطرة السلية"، ووصفها في 24 مارس 1882 من قبل روبرت كوخ الذي حصل على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام 1905 لهذا الاكتشاف. لم يكن كوخ يعتقد أن مرضي السل البقري (لدى الماشية) والسل البشري متشابهان، مما أدى إلى تأخير اعتبار الحليب الملوث مصدرا للعدوى.وفي وقت لاحق، تم الحدّ من خطر انتقال العدوى من هذا المصدر بشكل كبير بعد اختراع عملية البسترة أعلن كوخ عن مستخلص ذي أساس من الجليسرين مستخرج من العصيات السلية كـ "علاج" لمرض السل في عام 1890، وأطلق عليه اسم "السلين".وبالرغم من أنه لم يكن فعالا، إلا أنه استخدم بنجاح فيما بعد كوسيلة اختبار لكشف وجود السل قبل ظهور أعراضه. حقق ألبرت كالميت وكميل غيران أول نجاح حقيقي في مجال التحصين ضد السل عام 1906، باستخدام سلالات مُضعفة من العصيّات المسببة للسل البقري. وكان يطلق عليها اسم عصية كالميت وغيران (BCG). وكان أول استخدام للقاح الـ BCG على البشر عام 1921 في فرنسا، ولكنه لاقى قبولا واسعا فقط في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. استحوذ السل على أكثر اهتمام بين العامة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين باعتباره من الأمراض المتوطنة التي تصيب المناطق الفقيرة.في عام 1815، كان ربع حالات الوفيات في إنجلترا بسبب "الضمور". وبحلول عام 1918، كان السل مايزال سبب واحدة من بين كل 6 وفيات في فرنسا. في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وبعد تصنيف هذا المرض كمرض معدٍ، وُضع السل على الأمراض التي يجب الإبلاغ عنها في بريطانيا، وبدأت الحملات لمنع الناس من البصق في الأماكن العامة، وتم "تشجيع" الفقراء المصابين بالعدوى على دخول المصحات. التي تشبه السجون (كانت المصحات المخصصة للطبقات الوسطى والعليا تقدم الرعاية الممتازة والعناية الطبية المستمرة) وأيا كانت الفوائد (المزعومة) للـ "الهواء النقي" والعمل في المصحات، حتى في ظل أفضل الظروف، فإن 50٪ من الذين دخلوا إليها توفوا في غضون خمس سنوات ("تقريبًا" 1916) في أوروبا، بدأت معدلات السل في الارتفاع في أوائل القرن السابع عشر لتصل إلى أوجها في القرن التاسع عشر، عندما سببت ما يقارب من 25٪ من مجموع الوفيات ثم تراجعت نسبة الوفيات بحوالي 90% في منتصف القرن العشرين (الخمسينات منه). بدأ التحسن في الشؤون الصحية العامة بإنقاص معدل الإصابة بالسل بشكل ملموس حتى قبل وصول الستربتوميسين وغيره من المضادات الحيوية، على الرغم من أن المرض كان لا يزال يشكل خطرا كبيرا على الصحة العامة بحيث أنه عندما تم تشكيل مجلس البحوث الطبية في بريطانيا في عام 1913، كان تركيزه الأساسي منصبّا على بحوث السل في عام 1946، كان تطوير المضاد الحيوي الستربتوميسين سببا في جعل العلاج الفعال والشفاء من السل حقيقة واقعة.قبل إدخال هذا الدواء، كان العلاج الوحيد (باستثناء المصحات) هو التدخل الجراحي، بما في ذلك " تقنية استرواح الصدر "، الذي ينطوي على خمص الرئة المصابة إلى وضعية "الراحة" مما يسمح للآفات السلية بالشفاء. وسمح ظهور السل المقاوم للأدوية المتعددة بتقديم الجراحة مرة أخرى كخيار ضمن المعايير المقبولة عموما للرعاية في علاج التهابات السل.تنطوي التدخلات الجراحية الحالية على استئصال الأجزاء المريضة من الرئتين ("فقاعات") للحد من أعداد من البكتيريا ولزيادة تعرض للبكتيريا المتبقية للأدوية الموجودة في مجرى الدم، مما ينقص بالتالي من العدد الكلي للبكتيريا ويزيد من فعالية العلاج الجهازي بالمضادات الحيوية تبددت الآمال بالقضاء التام على السل (كما حدث فيالجدري) بعد ظهور السلالات المقاومة للأدوية في ثمانينات القرن العشرين.وأدى ما تلاها من تجدد ظهور مرض السل إلى إعلان حالة طوارئ صحية عالمية من قبل منظمة الصحة العالمية في عام 1993 المجتمع والثقافة السائدة. تعمل منظمة الصحة العالمية ومؤسسة بيل وميلينداغيتس على دعم اختبار تشخيصي جديد سريع المفعول لاستخدامه في البلدان المُنخفضة الدخل والمُتوسطة الدخل اعتبارًا من عام 2011، لا تزال إمكانيات العديد من الأماكن التي تفتقر إلى الموارد مُقتصرة على الفحص المجهري للقشع. احتلت الهند مركز الصدارة العالمي في عدد إصابات السل عام 2010، وهذا يعود جُزئيًا إلى سوء تدبير الأمراض ضمن القطاع الصحي الخاص. إن وجود برامج مثل البرنامج الوطني المنقح لمكافحة السل يُساعد على خفض معدلات الإصابة السل بين الأشخاص الذين يتلقون الرعاية الصحية العامة البحوث. هُناك محدودية لتأثير لقاح ال BCG، وما زالت البُحوث لتطوير لقاحات جديدة لمُكافحة السل مُستمرة وهناك عدد من اللقاحات المُحتملة المُرشحة حاليًا، والتي ما تزال في طور المرحلة الأولى والثانية من التجارب السريرية هُناك طريقتان أساسيتان مُستخدمتان في ُحاولة تحسين فعالية اللقاحات المُتوفرة حاليًا.أول طريقة تعتمد على إضافة لقاح الوُحَيْدات إلى لقاح الBCG، في حين أن الإستراتيجية الأخرى تسعى لتخليق لقاحات حية جديدة أفضل. يُعد MVA85A مثال على لُقاح الوحيدات الذي هو حاليًا في طور التجارب في جنوب أفريقيا، ويعتمد اللقاح على الفيروسات المُعدلة وراثيًا وهناك أمل في أن تلعب اللُقاحات دورًا هامًا في علاج كل من الأمراض الكامنة والنشطة لتشجيع المزيد من الاكتشاف، يسعى الباحثون وصُناع القرار إلى تقديم نماذج اقتصادية جديدة لتطوير اللقاح، بما في ذلك الجوائز والحوافز الضريبية والتزامات السوق المسبقة. وهناك عدد من المجموعات التي تشارك في البحث، ومن ضمنها الشراكة لدحر السل، مبادرة لقاح السل في جنوب أفريقيا ومؤسسة آيراس العالمية من أجل لقاح السل، ومن بين هذه المؤسسات، تلقّت مؤسسة أيراس العالمية من أجل لُقاح السل هدية تفوق قيمتها 280 مليون دولار أمريكي من مؤسسة بيل وميليندا غيتس لتطوير وترخيص لُقاح مُحسّن ضد السل لاستخدامه في البلدان التي تعاني منه أكثر من غيرها. في الحيوانات الأخرى. تُصيب البكتيريا فُطْرية حيوانات مُختلفة، بما في ذلك الطيور، والقوارض والزواحف وقد بُذلت جُهود في مُحاولة للقضاء على السل البقري الناجم عن "المتفطرة البقرية" لدى الماشية وقطعان الغزلان في نيوزيلندا وحققت نجاحًا نسبيًا. أما في في بريطانيا العظمى فكانت النتائج أقل نجاحا حمى الضنك أو الدِّنْجِيّة أو أبو الرُّكَب أو الدنج أو الدنك أو حمى تكسير العظام أو حمى عدن هو مرض مداري منقول بالبعوض يحدث بسبب فيروس الضنك. تشمل الأعراض الحمى والصداع وآلام العضلات والمفاصل وطفحا جلديا متميزا شبيها بطفح الحصبة. يتطور المرض في نسبة قليلة من الحالات إلى حمى الضنك النزفية المهددة للحياة، مما ينتج عنه نزف وقلة الصفيحات وفقدان بلازما الدم أو متلازمة صدمة الضنك حيث يحدث انخفاض خطير في ضغط الدم. تنتقل حمى الضنك بواسطة عدد من أنواع البعوضيات من جنس الزاعجة ("Aedes") وخصوصا الزاعجة المصرية ("Aedes aegypti"). هذا الفيروس يضم خمسة أنواع. الإصابة بعدوى أحد هذه الأنواع يعطي مناعة مدى الحياة لذلك النوع، لكنه يعطي مناعة قصيرة المدى لبقية الأنواع. العدوى التالية بنوع مختلف يزيد من خطر المضاعفات. لا يوجد لقاح متوفر تجاريًا. يمكن الحصول على الوقاية عن طريق تقليل مواطن وأعداد البعوض وتقليل التعرض للدغات. علاج الضنك الحاد هو علاج داعم مثل معالجة الجفاف عن طريق الفم أو الوريد في الحالات المعتدلة إلى المتوسطة أو علاج بالسوائل الوريدية أو نقل الدم في الحالات الأشد حدة. وازدادت حالات الإصابة حمى الضنك منذ عقد ستينات القرن العشرين بشكل مثير، حيث يصاب من بين 50 و528 مليون شخص سنويا. أقدم وصف لأعراض المرض يعود لعام 1779، لكن لم تُكتشف أسبابه الفيروسية وانتقاله حتى أوائل القرن العشرين. وقد أصبح الضنك مشكلة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية حيث إنه متوطن في أكثر من 110 بلدا. فضلا عن التخلص من البعوض، العملُ مستمر للحصول على لقاح لحمى الضنك بالإضافة لأدوية موجهة للفيروس. الإشارات والأعراض. بصورة عامة، أكثرُ المرضى المصابين بعدوى فيروس حمى الضنك لا يُظهرون أعراضا (يشكلون نسبة 80٪) أو أنهم يشكون من أعراض معتدلة مثل الحمى بدون مضاعفات. هنالك 5٪ من المرضى يشكون من أعراض أشد بالإضافة لنسبة قليلة حياتهم مهددة. فترة الحضانة (الفترة بين التعرض للإصابة وحتى ظهور الأعراض) تتراوح من 3 إلى 14 يوما، لكنها غالبا ما تكون من 4 إلى 7 أيام. لذلك فإنه من المستبعد إصابة المسافرين الذين يعودون من أماكن استيطان المرض ولا تظهر أعراض الضنك مثل الحمى أو الأعراض الأخرى خلال 14 يوما من عودتهم لديارهم. عادة ما يعاني الأطفال من أعراض شبيهة بالبرد والالتهاب المعدي المعوي (قيء وإسهال) كما إنهم معرضون لخطر أكبر من المضاعفات الشديدة، حيث تبدأ الأعراض خفيفة عموما لكن الحمى أشد. المسار السريري. الأعراض المميزة لحمى الضنك هي الحمى التي تبدأ فجأة والصداع (عادة ما يكون الألم خلف العينين) وألم العضلات والمفاصل وطفحية. من الأسماء المرادفة لحمى الضنك هو "حمى تكسير العظام"، حيث ترتبط هذه التسمية بآلام العضلات والمفاصل. ينقسم مسار العدوى إلى 3 مراحل هي: مرحلة الحمى ثم المرحلة الحرجة ثم المعافاة. تشمل مرحلة الحمى حمى شديدة قد تتجاوز 40° مئوية (104° فهرنهايت) ويظهر أيضاً ألم عام وصداع. هذه الأعراض قد تستمر من يومين إلى 7 أيام. قد يحدث غثيان وتقيؤ. يظهر الطفح في 50–80٪ من الذين يشكون من أعراض في اليوم الأول أو الثاني من ظهور الأعراض وعلى شكل احمرار جلدي، أو يظهر لاحقاً في فترة المرض (من اليوم الرابع إلى السابع) على شكل طفح حصبي. كما يمكن ملاحظة طفح يوصف بأنه على شكل "جزر بيضاء وسط بحر أحمر". في تلك المرحلة يمكن أن تظهر حبرات (وهي بقع جلدية حمراء لا تختفي عن الضغط عليها تظهر بسبب تضرر الشعيرات الدموية)، قد ينزف بعضها نزفاً بسيطاً من الغشاء المخاطي في الفم والأنف. يمر المرض عن بعض الناس بمرحلة حرجة بعد زوال الحمى. خلال هذه الفترة يحصل فقدان للبلازما من الأوعية الدموية يستمر عادة يوماً أو يومين، مما يؤدي لتراكم السوائل في منطقة الصدر والبطن وكذلك نقص حجم الدم ونقص في الدم الواصل إلى الأعضاء الحيوية. كما قد يحدث عجز في بعض أعضاء الجسم بسبب النزف الشديد وخاصة من القناة الهضمية. الصدمة ("متلازمة صدمة الضنك") والنزف ("حمى الضنك النزفية") تحدث في 5٪ من مجموع حالات حمى الضنك. إن الذين أصيبوا سابقاً بعدوى نمط مصلي آخر من فيروس الضنك معروضون لخطر أكبر. رغم أن هذه المرحلة الحرجة نادرة، لكنها تحدث نسبياً أكثر شيوعا عند الأطفال والشباب. تحدث بعدها مرحلة المعافاة، حيث تتم استعادة المفقودة إلى مجرى الدم. تستمر هذا المرحلة يومين أو ثلاثة. عادة ما يكون التحسن محددا، حيث يمكن أن ترافقه حكة شديدة وبطء القلب. قد يحدث الطفح مرة أخرى ويكون ذا مظهر إما بقعيا حطاطيا أو وعائيا والذي يتبعه تقشر في الجلد. خلال هذه المرحلة قد تحدث حالة فرط حجم الدم. هذه الحالة إذا أثرت في الدماغ (تسمى وذمة دماغية) فقد تتسبب بانخفاض في مستوى الوعي أو نوبات. الشعور بالإعياء قد يستمر أسبوعين عند البالغين. المشاكل المرتبطة. قد تؤثر حمى الضنك أحيانا على أنظمة الجسم إما بشكل معزول أو مترافق مع أعراض الضنك النمطية. يحدث انخفاض مستوى الوعي في 0.5–6٪ من الحالات، والتي تعزى إلى التهاب الدماغ بالفيروس أو بشكل غير مباشر نتيجة لخلل في أعضاء حيوية مثلما يحصل في اعتلال الكبد. هنالك اعتلالات عصبية أخرى تحدث بسبب الضنك مثل التهاب النخاع المستعرض ومتلازمة غيلان باريه. أما عدوى القلب والفشل الكبدي الحاد فهي من المضاعفات النادرة. الأسباب. الفيروسات. فيروس الضنك هو فيروس حمض نووي ريبوزي ينتمي لعائلة الفيروسات المصفرة ولجنس الفيروسة المصفرة. من الفيروسات الأخرى التي تنتمي لهذا الجنس فيروس غرب النيل وفيروس التهاب الدماغ الياباني وفيروس التهاب دماغ القديس لويس وفيروس التهاب الدماغ المحمول بالقراد وفيروس داء غابة كياسانور وفيروس حمى أومسك النزفية. أغلب هذه الفيروسات تنتقل بواسطة مفصليات الأرجل (بعوض أو قراد)، لذلك فهي تسمى أربوفيروس (بمعنى "فيروسات منقولة بالمفصليات"، حيث أن التسمية مشتقة من الاسم الإنكليزي ARthropod-BOrne virus). جينوم فيروس الضنك يحتوي على 11000 قاعدة نكليوتيد والتي تشفر لثلاثة أنواع من جزيئات البروتين وهي (C وprM وE) والتي تكوّن الفيروس وسبعة أنواع من جزيئات البروتين (NS1 وNS2a وNS2b وNS3 وNS4a وNS4b وNS5) والتي توجد في الخلايا المصابة بالعدوى والمطلوبة لتكاثر الفيروس فقط. توجد خمسة سلالات من الفيروس تدعى بالأنماط المصلية. الأنواع الأربعة الأولى تحمل تسميات فيروس الضنك-1 وفيروس الضنك-2 وفيروس الضنك-3 وفيروس الضنك-4، أما الخامس فقد أعلن عن اكتشافه عام 2013. التمييز بين الأنماط يعتمد على الاستضداد. الانتقال. ينتقل فيروس الضنك إلى الإنسان بواسطة بعوضيات من جنس الزاعجة وخصوصا الزاعجة المصرية. تعيش هذه البعوضيات عادة بين خطي العرض 35° شمالا و35° جنوبا في ارتفاعات لا تتجاوز 1000 متر (3300 قدم) فوق مستوى سطح البحر. تحدث اللدغات عادة أثناء النهار خصوصا بداية الصباح وفترة المساء، لكنها قادرة على اللدغ في أي وقت من اليوم وطوال السنة. من أنواع الزاعجة الأخرى التي تنقل المرض الزاعجة المنقطة بالأبيض والزاعجة البولينيزية والزاعجة الترسية. يعد الإنسان المضيف الرئيسي للفيروس، لكن الفيروس يمكن أن ينتقل أيضا إلى رئيسيات أخرى غير البشر. كما يمكن أن تحدث العدوى من لدغة واحدة فقط. تتناول البعوضة الأنثى دم الشخص المصاب لتتغذى عليه، فإن لدغت شخصا مصابا بحمى الضنك خلال فترة يومين إلى 10 أيام من مرحلة الحمى تصبح البعوضة نفسها مصابة بالفيروس ويوجد في الخلايا المبطنة لقناتها الهضمية. ينتشر الفيروس إلى أنسجة أخرى بعد فترة من 8 إلى 10 أيام ليشمل الغدد اللعابية للبعوضة ثم تقوم بإفراز الفيروس في لعابها. يبدو أن الفيروس ليس له تأثير على حياة البعوضة، كما أنها تبقى مصابة به مدى حياتها. تفضل الزاعجة المصرية طرح بيوضها في حاويات المياه الصناعية لتتغذى على البشر دون الفقريات الأخرى. يمكن أن تنتقل عدوى حمى الضنك بواسطة مكونات الدم الحاملة للعدوى والتبرع بالأعضاء. خطر انتقال العدوى عن طريق نقل الدم في البلدان التي يستوطن فيها المرض مثل سنغافورة يقدر بين 1.6 إلى 6 من كل 10000 مواطن. كما سجلت حالات الانتقال العمودي للعدوى من الأم إلى طفلها أثناء الحمل وخلال الولادة. كما سجلت حالات انتقال العدوى من شخص إلى شخص آخر، لكن هذه الحالة غير معتادة جدا. التباين الوراثي في فيروسات حمى الضنك يختلف حسب المنطقة، مما يفترض أن انتقال المرض إلى مناطق جديدة هي نادر نسبيا على الرغم من ظهور حالات حمى الضنك في مناطق جديدة في العقود الأخيرة. قابلية حصول المرض. يشيع المرض في الأطفال والرضع، بخلاف أنواع كثير أخرى من العدوى، كما إنه أكثر حدوثا في الأطفال ذوي التغذية الجيدة نسبيا. من عوامل الخطورة الأخرى هي الإناث أكثر عرضه لحدوث العدوى من الذكور ومؤشر كتلة الجسم المرتفع والحمل الفيروسي. رغم أن كل الأنماط المصلية يمكنها أن تسبب الطيف الكامل للمرض إلا أن سلالاة الفيروس تعد عامل خطر. يعتقد أن الإصابة بنمط مصلي واحد يمكن أن توفر مناعة مدى الحياة لذلك النوع، لكنه أيضا يوفر مناعة قصيرة الأمد للأنواع الثلاثة الأخرى. تزداد خطورة الإصابة بمرض شديد من عدوى ثانوية إذا تعرض المريض لفيروس الضنك-1 بخلاف فيروس الضنك-2 أو فيروس الضنك-3 أو تعرض لفيروس الضنك-3 ثم أصيب بفيروس الضنك-2. تعد حمى الضنك مهددة لحياة المرضى المصابين بأمراض مزمنة مثل السكري والربو. رُبِطَ تعدد أشكال مورثة معينة مع خطر الإصابة بمضاعفات شديدة للضنك. من الأمثلة على الجينات المشفرة لبروتينات مثل عامل نخر الورم ألفا ولكتين رابط للمانان والبروتين المرتبط بالخلايا اللمفاوية التائية السامة 4 وعامل النمو المحول بيتا وكتلة التمايز 209 و1-فوسفاتيديل إينوزيتول-4،5-ثنائي فوسفات فوسفو ثنائي إستراز أبسلون-1 وأشكال معينة من مستضد الكريات البيضاء البشرية وهي من اختلافات جين معقد التوافق النسيجي الكبير-ب. يعد فقر الدم الناجم عن عوز سداسي فوسفات الجلوكوز النازع للهيدروجين من أبرز المشاكل الجينية التي تزيد من خطر الضنك، خصوصا عند الأفارقة. يبدو أن تعدد أشكال مورثات مستقبل فيتامين د ومستقبل Fc توفر الوقاية من المرض الشديد في عدوى الضنك الثانوية. آلية حدوث المرض. عندما تحمل البعوض فيروس الضنك وتلدغ الإنسان، يدخل الفيروس الجلد مع لعاب البعوضة. يرتبط الفيروس بكريات الدم البيض ويدخلها ثم يتكاثر داخل الخلية وهي تنتقل خلال الجسم. تستجب الكريات البيض لهذه العدوى وتنتج بروتينات مثل السيتوكينات والإنترفيرونات المسؤولة عن كثير من الأعراض مثل الحمى والأعراض الشبيهة بالنزلة الوافدة والآلام الشديدة. يزداد إنتاج الفيروس داخل الجسم بشدة في حالات العدوى الشديدة، ويمكن أن يصاب أعضاء أخرون من الجسم مثل الكبد ونخاع العظم. تتسرب السوائل من مجرى الدم خلال الأوعية الدموية الدقيقة نحو تجاويف الجسم بسبب النفاذية الوعائية. نتيجة لذلك، سيجري دم أقل في الأوعية الدموية وينخفض ضغط الدم ولا يمكن إيصال كمية من الدم إلى الأعضاء الحيوية. بالإضافة لذلك، فإن عجز نخاع العظم بسبب عدوى الخلايا السدوية يؤدي إلى نقص في عدد الصفيحات الضرورية في تخثر الدم، مما يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بنزف، وهو أهم مضاعفات حمى الضنك. تكاثر الفيروس. عندما يدخل الفيروس عبر الجلد يرتبط بخلايا لانغرهانس (وهي مجموعة من الخلايا المتغصنة في الجلد تتعرف على العوامل الممرضة). يدخل الفيروس إلى الخلية عن طريق الارتباط بين بروتين الفيروس والبروتينات الغشائية على خلايا لانغرهانس، وخصوصا لكتينات نوع ج التي تدعى كتلة التمايز 209 ولكتين نوع ج عائلة 5 عضو أ ومستقبل مانوز. DC-SIGN، وهو مستقبل غير محدد للأجسام الغريبة في الخلايا المتغصنة، فيبدو أنه النقطة الرئيسية للدخول. تنتقل الخلايا المتغصنة إلى أقرب عقدة لمفاوية. في هذه الأثناء، يستنسخ جينوم الفيروس في الحويصلات المرتبطة بالغشاء على الشبكة الهيولية الباطنة للخلية، حيث يقوم الجهاز المختص بإنتاج البروتين في الخلية بإنتاج بروتينات الفيروس التي تقوم بتكاثر الحمض النووي الريبوزي للفيروس للبدء بتكوين جزيئات الفيروس. تُنقل جزيئات الفيروس غير الناضجة إلى جهاز غولجي، وهو جزء الخلية التي تستقبل فيه بعض البروتينات سلاسل السكريات الضرورية (البروتين السكري). تتبرعم الفيروسات الناضجة على سطح الخلية المصابة بالعدوى وتطلق بعملية الإخراج الخلوي. وبذلك تكون قادرة على دخول كريات الدم البيض الأخرى مثل الخلايا الوحيدة والخلايا الأكولة الكبيرة. يعد إنتاج الإنترفيرون هو التفاعل الأولي في الخلايا المصابة بالعدوى، والإنترفيرون هو سيتوكين يرفع عدد الدفاعات ضد العدوى الفيروسية من خلال المناعة الطبيعية بواسطة زيادة إنتاج مجموعة كبيرة من البروتينات بوساطة سبيل إشارات جاك-ستات. يبدو أن بعض الأنماط الوراثية لفيروس حُمّى الضنك لديها آليات لتبطئ هذه العملية. كذلك يفعّل الإنترفيرون الجهاز المناعي التكيفي الذي يؤدي إلى توليد أجسام مضادة للفيروس بالإضافة للخلايا التائية التي تهاجم الخلايا المصابة بعدوى الفيروس مباشرة. تتولد أجسام مضادة متنوعة، بعضها يرتبط بالقرب من بروتين الفيروس ويستهدفه بواسطة البلعمة (وهي عملية التهام بواسطة خلايا متخصصة وتحطيمها)، لكن يبدو أن بعضها يرتبط بأقل جودة وعوضا عن ذلك يقوم يتسليمه إلى خلايا بلعمية حيث لا يتدمر الفيروس ولكنه يتكاثر أكثر. المرض الشديد. لا تتوفر معلومات كافية حول سبب أن الإصابة بعدوى ثانوية بسلالة مختلفة من فيروس حمى الضنك تجعل الشخص معرضا لخطر أكبر بالإصابة بحمى الضنك النزفية ومتلازمة صدمة الضنك. النظرية الأكثر قبولا هي وجود استعزاز معتمد على الجسم المضاد (ADE). آلية عمل الاستعزاز المعتمد على الجسم المضاد غير واضحة. قد يكون السبب هو الارتباط الضعيف بين الجسم المضاد غير المستعدل وتسليم الفيروس إلى حيز خطأ في كرية الدم البيضاء التي التهمت الفيروس لغرض تحطيمه. هنالك شك بأن الاستعزاز المعتمد على الجسم المضاد ليست الآلية الوحيدة المتسببة بمضاعفات حمى الضنك الشديدة، كما أن هنالك خطوط بحثية تتضمن دور الخلية التائية والعوامل الذائية مثل السيتوكينات والجملة المتممة. يتميز المرض الشديد بمشكلة نفاذية الشعيرات الدموية (السماح بمرور السوائل والبروتين الموجودات بصورة طبيعية في الدم) ومشكلة تجلط الدم. يبدو أن هذه التغيرات مرتبطة بحالة مرضية هي الكأس السكري البطاني الذي يقوم بدور منخل جزيئي لمكونات الدم. يعتقد أن الشعيرات الدموية الناضحة سببها استجابة للجهاز المناعي. أما الطرق الأخرى المثيرة للاهتمام فتشمل الخلايا المصابة بالعدوى التي تتنخر، وهذا يؤثر على كل من تجلط الدم وانحلال الفبرين (أنظمة متضادة لتجلط الدم وتحلل التجلط) وانخفاض عدد الصفيحات الدموية، وهو كذلك عامل طبيعي في التجلط الطبيعي. التشخيص. من المعتاد تشخيص حمى الضنك سريريا على أساس الأعراض المسجلة والفحص السريري، وهذا مطبق في الأماكن التي يستوطن فيها المرض. رغم ذلك، فإنه من الصعب تمييز المرض في مراحله الأولى عن الأمراض الفيروسية الأخرى. التشخيص المحتمل قائم على نتائج تشخيص تضم الحمى بالإضافة اثنين مما يلي: الغثيان والقيء والطفح الجلدي وآلام عامة وقلة الكريات البيض واختبار العاصبة أو أي علامة أخرى (طالع الجدول) تصيب الشخص الذي يعيش في منقطة استيطان المرض. عادة ما تحدث العلامات المحذرة قبل بداية المرض الشديد. اختبار العاصبة النافع من الناحية العملية ويستخدم في ظروف عدم توفر الفحوص المختبرية يتضمن استخدام كفة مقياس ضغط الدم ما بين الضغطين الانبساطي والانقباضي لمدة 5 دقائق، يتلو ذلك عد أي نزف حبري. العدد الأكبر يجعل تشخيص الضنك راجحا أكثر مع قطع من 10 إلى 20 في كل بوصة مربعة (6.25 سم2). يجب أن يؤخذ التشخيص بنظر الاعتبار لكل فرد تحدث لديه الحمى خلال أسبوعين ويكون في منطقة استوائية أو شبه إستوائية. قد يكون من الصعب التمييز بين حمى الضنك والشيكونغونيا، وهي عدوى فيروسية تشترك بكثير من الأعراض وتحدث في أجزاء من العالم تحدث فيها حمى الضنك. عادة ما تجرى الفحوص لاستبعاد الأمراض الأخرى التي تسبب أعراض مشابهة مثل الملاريا وداء البريميات والحمى النزفية الفيروسية وحمى التيفوئيد ومرض المكورات السحائية والحصبة والنزلة الوافدة. التغيرات في نتائج الفحوص المختبرية والقابلة للكشف هي قلة الكريات البيض والتي يمكن أن يتبعها قلة الصفيحات وحماض أيضي. عادة من تكون الزيادة المعتدلة في مستويات ناقلة الأمين (ناقلة الأسبارتات وناقلة الألانين) من الكبد مرتبطة بقلة الصفيحات وقلة الكريات البيض. في المرض الشديد، يتسبب تسرب البلازما بتركز الدم (كما يؤشر بزيادة الهيماتوكريت) ونقص ألبومين الدم. يمكن الكشف عن وجود الانصباب الجنبي أو الاستسقاء البطني بواسطة الفحص السريري عندما يكون كبيرا، لكن ظهور السوائل في تخطيط الصدى قد يساعد في الكشف المبكر عن متلازمة صدمة الضنك. إن استخدام تخطيط الصدى محدود بسبب عدم توفره في ظروف كثيرة. وتوجد متلازمة صدمة الضنك إذا انخفض الضغط النبضي إلى أقل من 20 ملم زئبق مع انهيار وعائي محيطي. يوصف الانهيار الوعائي المحيطي في الأطفال من خلال تأخر عود امتلاء الشعيرات أو زيادة سرعة القلب أو برودة الأطراف. رغم أن العلامات المحذرة جوانب مهمة في الكشف المبكر عن مرض خطير محتمل، إلا أن الأدلة لأي علامات سريرية أو مختبرية خاصة تعد ضعيفة. التصنيف. تصنيف منظمة الصحة العالمية لعام 2009 قسم حمى الضنك إلى مجموعتين: البسيط والشديد. هذا التصنيف استبدل عن تصنيف منظمة الصحة العالمية لعام 1997 والذي كان بحاجة لأن يبسط وقد وجد بأنه كان مقيدا جدا، لذلك فإن التصنيف القديم ما يزال يستخدم بشكل واسع وبضمنها المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في جنوب شرق آسيا بحسب سنة 2011. يعرف مرض حمى الضنك الشديد بأنه يرتبط بنزف شديد أو اختلال وظيفي شديد في الأعضاء أو ارتشاح بلازما شديد بينما كل الحالات الأخرى فهي بسيطة. قسم تصنيف عام 1997 حمى الضنك إلى حمى غير متمايزة وحمى الضنك وحمى الضنك النزفية. قسمت حمى الضنك النزفية إلى 4 درجات، الدرجة الأولى هي وجود تكدم سهل أو اختبار عاصبة إيجابي عند شخص مصاب بالحمى، والدرجة الثانية هي وجود نزف متواصل في الجلد وأي مكان آخر، والدرجة الثالثة هي وجود دليل سريري على صدمة، والدرجة الرابعة هي صدمة شديدة جدا بحيث لا يمكن الكشف عن ضغط الدم ولا عن النبض. توصف الدرجتان الثالثة والرابعة بأنهما "متلازمة صدمة الضنك". الفحوص المختبرية. يمكن التؤكد من تشخيص حمى الضنك من خلال اختبار مختبر الأحياء المجهرية. يمكن إجراء الفحوص من خلال عزل الفيروس في زرع الخلايا أو اختبار الحمض النووي بواسطة تفاعل البوليميراز المتسلسل أو الكشف عن مولد ضد الفيروس (مثل اختبار مولد الضد ن س 1) أو أجسام مضادة معينة (اختبارات المصل). عزل الفيروس والكشف عن الحمض النووي أكثر دقة من الكشف عن مولد الضد، لكن هذه الاختبارات غير متوفرة بشكل واسع بسبب ارتفاع تكلفتها. تصل نتيجة الكشف عن "ن س 1" خلال مرحلة الحمى في العدوى الأولية إلى أكثر من 90٪ بينما هي من 60 إلى 80٪ فقط في أنواع العدوى التالية. وقد تكون كل الفحوص سالبة النتائج خلال المراحل الأولى من الإصابة بالمرض. إن تفاعل البوليميراز المتسلسل والكشف عن مولد ضد الفيروس أكثر دقة خلال الأيام السبعة الأولى. في عام 2012، قدم اختبار تفاعل بوليميراز متسلسل يمكن تشغيله على معدات الكشف عن الإنفلاونزا، ويبدو أنه يحسن الوصول إلى تشخيص قائم على تفاعل البوليميراز المتسلسل. لهذه الفحوص قيمة تشخيصية خلال المرحلة الحرجة من المرض فقط باستثناء اختبارات المصل. يمكن أن يكون لاختبارات الأجسام المضادة الخاصة بفيروس حمى الضنك من نوع الغلوبولين المناعي ج ونوع الغلوبولين المناعي م فائدة في تأكيد التشخيص في المراحل التالية من العدوى. ينتج كل من الغلوبولين المناعي ج والغلوبولين المناعي م بعد 5 إلى 7 أيام. يمكن الكشف عن أعلى تراكيز (عيار حجمي) للغلوبولين المناعي م بعد عدوى أولية، لكن الغلوبولين المناعي م ينتج أيضا في عودة العدوى. لا يمكن الكشف عن الغلوبولين المناعي م بعد 30 إلى 90 يوما من العدوى الأولية. بالضد منه، فإن الغلوبولين المناعي ج يمكن إيجاده بعد 60 سنة، وهو دليل مفيد في غياب الأعراض على وجود عدوى قديمة. يصل الغلوبولين المناعي ج إلى قمة تركيزه بعد 14–21 يوما من العدوى الأولية. أما في حالات العدوى التالية، فإن الوصول إلى التركيز الأقصى يحدث أبكر وعادة ما تكون التراكيز أعلى. يوفر كل من كل من الغلوبولين المناعي ج والغلوبولين المناعي م المناعة الواقية من العدوى بالنمط المصلي للفيروس. قد تكون هنالك تفاعلية متقاطعة مع الأنواع الأخرى من الفيروسة المصفرة في اختبارات الغلوبولين المناعي ج والغلوبولين المناعي م مما قد يعطي نتائج إيجابية خاطئة بعد عدوى مستجدة أو لقاح لفيروس الحمى الصفراء أو التهاب الدماغ الياباني. لا يعد الكشف عن الغلوبولين المناعي ج تشخيصيا ما لم تجمع عينات الدم تفصلها فترة 14 يوما والكشف عن زيادة أربع أضعاف في مستويات الغلوبولين المناعي ج. يعد الكشف عن الغلوبولين المناعي م في شخص تظهر عليه الأعراض كشفا تشخيصيا. الوقاية. لا توجد لقاحات مضادة لفيروس الضنك مرخصة الاستخدام. لذا فإن الوقاية تعتمد على مكافحة البعوض الناقل له ومنع لدغاتها. تنصح منظمة الصحة العالمية ببرنامج تحكم متكامل بالنواقل يتكون من خمسة عناصر: تقوم الطريقة الأولية لمكافحة الزاعجة المصرية على التخلص من الموائل. تجرى هذه الطريقة عن طريق التخلص من المياه مفتوحة المصدر أو إضافة مبيدات الحشرات أو مواد المكافحة الحيوية لهذه المناطق إن أمكن. ولا يعتقد أن الرش العام للمبيدات من نوع الفوسفات العضوي أو بيريثرويد والتي تجرى أحيانا على أنها فعالة. إن تقليل كميات المياه المفتوحة من خلال التحوير البيئي طريقة مفضلة للمكافحة بسبب مسائل تتعلق بالتأثيرات الصحية السلبية للمبيدات الحشرية ومصاعب لوجستية أكبر متعلقة بمواد المكافحة. يمكن للأفراد الوقاية من لدغات البعوض عن طريق ارتداء ملابس تغطي الجلد بالكامل أو استخدام الناموسية خلال الراحة أو استخدام طارد للحشرات (يعد ديت أكثرها فعالية). مع ذلك، يبدو أن هذه الطرق ليست فعالة كفاية، كما يظهر في تكرار الجائحات التي تزداد في بعض الأماكن، ويحتمل أن التدمن يزيد من توطن الزاعجة المصرية. كما يحتمل اتساع مدى المرض بسبب التغيرات المناخية. يوم مكافحة حمى الضنك. يحتفل باليوم العالمي لمكافحة حمى الضنك في 15 يونيو من كل عام. تم الاتفاق على هذه الفكرة في عام 2010 وعقد أول مرة في جاكرتا في إندونيسيا عام 2011. عقدت المناسبات التالية في يانغون في ميانمار عام 2012 وفي فيتنام في 2013. الهدف منه هو زيادة وعي المجتمع بحمى الضنك واستنفار الجهود للوقاية من المرض ومكافحته وإظهار الالتزام الآسيوي بمعالجة المرض. العلاج. لا يوجد مضاد فيروسي محدد للضنك، لكن من المهم الحفاظ على توازن سوائل مناسب. العلاج يعتمد على الأعراض. الأشخاص لقادرون على الشرب وإدرار البول وليس لديهم علامات خطر فهم في هذه الحالة صحيون ويمكن معالجتهم في البيت ومتابعتهم يوميا واستخدام العلاج بالإرواء الفموي. أما الأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية أخرى ولديهم علامات خطر ولا يمكن متابعة حالاتهم بانتظام فيجب أن يعتنى بهم في المستشفى. أما الذين يعانون من حمى الضنك الشديد فيجب تقديم العناية لهم في أماكن يسهل فيها الحصول على عناية مركزة. في الحالة الحاجة لتعويض السوائل وريديا فعادة ما تكون الحاجة ليوم أو يومين فقط. تتم معايرة معدل إعطاء السوائل مع النتاج البولي بنسبة.5–1 مل/كغم/ساعة، ليوازن العلامات الحيوية وتسويه مكداس الدم. ينصح باستخدام أقل كمية من السوائل للحصول على هذه النتيجة. يجب تجنب العمليات الطبية التداخلية مثل التنبيب الأنفي المعدي والحقن العضلي ووخز الشرايين بسبب مخاطر النزف. يستخدم الباراسيتامول (أو الأسيتامينوفين) للحمى والضيق بينما يجب تجنب مضادات الالتهاب اللاستيرويدية مثل الإيبوبروفين والأسبرين بسبب لأنها قد تفاقم من خطر النزف. يبدأ بنقل الدم مبكرا للأشخاص الذين يعانون من علامات حيوية غير مستقرة ويعانون من نقصان في مكداس الدم عوضا عن انتظار نقصان تركيز الهيموغلوبين إلى مستويات محتومة تستدعي نقل الدم. يتطلب استخدام كريات حمر مكدوسة أو دم كامل، أما الصفيحات الدموية والبلازما المجمدة الطازجة فغالبا لا يتطلب استخدامها. لا توجد ادلة كافية توضح فيم إذا كان استخدام الكورتيكوستيرويدات له تأثير إيجابي أو سلبي على حمى الضنك. يجب إيقاف إعطاء السوائل وريديا خلال فترة المعافاة لمنع حدوث حالة فرط حجم الدم. إذا حدثت حالة فرط حجم الدم وكانت العلامات الحيوية مستقرة فقد يكون كل ما يحتاجه هو إيقاف أي سوائل أخرى. إذا كان المريض خارجا من المرحلة الحرجة فيمكن استخدام مدر بول عروي مثل فوروسيميد للتخلص من السوائل الزائدة في جهاز الدوران. انتشار المرض. يشفى أكثر المصابين بحمى الضنك من دون أي مشاكل أخرى. يبلغ معدل الوفاة بين 1٪ إلى 5٪، لكنه أقل من من 1٪ في حالة العلاج الكافي، أما الذين يعانون من انخفاض واضح في ضغط الدم فيصل معدل الوفاة لديهم 26٪. إن حمى الضنك مرض شائع في 110 بلدا. يصاب بالعدوى ما بين 50 إلى 528 مليون شخص في العالم سنويًا ويؤدي إلى إدخال نصف مليون مريض إلى المستشفى كل عام، ويتوفى 25000 شخص سنويا. تقدر حالات الإصابة بالعدوى خلال العقد الأول من هذا القرن في 12 بلدا في جنوب شرق آسيا بحدود 3 ملايين إصابة و6000 وفاة سنويا. سجلت حالات المرض في 22 بلدا على الأقل في أفريقيا، لكنه يبدو أنه موجود في كل البلدان وأن 20٪ من السكان معرضون لخطر الإصابة. هذا يجعل المرض من بين أكثر الأمراض شيوعا في العالم والمنقولة بواسطة ناقل. يعد اكتساب العدوى في البئية المدنية أكثر شيوعا. توسع القرى والبلدات والمدن في العقود المعاصرة في المناطق التي تشيع فيها إصابات المرض وزيادة تنقل الناس زاد من انتشار وانتقال الفيروس. حمى الضنك الذي عزلت حالاته في جنوب شرق آسيا ينتشر حاليا في جنوب الصين وبلدان المحيط الهادي والولايات المتحدة، وقد يشكل خطرا على أوروبا. ازدادت حالات حمى الضنك 30 ضعفا للفترة من 1960 إلى 2010. يعتقد أن هذه لزيادة تعود لمجموعه من العوامل هي التحضر وزيادة السكان وزيادة السفر بين بلدان العالم والاحترار العالمي. يتوزع المرض جغرافيا حول خط الاستواء، وتبلغ نسبة الإصابات في آسيا والمحيط الهادي 70٪ من مجموع الإصابات بالمرض ضمن سكان منطقة خط الاستواء البالغ عددهم مليارين ونصف. يحتل حمى الضنك المرتبة الثانية بعد الملاريا ضمن أسباب الحمى التي يشخص بها المسافرون العائدون من البلدان النامية، كما أنه أكثر مرض فيروسي ينتقل بواسطة مفصليات الأرجل، ويقدر عبء المرض بحوالي 1600 سنة إعاقة مقدرة من العمر لكل مليون مواطن، وتعد منظمة الصحة العالمية مرض حمى الضنك واحداً من بين 17 مرضاً مدارياً مهملاً. يحفظ فيروس الضنك مثل أكثر بقية فيروسات مجموعة أربوفيروس في الطبيعة في دورات تتضمن نواقل تفضل امتصاص الدم وعائل من الفقريات. تحفظ الفيروسات في غابات جنوب شرق آسيا وأفريقيا وتنتقل من إناث بععوضة الزاعجة (وبضمنها أنواع أخرى غير الزاعجة المصرية) إلى ذريتها وإلى الرئيسيات السفلى. ينتقل الفيروس في المدن والبلدات بصورة أساسية بواسطة الزاعجة المصرية المنتشرة بصورة كثيفة. ينتقل الفيروس في المناطق الريفية إلى الإنسان بواسطة الزاعجة المصرية وأنواع أخرى من الزاعجة مثل الزاعجة المنقطة بالأبيض. اتسع مدى انتشار كلا النوعين خلال النصف الثاني من القرن العشرين. يزداد عدد الفيروسات المنتقلة في الرئيسيات السفلى والإنسان في كل الظروف في عملية تدعى بالتضخيم. لمحة تاريخية. يحتمل أن أول حالة مسجلة لحمى الضنك موجودة في موسوعة طبية صينية خلال فترة حكم أسرة جين (265-420) وقد أطلق عليه "سم الماء" وكان مرتبطا بحشرة طائرة. انتشر الناقل الرئيسي، الزاعجة المصرية، خارج أفريقيا في فترة من بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر بسبب زيادة العولمة ونتيجة ثانوية لتجارة الرقيق. هنالك ذكر لأوبئة المرض خلال القرن السابع عشر، لكن اولى أوبئة المرض الجديرة بالتصديق حدثت في عامي 1779 و1780 عندما اكتسح المرض آسياوأفريقيا وأمريكا الشمالية. منذ ذلك الحين وحتى عام 1940 فإن الأوبئة كانت نادرة. تم تأكيد انتقال المرض بواسطة الزاعجة في عام 1906، وفي عام 1907 كان مرض حمى الضنك المرض الثاني بعد الحمى الصفراء الذي يظهر أن سبب فيروسا. وقد أكملت الأبحاث التي أجراها جون بورتون كليلاند وجوزيف فرانكلين سايلر فهم انتقال المرض. يعزى الانتشار الملحوظ لحمى الضنك خلال الحرب العالمية الثانية لمشاكل بيئية. الاتجاه ذاته أدى لانتشار أنواع نمطية مختلفة من المرض في مناطق جديدة وأدت لنشوء حمى الضنك النزفية. سجل هذه النوع الشديد من المرض أول مرة عام 1953 في الفلبين، ليكون خلال عقد سبعينات القرن العشرين سببا رئيسيا لموت الأطفال وقد ظهر في منطقة المحيط الهادي والأمريكيتين. لوحظت حمى الضنك النزفية ومتلازمة صدمة الضنك أول مرة في أمريكا الوسطى والجنوبية عام 1981، حيث سجلت حالات عدوى بالنوع الثاني من فيروس الضنك في أشخاص كانوا قد أصيبوا سابقا قبل عدة سنوات بعدوى النوع الأول من الفيروس. أصل الكلمة. أصل التسمية الإسبانية للمرض (dengue) غير مؤكدة، لكن من المحتمل أنها مشتقة من كلمة (dinga) في الجملة السواحيلية ("Ka-dinga pepo") والتي تصف المرض بأن سببه روح شريرة. أصيب العبيد في جزر الهند الغربية بالعدوى ووصفوا بأن لديهم وضع ومشية المتأنق، لذا كان المرض يعرف "بحمى المتأنق". استخدم الطبيب والأب المؤسس للمولايات المتحدة بنجامين راش مصطلح "حمى تكسير العظام" أو "الحمى المؤلمة للعظام" في تقرير عام 1789 لوباء عام 1780 في فيلادلفيا. وقد استخدم في العنوان مصطلح "الحمى المحولة الصفراوية" . لم يستخدم مصطلح حمى الضنك استخداما عامًا إلا بعد عام 1828. تشمل التسميات التاريخية الأخرى حمى تكسير العظم والضنك . المصطلحات التي استخدمت للمرض الشديد هي "فرفرية قلة الصفيحات المعدية" و"الحمى النزفية الفلبينية" أو "التايلاندية" أو "السنغافورية". الأبحاث. الجهود المبذولة للعلاج والوقاية من مرض حمى الضنك تشمل جوانب عديدة من مكافحة النواقل وتطوير اللقاح والأدوية المضادة للفيروس. بخصوص مكافحة النواقل، فقد استخدم عدد من الطرق الحديثة للتقليل من أعداد البعوض وقد نجح عدد منها وبضمنها استخدام أسماك الجوبي ("Poecilia reticulata") أو مجدافيات الأرجل في المياه الراكدة والتي تأكل يرقات البعوض. تستمر المحاولات لإصابة البعوض بعدوى جنس من البكتيريا يدعى بالولبخية والتي تجعل البعوض مقاوم جزئيا لفيروس الضنك. كما أن هنالك تجارب لإحداث تغيير جيني في ذكور الزاعجة المصرية ثم إطلاقها إلى البرية للتزاوج مع الإناث وإنتاج ذرية غير قادرة على الطيران. هنالك برامج مستمرة للعمل على لقاح للضنك يغطي الأنواع المصلية الأربعة. اكتشف حاليا نوع خامس يجب أن يوخذ في الاعتبار. من المشاكل المتعلقة باللقاح إمكانية زيادة خطر الإصابة بمرض شديد عن طريق الاستعزاز المعتمد على الجسم المضاد. اللقاح المثالي آمن وفعال بعد حقنة واحدة أو حقنتين ويغطي كل الأنواع المصلية ولا يساهم في الاستعزاز المعتمد على الجسم المضاد ويسهل نقله وخزنه وبسعر معقول وفعال الكلفة. وبحسب عام 2012 فهنالك عدد من اللقاحات تحت الاختبار. أكثرها تطور على أساس مجموعة مضعفة من فيروس الحمى الصفراء والأنواع المصلية الأربعة لفيروس الضنك. وجدت دراستان أن لقاحا فعالا بنسبة 60% ويمنع 80% إلى 90% من حالات الحالات الشديدة. يؤمل في توفر أول المنتجات تجاريًا في عام 2015. إلى جانب مكافحة انتشار بعوضة الزاعجة والعمل على تطوير لقاح لحمى الضنك، فهنالك جهود مستمرة لتطوير أدوية مضادة للفيروسات قد تستخدم لعلاج إصابات حمى الضنك ومنع المضاعفات الشديدة. اكتشاف تركيب بروتينات الفيروس قد تساعد في تطوير أدوية فعالة. هنالك عدد من الأهداف المعقولة. الطريقة الأولى هي تثبيط بوليميراز الحمض النووي الريبوزي المعتمد على الحمض النووي الريبوزي (يرمز له NS5)، والذي ينسخ المواد الوراثية الفيروسية، مع مضاهئ نوكليوزيد. الطريقة الثانية، فقد يكون من الممكن تطوير مثبطات معينة للبروتياز الفيروسي (يرمز له NS3)، والذي يجدل البروتين الفيروسي. أما الطريقة الأخيرة فقد يكون من الممكن تطوير مثبطات مدخل والتي توقف دخول الفيروس إلى الخلايا أو تثبط عملية قبعة 5' المطلوبة في عملية تنسخ الفيروس. استخدام الفيروس كسلاح حيوي. كانت حمى الضنك واحدة من العوامل التي درست الولايات المتحدة الأمريكية إمكانية استخدامها كسلاح بيولوجي قبل أن تعطل الدولة برنامج الأسلحة البيولوجية. داء المتورقات مرض معد، يصيب الإنسان والحيوانات بما فيهما الماشية والغنم. دورة حياة الطفيل. يسببه أحد أنواع المتورقات كالمتورقة الكبدية، حيث يعيش في القناة المرارية ،أكثر من كبد العائل نفسه. ويضع الطفيلي بيضه ليخرج مع البراز. ينتقل الطفيلي إلى الإنسان عن طريق المياه الملوثة من براز الثدييات المحتوي على البيض، حيث تفقس البيوض في الماء لتخرج الذوانب في المياه العذبة فتهاجم القواقع وتتكاثر بها وتخرج السركاريا لتلتصق بالنباتات البحرية أو تتحوصل لتكون حرة في المياه. فيتناولها الحيوان فيصبح مصابا بالفلاريا.حيث تخرج السركاريا من حويصلتها في الأمعاء الصغري وتتجه من تجويف البطن بعدما تخترقه إلي كبد العائل. التوزع الجغرافي. وتنتشر المتورقة الكبدية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وأستراليا. وتعتبر الفاشيولا مرضا نادرا في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم وجود مليوني مصاب به في العالم منذ عام 1980ولا سيما في المناطق المعتدلة والمناطق الاستوائية في جنوب وجنوب شرقي آسيا وأفريقيا. والمرض ينتشر بهذه المناطق التي يكثر فيها تربية الغنم والمواشي من بينها بوليفيا(65-92%.) وإكوادور (من 23- 53%) وبيرو (10%) وإثيوبيا (11%) وفي مصر 3% من الأطفال أصيبوا بالعدوي حتي أصبح مرضا وبائبا بوادي النيل.وقد ظهرت حالات فاشيولا في لبنان يطلق عليها الهالوزون halzoun وفي السودان يطلق عليها الماريرا نتيجة تناول كبدة الأغنام والماعز والبفر النيئة والمصابة بالمرض وتسبب تورم والتهاب الحلق. والأطفال يصابون بالأنيميا مما قد يؤدي للموت. و 60% من المصابين من الذكور. أعراض المرض. والماشية والأغنام المصابة بالمرض يقل وزنها وتعطي كميات قليلة من اللبن. اليرقان وهو الون الاصفر الذي يظهر في الاغشية المخاطية تورم اسفل الفكين مايسمي بالفك القنيني تساقط الصوف بسهولة التشخيص. ويمكن تشخيص المرض عن طريق تحليل براز المصابين به.وتسبب الفلاريا الحمي الراجعة وآلام في الصدر والبطن وتورم الكبد والتهاب الحلق وتورمه والأنيمياوقلة الوزن . وضيق التنفس والتغير في عادات التبرز والإسهال والغثيان والقيء وأحيانا الصفراء. وأحيانا يصاب البعض يالأرتيكاريا والعطس وظهور عقد تحت الجلد متورمة قد يصل قطرها 6 سنتيميتر نتيجة وصول اليرقات له. وقد تضل للرئة أو القلب أو المخ أو العين أو الأمعاء أو قناة المجاري البولية والجهاز التناسلي. وسبب العدوي شرب مياه أو تناول نباتات مائية ملوثة. أو تناول كبدة مصابة. الوقاية. وفي معظم الدول كبد المواشي المصاب بالطفيل يعدم لأنه غير صالح للاستهلاك الآدمي. جامعة أما الدولية البحرين هي مؤسسة تعليمية متخصصة في تقنية المعلومات، وهي جزء من نظام أما التعليمي العالمي الرائد في مجال تقنية المعلومات ويعتبر من أكبر المجتمعات في تقنية المعلومات والتواصل في قارة آسيا. افتتح فرع جامعة أما الدولية في البحرين في سبتمبر 2002 تخصصات الجامعة. توفر الجامعة 6 تخصصات رئيسية هي: 1)طب بشري (وقد تم التعاقد مع جامعة هارفرد و كامبردج البريطانية لتقديم برنامج طبي متكامل) 2)علوم الحاسوب 3)هندسة معلوماتية 4)هندسة ميكانيكا الالكترونيات 5)أعمال 6)دراسات دولية وفي الدراسات العليا توفر الجامعة: نظام الدراسة. يتم الدراسة في الجامعة على 3 سنوات كل سنة تتكون من 3 فصول، طول الفصل 14 أسبوع (3.5 شهر) وتكون الأجازة بين فصل وفصل أسبوعين وهناك إجازة الصيف في نهاية السنة وطولها 6 أسابيع، (14+2+14+2+14+6=52 أسبوع). يتم الدراسة في فصول دراسية عدد الطلاب فيها 15 طالب تقريباً. يتم تسجيل 15 ساعة عادة في كل فصل (المادة عادة 3 ساعات أي تقريباً 5 مواد في الفصل). مرافق الجامعة. تم افتتاح الحرم الجامعي الجديد بسلماباد. مزود بأحدث المرافق. بكلفة تقدر المليونين دينار، وذلك بتاريخ 22 أبريل 2008. مؤسسة موزيلا هي منظمة غير ربحية وجدت لدعم وتوجيه مشروع موزيلا المفتوح المصدر، تأسست في يوليو 2003، تضع المنظمة السياسات التي تتحكم بالتنمية، تقود البنية الرئيسية وتسيطر على علامات موزيلا التجارية، وحقوق التأليف، والنشر، كما تمتلك شركة تابعة خاضعة لسياسة الضرائب: شركة موزيلا، والتي توظف عددا من مطورين موزيلا ونسق الإصدارات المختلفة لمتصفح الويب موزيلا فيرفكس وعميل البريد الإلكتروني موزيلا ثندربرد. الشركة التابعة مملوكة 100% من الشركة المؤسسة الأم، وبالتالي تتبع نفس المتابع غير الربحية، أسست مؤسسة موزيلا من طرف منظمة موزيلا التابعة لنتسكيب، ويتم تمويلها بشكل كبير، وحصري من شركة جوجل، وتتمركز المنظمة حاليا في مدينة سيليكون فالي بمونتاين فيو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية. تصف مؤسسة موزيلا نفسها بكونها منظمة غير ربحية تعزز الانفتاح، الابتكار، والمشاركة في شبكة الإنترنت. منظمة موزيلا موجهة ببيان موزيلا، الذي يسرد 10 مبادئ تأمن موزيلا بأنهم «حاسمة لتستمر الإنترنت بإفادة المصالح العامة وكذالك الجوانب التجارية من الحيات». سليم الثالث بن مصطفى الثالث أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغل. (1175 هـ / 1761م - 1222 هـ / 1808م) هو أحد خلفاء الدولة العثمانية. تولى السلطة بعد وفاة عمه عبد الحميد الأول سنة 1203 هـ وكانت المعارك الحربية مستمرة، فأعطى وقته وجهده للقتال، وكان من أصحاب الهمة العالية والمصلحين في عصره. بداية عهده. حينما ضعفت الجيوش العثمانية، واتحدت الجيوش الروسية والنمساوية تمكنت روسيا من الاستيلاء على الأفلاق والبغدان وبساربيا، واستطاعت النمسا احتلال بلاد الصرب وعاصمتها بلغراد. ونتيجة لعدم استمرار التحالف النمساوي الروسي، تنازلت النمسا عن الصرب للدولة العثمانية سنة 1205 هـ لتتفرغ للثورة الفرنسية التي أخذت تشعل أوروبا شيئا فشيئا لا سيما مع بروز نجم نابليون بونابرت وهزيمته للجيوش الإيطالية والنمساوية مرة تلو الأخرى. أما روسيا فقد استمرت روسيا في حربها، واستولت على بعض المدن وارتكبت جرائم كثيرة. تدخلت إنجلترا وهولندا وبروسيا للصلح بين الطرفين خوفا على مصالحها فكانت معاهدة ياسي عام 1314هـ، وأخذت روسيا بموجبها بلاد القرم نهائيًا مع إقليمي بيسارابيا وأوزي. كانت البلاد بحاجة لإصلاحات في كافة المجالات لا سيما الحربية حيث أن ضعف سلطات إسطنبول سبب استئثار بعض الولاة بولاياتهم وامتناعهم عن دفع الأموال المتفق عليها للخزينة السلطانية. الإصلاحات الداخلية. وبعد هدوء القتال على الجبهات انصرف الخليفة للإصلاحات الداخلية فبدأ بتعيين أحد الشبان المدعو كوشك حسين باشا قبودانا عاما، وقد كان ملما ودارسا لأحوال أوروبا، فبذل جهده بإخلاص لتنقية الطريق التجارية البحرية من القراصنة، وأصلح الثغور وأنشأ القلاع عليها، وبنى عدة مراكب حربية على أحدث الأنماط الفرنسية والإنجليزية، وجلب العديد من المهندسين السويديين والفرنسيين المهرة لصب معظم قوالب المدفعية في طوبخانات الدولة، كما قام الخليفة بإنشاء سفارات دائمة لدى دول أوروبا الكبرى، واستغل انشغال الأوروبيين بمحاربة حكومة الثورة الفرنسية لتحديث دولته وجيشه، فاستقدم العديد من الخبراء والضباط الفرنسيين لتدريب وتحسين العساكر العثمانية، وكان هذه التحديثات تلقى ردود فعل سلبية جدا من الانكشارية. عمل كوشك حسين باشا على إصلاح مدارس البحرية والمدفعية (الطوبجبة)، وجهز مكتبة لمدرسة المدفعية وضع فيها أحدث ما سطر عن فن الحرب والرياضيات، كما كان يترجم كتب المهندس العسكري الفرنسي الشهير فوبان عن فنون التحصين. عمل سليم الثالث على وضع خطة جادة لتوسيع رقعة التعليم في الدولة، فافتتح العديد من المدارس والمعاهد. وكان رجلا يعفو عند مقدرته فأكثر العفو على من كان يثور على بابه العالي، كما كان يكره الظلم حتى وإن كان على غير المسلمين، ويحارب أهله. الحملة الفرنسية على مصر. في سنة 1799م 1213هـ دخلت فرنسا مصر بجيشها الذي يقوده نابليون بونابرت بدون إعلان الحرب على الدولة العثمانية، وكان قوام الجيش الفرنسي 36000 عسكري من العساكر التي تمرست في المعارك المختلفة بعد خبراتها في الحملة الفرنسية في إيطاليا، بالإضافة إلى 122 عالما في مختلف المجالات لدراسة الأرض المصرية، وكان الهدف الرئيسي من هذه الحملة السيطرة على طريق التجارة الإنجليزي الذي كان يستغل الأراض المصرية لإرسال البضائع الإنجليزية والمؤن والمواد الخام من وإلى الهند. حاول نابليون أن يخدع الشعب المصري فأعلن بأنه صديق للخليفة العثماني وأنه جاء لطرد المماليك الذين عاثوا في الأرض الخراب، ولم يلبث المماليك أن خسروا أمام بونابرت في معركة الأهرام، ولم يقووا على الوقوف أمام المدفعية الفرنسية الحديثة. هاجم الأدميرال نلسون الإنجليزي الأسطول الفرنسي وأغرقه في معركة أبي قير، مما قطع طرق الإمداد على الحملة الفرنسية، كما أن انتشار الطاعون وقدوم فصل الشتاء أجبر نابليون على العدول عن توغله والتوقف على أسوار عكا والعودة إلى مصر. تعاونت الدولة العثمانية مع إنجلترا وروسيا لإخراج فرنسا من مصر، وأرسل العثمانيون وحلفاؤهم عدة حملات حتى تمكنوا من إجبار الفرنسيين على الجلاء التام. راسل نابليون دار الخلافة عبر السفير العثماني في فرنسا لإعادة المودة بين البلدين كما كانت قبيل الحرب فوافق السلطان سليم لما كان يرى في ذلك ضمانا لعدم بقاء الإنجليز في مصر، ولقوة فرنسا العسكرية آنذاك، واستمرت الدولة العثمانيين باستقدام الضباط الفرنسيين لتحديث جيشها، أما الفرنسيين فقد تحصلوا على تجديد امتيازاتهم التجارية بعد أن كانت قد ألغيت خلال الاحتلال الفرنسي لمصر، كما سمح الباب العالي للسفن الفرنسية بمشاركة السفن الروسية الإبحار في البحر الأسود. النظام العسكري الجديد. شرع كوشك حسين باشا في تنظيم الجند المشاة على النسق الأوروبي للتخلص من الانكشارية الذين غدوا سبب كل فتنة بالإضافة إلى أنهم أصبحوا عالة على الدولة، وسميت فرق المشاة الجديدة بـالنظام الجديد. تحصل الانكشارية مع مجموعة للعلماء المتشددين والمعادين للتغيير على فتوى بإبطال النظام الجديد لكونه مستوردا من الغرب، مما أرغم سليم الثالث على الانصياع لهم، فقام كوشك حسين باشا باصطفاء نحو 600 من النظام الجديد الملغي وشكلهم مع مجموعة من الشبان المتطوعة في فوج واحد، وقام بالإنفاق عليهم من جيبه الخاص دون ن يعبأ بالانكشارية الذين راحوا يقفون أمام سراياه مهددين تارة ومستهزئين تارة أخرى. أبلى فوج القبودان حسين باشا بلاء منقطع النظير عن أقرانه في أثناء حصار عكا من قبل جيوش نابليون مما دفع السلطان سليم إلى إعادة النظام الجديد مرة أخرى، وأمر بتدريب المزيد منهم مستغلا انشغال الانكشارية في محاربة الفرنسيين في مصر، كما أمر بفصل المدفعية عن الانكشارية وتنظيمها على النسق الأوروبي أيضا. حصلت فيما بعد مناوشات عديدة في الرومللي بين الانكشارية وعصابات بلقانية تابعة سريا لروسيا، ولم يتمكن الانكشارية من السيطرة على الوضع، وانفلت زمام الأمر، فأرسل الخليفة بعساكره الجدد لصد هذا البلاء عن العباد، فحظوا بالظفر على العصاة، وعاد الاستقرار للأهالي في البلاد، ففرح السلطان سليم ولم يكتف بإغداق الهبات والأعطيات على جنده بل إنه سطر فرمانا (قرارا) يسري على الولايات التركية والأوروبية، ويقضي بتجنيد جميع الشبان ذوي الـ25 عاما من الانكشارية والمدنية لضمهم للنظام الجديد فلم يقبل الانكشارية هذا الأمر، فأمر السلطان والي القرمان عبد الرحمن باشا الذي كان أحد أكير المؤيدين للإصلاح أن يأتي بكل قواته إلى الأستانة ومن ثم يتوجه لقمع كل انكشاري معارض، فحدثت صدامات عديدة في البلقان بين الطرفين لكنها لم تحسم الأمر، واضطرت العساكر النظامية الجديدة للعودة إلى الأستانة عندما أحس الخليفة باستفحال الثورة، وانضمام مجموعة من العلماء وعدد من الطلبة إليها، فعزل بعض الوزراء وعين آغا الانكشارية صدرا أعظما لتخفيف حدة الثورة في البلاد. العلاقة مع الدولة السعودية الأولى. بعث الأمير سعود الكبير بن عبد العزيز برسالة سنة 1218 هـ إلى السلطان سليم الثالث بعد أن فتح مكة يطلب فيها منع الطبول والمحمل والزمور إلى البلد المقدس من والي دمشق ووالي القاهرة قلاقل البلقان. حدثت فتنة في كبيرة في بلاد الصرب (صربيا) سببها وقوع ظلم الانكشارية على أهلها، فعهد السلطان سليم لوالي بلغراد بمحاربة الانكشارية ومجازاة الظالمين، فاستعان الوالي بالسباهي وطرد الانكشارية من بلاد الصرب ورفع ظلمهم، فطلبت العساكر الانكشارية العفو فعفا السلطان عنهم وسمح لهم بالعودة إلى صربيا مجددا. ما إن عاد الانكشارية إلى بلاد الصرب حتى عادوا للظلم والإفساد، وزاد بهم الأمر حتى قتلوا والي بلغراد نفسه، فأمر الخليفة والي البوسنة بمساعدة الشعب الصربي للقضاء على هذه الفئة الباغية، فتحالف مع من ثار من الصرب حتى تمكن من إقصاء الانكشارية نهائيا عن صربيا. الحلف الإنكليزي الروسي. نشأ هذا الحلف في سبيل إضعاف الإمبراطور الفرنسي نابليون الذي كانت جيوشه تهيمن على معظم أوروبا، وتلحق الهزائم المتتالية بممالكها الكبرى، فشنت روسيا حربا برية على الدولة العثمانية لاحتلال ولايتي الأفلاق والبغدان (رومانيا حاليا)، كما عسكرت السفن الإنكليزية أمام الدرنديل. أما الإنكليز فقد أرسلوا لائحة يطلبون فيها فك الحلف مع فرنسا، وإجلاء الضباط الفرنسيين، والاتحاد مع إنكلترا، ومنح الولايتين الرومانية لروسيا، وتسليم السفن العثمانية، بالإضافة إلى إعلان الحرب على فرنسا، وإلا فإن الأستانة ستتلقى نيران البحرية الإنكليزية. قرن قائد الأسطول الإنجليزي القول بالفعل فاجتاز الدرنديل ودمر كل السفن العثمانية الراسية هناك، ولم يتمكن العثمانيون من إنهاء تحصيناتهم في الوقت المناسب، وعادت البحرية الإنكليزية للانتظار مجددا ليتم تنفيذ طلباتها. تشاور رجال الدولة العثمانية، ورأوا الإذعان لطلبات الإنكليز فأرسلوا مندوبا إلى الجنرال سبستياني الفرنسي يطلب منه مغادرة الربوع العثمانية مع من معه من الضباط الفرنسيين، لكن سبستياني أصر على مقابلة الخليفة بنفسه، فأخبر السلطان سليم أن نابليون سيرسل جيوشه المعسكرة على سواحل إيطاليا إلى الأستانة لدعم الموقف، وأن الإنكليز لو رأوا مقاومة من العثمانيين لخافوا على تجارتهم من البوار في الولايات العثمانية. جهز الملحق الفرنسي مخططا لتحصين الاستانة بالسرعة القصوى، وشكلوا فرقة من 200 عسكري فرنسي لمحاربة الإنكليز وقت الحاجة، ودأب الناس على العمل على التحصينات حتى أنهوها في بضعة أيام، وقد شارك الشيوخ والأطفال والنساء في هذا العمل الذي كان يصل الليل بالنهار، وعملت السفن المتبقية على سد مداخل البوسفور لتأخير الإنكليز، وكان السلطان سليم يشرف بنفسه على سير المشروع. عندما تحقق الأسطول الإنكليزي من ضعف موقفه وقرب نهاية الاستحكامات العثمانية، عاد يجر أذيال الخيبة. سار الصدر الأعظم مع عساكر النظام الجديد والانكشارية بالإضافة إلى والي البوسنة ومصطفى باشا البيرقدار حاكم مدينة روستجق (روسة حاليا) البلغارية لحرب روسيا، وامتدت هذه الحرب حتى عهد السلطان محمود الثاني. عزل الخليفة سليم الثالث. توفي مفتي الدولة العثمانية الذي كان –- من أشد المعضدين للإصلاح، فخلفه رجل كان على عكسه تماما فاتحد مع مجموعة من العلماء والجهال والمنتفعين من رجال الدولة لعزل السلطان، فراحوا يحرضون من انخرط من شبان الانكشارية في السلك العسكري الجديد متحججين أن الملابس النظامية الجديدة هي أزياء خاصة بالنصارى مخالفة للقرآن الكريم والسنة الشريفة، ولقت سمومهم رواجا عند الجهال والمنتفعين وحصلت فتن عديدة في كثير قلاع الدولة، لم يدر سليم الثالث عنها إلا متأخرا بسبب قيام القائم مقام بتعتيم الصورة عليه. ابتهل المتآمرون لنجاحهم الجزئي، وتشجعوا على المضي قدما في مخططهم مستغلين سفر الجيوش مع الصدر الأعظم وانشغالها بحرب روسيا، فاجتمعت الجنود الانكشارية مع إخوانهم غير المنتظمين بتدبير المفتي الجديد ومن عاضده من بعض الرجالات في الدولة في منطقة خارج الأستانة، حتى إذا استعدوا دخلوا الأستانة، وقتلوا كل الوزراء والأعيان المؤيدين للإصلاح العسكري والنظام الجديد. سارع السلطان بعزل وزرائه وتعيين من قد يحاذي رأي الثائرين لإسكاتهم، ولكنه لم يسلم من شرهم، حيث أنهم كانوا يخشون أن يعود لتنفيذ مشاريعه العسكرية الإصلاحية، فأفتى مفتي الدولة العثمانية الجديد بأن أي خليفة يدخل أنظمة الغرب وطرقهم في الدولة، ويجبر رعاياه على اتباعها غير صالح للولاية، فعزلوه وأسروه، وولي من بعد مصطفى الرابع. البيرقدار يتوجه إلى الأستانة لمعاقبة الثائرين. حدث في عهد مصطفى الرابع هدنة مؤقتة مع روسيا فسار مصطفى باشا البيرقدار على رأس 16 ألف عسكري إلى الأستانة لإعادة السلطان سليم لحكم البلاد، ولكن رجال مصطفى الرابع قتلوا السلطان سليم الثالث ظنا منهم أن ذلك قد يخمد الثورة، إلا أن الثائرين اشتعلوا غضبا، وانتهى الأمر بعزل وقتل مصطفى الرابع، وتولية محمود الثاني. خيرُ المُلُوك السُلطان الغازي أبي الخيرات مُعز الدين وسياج المُسلمين مُراد خان الثاني بن مُحمَّد بن بايزيد العُثماني (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: خيرُ المُلُوك غازى سُلطان مُراد خان ثانى بن مُحمَّد بن بايزيد عُثمانى؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: Sultan II. Murad Han ben Gazi Sultan I. Mehmed Han)، ويُعرف اختصارًا باسم مُراد الثاني أو خُوجة مُراد (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: خوجۀ مُراد؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: Koca Murad)؛ هو سادس سلاطين آل عُثمان ورابع من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم بعد والده مُحمَّد وجدُّه بايزيد وجد والده مُراد، وأوَّل من لُقِّب بِالـ«ثاني» من سلاطين آل عُثمان، وأوَّل من قُلِّد سيف عُثمان الغازي عند البيعة. تولَّى مُراد الثاني عرش الدولة العُثمانيَّة بعد وفاة والده مُحمَّد، واشتهر بين مُعاصريه بِلُجوئه إلى مُسايسة أعدائه كُلَّما كان بِوسعه ذلك، وكان - على الرُغم من ذلك - مُغرماً بِالفُتُوحات، على أنَّهُ لم يشن حربًا إلَّا وهو واثق من النصر، وكان ذا حزمٍ وعزمٍ، وهو وإن لم يُضارع أسلافه في الفُتُوح إلَّا أنَّهُ كان جديرًا بِأن يشترك مع والده بِحمل لقب الباني الثاني لِلدولة العُثمانيَّة، وذلك لِأنَّ السُلطانين توصَّلا بِجُهُودهما الكبيرة إلى إعادة الشأن لِلدولة العُثمانيَّة كما كان لها قبل نكسة أنقرة على يد المغول بِقيادة تيمورلنك. حاصر مُراد الثاني القُسطنطينيَّة بِجيشٍ عظيم لكنَّهُ لم يُوفَّق إلى فتحها، وكان حصارها عقابًا لِلرُّوم على إطلاقهم سراح الشاهزاده مُصطفى بن بايزيد، عم السُلطان مُراد المُدِّعي بِالحق في عرش آل عُثمان، وإثارة الأخير بلبلة في وجه ابن أخيه. وتمكَّن السُلطان مُراد من إخضاع جميع الإمارات التُركمانيَّة في الأناضول التي كان جدُّه بايزيد قد ضمَّها إلى الدولة العُثمانيَّة ثُمَّ أقامها تيمورلنك مُجددًا لمَّا تغلَّب على العُثمانيين في معركة أنقرة، كما أجبر الإمبراطور البيزنطي على الخُضُوع لِلدولة العُثمانيَّة ودفع جزية معلومة، واستطاع الاستيلاء على كُل الحُصُون والقلاع التي كانت لم تزل تحت تصرُّف الرُّوم في سواحل الروملِّي وبلاد مقدونيا وتساليا. واستخلص كُل المُدن الواقعة وراء برزخ كورنثة حتَّى باطن المورة. بعد ذلك حاول مُراد الثاني أن يُخضع البلقان لِسيطرته ويضمُّه إلى ديار الإسلام، لكنَّ البابا إيجين الرابع تخوَّف من التمدُّد الإسلامي في قلب أوروپَّا لا سيَّما بعدما استنجد به الإمبراطور البيزنطي يُوحنَّا الثامن پاليولوگ، فعقدت البابويَّة مُحالفة بين عدَّة مُلُوك غربيين كي يُساعدوا الرَّوم على مُحاربة المُسلمين وتخليص البلقان منهم، ووعد الإمبراطور البيزنطي مُقابل ذلك أن يسعى لِإقناع بطريركيَّة القُسطنطينيَّة المسكونيَّة وجميع بطاركة الشرق بِالخُضُوع لِلبابا. بناءً على هذا، قامت حملة صليبيَّة كبيرة سنة 846هـ المُوافقة لِسنة 1442م، تألَّفت من قُوَّاتٍ مجريَّةٍ بِالمقام الأوَّل، وعلى رأسها يُوحنَّا هونياد، والتقت بِالعُثمانيين عند مدينة نيش، فهزمتها هزيمة قاسية كان من نتائجها بعثُ الروح الصليبيَّة في أوروپَّا، وإعلان النضال الديني ضدَّ العُثمانيين. بعد هزيمته النكراء ووفاة ابنه علاء الدين، شعر السُلطان مُراد بِتعبٍ من أعباء السلطنة وهُمُوم الدُنيا، فتنازل عن المُلك لِولده مُحمَّد، وانقطع لِلعبادة في تكيَّة مغنيسية وانتظم في سلك الدراويش. ولمَّا سمعت الدوائر الحاكمة في أوروپَّا بِذلك فسخت الهدنة وجهَّزوا جُيُوشًا لِمُحاربة الدولة العُثمانيَّة، فأُجبر السُلطان مُراد على الخُرُوج من عُزلته والعودة إلى السلطنة لِإنقاذها من الأخطار المُحدقة بها، فقاد جيشًا جرَّارًا والتقى بِالعساكر الصليبيَّة عند مدينة وارنة (ڤارنا) البُلغاريَّة وانتصر عليها انتصارًا كبيرًا، ثُمَّ عاد إلى عُزلته لكنَّهُ لم يلبث بها طويلًا هذه المرَّة أيضًا، لأنَّ عساكر الإنكشاريَّة ازدروا بِالسُلطان مُحمَّد الفتى، وعاثوا فسادًا في العاصمة أدرنة، فعاد السُلطان مُراد إلى الحُكم لِلمرَّة الأُخرى، وأشغل جُنُوده بِالحرب في أوروپَّا، وبِالأخص في الأرناؤوط، لِإخماد فتنة إسكندر بك الذي شقَّ عصا الطاعة وثار على الدولة العُثمانيَّة، لكنَّ المنيَّة وافت السُلطان قبل أن يُتم مشروعه بِالقضاء على الثائر المذكور، وذلك في 11 مُحرَّم 855هـ المُوافق فيه 13 شُباط (فبراير) 1451م. كان مُراد الثاني شاعرًا ينظم القصائد بِالفارسيَّة والعربيَّة والتُركيَّة، وشهد عهده أهم الخُطُوات على صعيد الحياة الثقافيَّة العُثمانيَّة؛ وخاصَّةً على صعيد الفلسفة السياسيَّة، ويُسجِّل عهده نهاية الثقافة العُثمانيَّة المُتأثرة بِالثقافتين العربيَّة والفارسيَّة، من واقع ظُهُور أولى المُؤلَّفات المُسهبة بِاللُغة التُركيَّة التي أخذت تحل محل لُغتيّ الأدب العربيَّة والفارسيَّة. وكان هذا السُلطان جليلًا صالحًا، اهتمَّ بِالعلم واعتنى بِالعُلماء، كما كان واسع العطاء بحيث خصَّص الحرمين الشريفين بِمبلغ ثلاثة آلاف وخمسُمائة دينار سنويًّا. وقد وصفه المُؤرِّخ ابن تغري بردي بِقوله: . حياته قبل السلطنة. ولادته ونشأته. وُلد مُراد الثاني في مدينة أماسية بِالأناضول سنة 806هـ المُوافقة لِسنة 1403م، وفقًا لِبعض المُؤرِّخين مثل أحمد مُنجِّم باشي ومُحمَّد فريد بك المُحامي، بينما يقول يلماز أوزتونا وأحمد آق كوندز وسعيد أوزتورك وغيرهم، إنَّ ولادة مُراد الثاني كانت سنة 807هـ المُوافقة لِسنة 1404م، ولا يُخالفون القول بِولادته في المدينة سالِفة الذِكر. والده هو السُلطان مُحمَّد الأوَّل، أمَّا والدته فتختلف المصادر في تحديدها، ويغلب الظن أنها أمينة خاتون ابنة الأمير شعبان صولي بن قراقة، خامس أُمراء ذي القدر؛ وقيل أيضًا أنها شاهزاده خاتون، ابنة الأمير أحمد باشا الدوادار الجانقي، ثالث الحُكَّام القُطلُوشاهيين لِإمارة جانق، بينما يقول كُلٌ من المُؤرِّخ العُثماني شُكر الله بن أحمد بن زين الدين زكي، صاحب كتاب «بهجة التواريخ»، والمُؤرِّخ التُركي خليل إينالجك، أنَّ والدة مُراد الثاني كانت إحدى مُحظيات والده مُحمَّد. أمضى مُراد الثاني سنوات طُفُولته في أماسية، وفي سنة 1410م انتقل مع أبيه إلى بورصة حيثُ تلقَّى تعليمه على يد نُخبة من المُدرِّسين والعُلماء والعسكريين الذين عيَّنهم والده لِتأديبه وتربيته، واشتهر خِلال هذه الفترة بِميله إلى التقوى والعُزلة، بِالإضافة لِلشفقة والعدل. ولايته لِلعهد. عيَّن السُلطان مُحمَّد ابنه مُراد واليًا على إيالة الرُّوم سنة 1415م، في سبيل تدريبه على شُؤون الحُكم وتلقينه الأُصُول الإداريَّة الضروريَّة لِإدارة دفَّة الحُكم في الدولة العُثمانيَّة، لا سيَّما وأنَّ الإيالة المذكورة كان لها أهميَّة استراتيجيَّة كبيرة بِسبب وُقُوعها على الحُدُود الشرقيَّة لِلدولة، فانتقل إلى قصبتها أماسية مع مُربيه «لاله يوركج باشا الرومي». استمرَّ مُراد الثاني يتولَّى الإيالة المذكورة طيلة 6 سنوات حتَّى تربَّع على تخت المُلك، وخلال هذا الوقت أصبحت أماسية مركزًا ثقافيًّا مُهمًا في الأناضول، واستحال قصر وليّ العهد العتيد قِبلة العُلماء والشُعراء والمُتصوفيين. ويبدو أنَّ مُراد الثاني صادق - خِلال هذه الفترة - جرجس بن يُوحنَّا كستريو (إسكندر بك لاحقًا)، بعدما أصبح من خاصَّة غلمانه، إذ كان والده يُوحنَّا أمير إحدى النواحي في الأرناؤوط، قد هُزم هزيمةً ساحقة على يد السُلطان مُحمَّد، فطلب الأمير المذكور الأمان، وأعلن طاعتهُ لِلسُلطان ودُخوله في تبعيَّته، فكافأه الأخير بأن سمح لهُ بِحُكم بلاد آبائه باسم السلطنة العُثمانيَّة، واصطحب معهُ ابنه الأصغر جرجس، البالغ من العُمر 18 سنة، لِيُقيم في البلاط العُثماني لِضمان التزام والده بِبُنود الاتفاق مع العُثمانيين، وأُرسل فيما بعد، مع سائر الغلمان البلقانيين المسيحيين المُقيمين بين ظاهريّ العُثمانيين، إلى مكتب الأندرون، وهو المدرسة العسكريَّة المُخصصة لِتدريب وتخريج الإنكشاريين، ولِتلقين الفتيان المسيحيين أُصُول ومبادئ الإسلام بِالإضافة إلى اللُغتين التُركيَّة والعربيَّة وبعض العُلُوم الضروريَّة. شارك الشاهزاده مُراد بِقيادة الجيش الذي أرسله السُلطان مُحمَّد سنة 1413م لِمُحاربة الثائرين من أتباع پيرقليجه مُصطفى، وهو أحد مُريدي الشيخ بدر الدين محمود بن إسرائيل السماوني، الذي كان يدعو في مناطق إزمير وفي قره‌بورون بِدعوة شيخه المُتضمِّنة مواضيع تُخالف عدَّة أُسس وثوابت إسلاميَّة، أبرزها القول بِوحدة الوُجُود، وإنكار الجنَّة وجهنَّم ويوم القيامة والملائكة والشياطين، وقصر الشهادة على نصفها الأوَّل أي «لا إله إلَّا الله» وحذف نصفها الثاني أي «مُحمَّد رسول الله»، وغير ذلك. وكان پيرقليجه مُصطفى نفسه على علاقةٍ وطيدةٍ مع رُهبان جزيرة ساقز، ويُنادي بِالمزج بين المسيحيَّة والإسلام، فسار إليه الشاهزاده مُراد مع الصدر الأعظم بايزيد باشا الأماسيلِّي، والتقى بِجيش الثائرين في ضواحي إزمير وتغلَّب عليه، ووقع پيرقليجه مُصطفى وكثيرًا من أتباعه في الأسر، فأقام عليهم الصدر الأعظم حد الحرابة وقتلهم جميعًا. كذلك، ساهم مُراد الثاني خِلال ولايته، بالاشتراك مع القائد حمزة بكر أوغلي، في السيطرة على القسم المسيحي من مدينة صامصون، وهو القسم الذي كان يُسيطر عليه الجنويين. سلطنته الأولى. جُلُوس مُراد الثاني على العرش. تُوفي السُلطان مُحمَّد الأوَّل في أدرنة يوم الأحد 1 جُمادى الأولى 824هـ المُوافق فيه 4 أيَّار (مايو) 1421م، عن عُمرٍ ناهز 43 سنة. وتُشير رواية أُخرى أنَّهُ مات في يوم الإثنين 23 جُمادى الأولى المُوافق فيه 26 أيَّار (مايو) من السنتين سالِفتا الذِكر، وهُناك روايات تُشيرُ فقط إلى وفاته في شهر جُمادى الأولى المُوافق لِشهر أيَّار (مايو)، من دون ذكر اليوم، وهذا ما يظهر من النقش الموجود على قبره في بورصة. ووفق المصادر القائلة بِقُعُود مُحمَّد الأوَّل فترةً من الزمن قبل أن يُسلم الروح، فإنَّهُ لمَّا شعر بِدُنُوِّ أجله دعا الصدر الأعظم بايزيد باشا الأماسيلِّي وقال له: . وكان قصد السُلطان تُدارُك وُقُوع الفوضى في الدولة فيما لو أُعلنت وفاته قبل مجيء الشاهزاده مُراد من أماسية، خاصَّةً أنَّ مُصطفى چلبي، شقيق السُلطان مُحمَّد والمُدَّعي بِالحق في عرش آل عُثمان، كان سيتحرَّك مُباشرةً لِلمُطالبة بِالعرش، مما سيُدخله في نزاعٍ مع مُراد، فيسفك العُثمانيين دماء بعضهم البعض مُجددًا، كما حصل بعد هزيمة أنقرة وفترة التنازع على العرش. امتثل الصدر الأعظم لِرغبة السُلطان، فتعاون مع الوزير إبراهيم باشا الجندرلي على إخفاء موت مُحمَّد الأوَّل عن الجُند حتَّى يحضر ابنه، فأشاعا أنَّ السُلطان مريض، وأمرا بِإغلاق كُل الحُدُود خوفًا من قُدُوم مُصطفى چلبي من جزيرة لمنى (لمنوس) التي هي أقرب إلى أدرنة وجُلُوسه على العرش، فلم يُذع خبر وفاة السُلطان طيلة 41 يومًا؛ بل إنَّهُ بِموجب إحدى الروايات، لم يعرف أحدٌ من الناس في أدرنة بِذلك، بل إنَّ الخبر أُخفي حتَّى عن أركان القصر، فكان هذا السُلطان أوَّل سُلطانٍ عُثمانيٍّ يُخفى خبر موته. وكان الوُزراء قد أرسلوا عند اشتداد مرض السُلطان رئيس الإنكشاريَّة علوان بك إلى الشاهزاده مُراد لِيأتي به، فوصل بورصة بعد أربعين يومًا، وكان السُلطان حينها قد أسلم الروح، فنُقل نعشه إلى بورصة حيثُ استقبلهُ ابنه مُراد، ودفنه بِالتعظيم والتكريم في قبَّةٍ مُقابل الجامع الأخضر الذي شرع بِبنائه خِلال حياته ليكون مسجدًا وقصرًا حكوميًّا، فقام ابنه مُراد الثاني بإكمال بناء الجامع الأخضر في كانون الأوَّل (ديسمبر) 1419م، وأنهى العمل في زخارف الجامع عام 1424م. فتنة الشاهزاده مُصطفى بن بايزيد والتنازُع الأُسري العُثماني. بايع القادة والوُزراء والأُمراء والساسة مُراد الثاني بِالسلطنة في مدينة بورصة، فجلس على تخت المُلك يوم 23 جُمادى الآخرة 824هـ المُوافق فيه 25 حُزيران (يونيو) 1421م، وهو في الثامنة عشرة من عُمره. وعند البيعة، قلَّد العالم شمس الدين مُحمَّد البُخاري السُلطان مُراد سيف عُثمان الغازي، فكان أوَّل سُلطانٍ عُثمانيٍّ يُقلَّدُ هذا السيف، واستمرَّت هذه المراسم مئات السنين من بعده. وبِمُوجب الرواية التقليديَّة، التي لا تُعد سُليمان چلبي ومُوسى چلبي من جُملة السلاطين العُثمانيين، فإنَّ مُرادًا الثاني يُصبح السُلطان السادس في سلسلة سلاطين الدولة العُثمانيَّة. فإذا عُدَّ سُليمان ومُوسى چلبي في تلك السلسلة، يكون مُراد الثاني هو الثامن في تلك السلسلة. إلَّا أنَّهُ بِالنظر إلى عدم تمكُّن سُليمان ومُوسى چلبي من السيطرة على أراضي الدولة العُثمانيَّة في الروملِّي والأناضول في وقتٍ واحدٍ، فلا يصح عدُّهما من السلاطين العُثمانيين. كان مُراد الثاني معني بِإعداد الدولة لِلمهام الكُبرى التي كانت مسؤولة عنها قبل نكسة أنقرة، لِذلك كان عليه إعادة ما تبقَّى من الأملاك التي خسرتها الدولة في الأناضول بعد النكسة، وتوحيد الأراضي العُثمانيَّة والمُحافظة عليها، وحل المُشكلات العالقة مُنذُ أيَّام مُحمَّد الأوَّل، وإنشاء جيش قوي واقتصاد متين، وحُدُود واضحة لِدولته في وجه أوروپَّا المُتوثِّبة. وحتَّى يتفرَّغ لِهذه المهام هادن الدُول الأوروپيَّة، فعقد مُعاهدةً مع مملكة المجر مُدَّتُها خمسة أعوام، وتفاهم مع الجنويين الذين وعدوه بِإمداده بِالسُفُن والجُنُود، واقترح على الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني تجديد المُعاهدة التي وقَّعها والده من قبل، ومفادها أن يتعهَّد السُلطان العُثماني بِعدم مُحاربة الروم مُطلقًا، لقاء أن يبقى الشاهزاده مُصطفى چلبي بن بايزيد مُحتجزًا في ديارهم. فأرسل الإمبراطور البيزنطي وفدًا إلى مُراد الثاني لِتهنئته بِتولِّيه العرش، وأعلن استعداده تجديد المُعاهدة سالِفة الذِكر بِشرط تسليمه الأميران الصغيران محمود ويُوسُف، شقيقا السُلطان مُراد، لِضمان حُسن تنفيذ المُعاهدة من جهة، وتنفيذ وصيَّة السُلطان مُحمَّد القاضية بأن يرعى الإمبراطور البيزنطي الأميران المذكوران، وهدَّد بِإطلاق سراح مُصطفى بن بايزيد فيما لو لم يُنفَّذ هذا الشرط. ومن المعروف أنَّ السُلطان مُحمَّد كان قد عهد بِالأميرين محمود ويُوسُف إلى الصدر الأعظم بايزيد باشا الأماسيلِّي، لكنَّهُ أوصى في أن يتولَّى الإمبراطور البيزنطي رعايتهما، ويبدو أنَّهُ خشي من نُشُوب صراعٍ على السُلطة قد يُشكِّل خطرًا عليهما، فأراد إبعادهما عن مسرح الأحداث. لكن الحقيقة أنَّ طلب الإمبراطور لِلأميرين الصغيرين كان بِهدف إبقائهما رهينتين بِيده وورقة سياسيَّة يستخدمها لِتحقيق المصالح البيزنطيَّة، أكثر من تنفيذ وصيَّة السُلطان مُحمَّد، ومن الواضح أنَّ السُلطان مُراد أدرك هذا، فرفض الطلب البيزنطي، كما يُروى أنَّ بايزيد باشا سالِف الذِكر ردَّ على طلب الروم بِأنَّ الإسلام لا يسمح بِإيداع أولاد المُسلمين لِتربيتهم عند النصارى، وكان هذا الرفض كافيًا لِتفجير الأعمال العسكريَّة. وتشكَّل في القُسطنطينيَّة، آنذاك، حزبٌ مُعارض لِسياسة التقارب مع العُثمانيين، بِزعامة وليّ العهد يُوحنَّا بن عمانوئيل، فضغط على والده الإمبراطور حتَّى يُعلن الحرب عليهم، فتذرَّع هذا بِرفض طلبه من جانب مُراد الثاني، وأطلق سراح الشاهزاده مُصطفى بن بايزيد، الذي كان يحتجزه في جزيرة لمنى (لمنوس) تحت حراسةٍ مُشددة، بعد أن كتب الأخير على نفسه أن يرُد إلى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة جميع ما كان لها من المُدن والأراضي التي فتحها العُثمانيُّون، وتقع على سواحل بحريّ مرمرة والبنطس (الأسود)، بِالإضافة إلى تساليا، إذا ما نجحت ثورته، وأعانه الإمبراطور بِأن قدَّم لهُ عشر سُفنٍ حربيَّةٍ بِقيادة دمتريوس لاسكاريس. وأخلى الإمبراطور سبيل الأمير جُنيد بك بن إبراهيم الآيديني، آخر أُمراء بنو آيدين، الذي عصى السُلطان مُحمَّد الأوَّل مرَّتان، كانت آخرها دعمه الشاهزاده مُصطفى بن بايزيد ووُقوفه في صفِّه لِلمُطالبة بِالعرش العُثماني، وقد عفا عنه السُلطان مُحمَّد في المرَّتين، وفي المرَّة الأخيرة سلَّمهُ إلى الإمبراطور البيزنطي الذي وضعه تحت المُراقبة في إحدى كنائس القُسطنطينيَّة. وبِتلك الصورة، استند مُصطفى چلبي إلى مُساعدة بيزنطة، وجمع أتباعه من حوله، ويُقال أنَّهُ استوزر جُنيد بك الذي ما فتئ يُعارض التوسُّع العُثماني في الأناضول، وسار يُريدُ أدرنة. التمَّ العديد من أُمراء الحُدُود في الروملِّي - الذين لا يرتاحون عادةً لِلسُلطة المركزيَّة - حول مُصطفى چلبي ودعموه في المُطالبة بِالعرش العُثماني، وفي مُقدِّمتهم أولاد «أفرنوس بك»، القائد المُخضرم الذي قاتل تحت راية السُلطانين بايزيد ومُراد الأوَّل، وأولاد طُرخان بك، وأولاد آمُلي بك، وانقادوا لهُ مع أتباعهم. وكان مُصطفى چلبي يُؤكِّد هويَّتهُ لِلأُمراء عبر إظهاره جُرحًا عميقًا على بطنه كان قد اندمل وبقي أثره، وقال إنَّهُ من آثار معركة أنقرة التي خاضها مع أبيه وإخوته ضدَّ المغول، فصدَّقهُ الأُمراء وعظُم جمعُه، فسار معهم واستولى أولًا على سيروز وگليپولي، ثُمَّ سار إلى أدرنة ودخلها وجلس على العرش يوم 1 رمضان 824هـ المُوافق فيه 30 آب (أغسطس) 1421م، وقد اعترف الجيش في الروملِّي بِسلطنة مُصطفى چلبي على أساس أنَّهُ ما دام العم موجودًا فلا مُبرِّر لِجُلُوس ابن الأخ على العرش، ولم يبقَ أمامهُ إلَّا السيطرة على الأناضول وتنحيه ابن أخيه لِيُصبح سُلطانًا بِالتمام والكمال. والواقع أنَّ اختيار توقيت إطلاق سراح الشاهزاده مُصطفى كان جيدًا، إذ كان السُلطان مُراد في غُضون ذلك الوقت مشغولٌ باستمالة أُمراء الأناضول لِإعادتهم إلى حظيرة الدولة العُثمانيَّة دون حربٍ أو قتال، ولمَّا وصلت الأخبار بما حصل في الروملِّي، انتفضت الإمارات الأناضوليَّة في مُحاولة السعي لِلاستفادة من التغيير السياسي في الدولة العُثمانيَّة، فاعترفت بِشرعيَّة مُصطفى، واستعاد أمير مُنتشا استقلاله، وضرب النُقُود باسمه كمُؤشِّر على ذلك، واستردَّ أمير قسطموني، عزُّ الدين إسفنديار بك الجندرلي، بعض الأراضي التي كان قد تنازل عنها لِلعُثمانيين، واستعاد أمير صاروخان جُزءًا من أراضيه، وكان شاهرُخ بن تيمورلنك حريصًا على المُحافظة على التوازن الذي فرضه والده في الأناضول. تُشيرُ إحدى الروايات أنَّ مُراد الثاني لمَّا عَلم بِحركة عمِّه ورأى اعتراف أُمراء الأناضول بِسُلطانه، احتار في أمره، فسار إلى السيِّد شمس الدين مُحمَّد بن علي البُخاري الشهير بِأمير سُلطان، وهو صهر السُلطان بايزيد وأحد أهم عُلماء عصره، فاستغاث به وبِدُعائه في هذا الأمر، فدعا لهُ وربط سيفهُ على وسطه بِيده، وقال لهُ أنَّهُ رأى حُلمًا انتقلت فيه الدولة العُثمانيَّة إلى مُصطفى چلبي، فالتمس من الرسول مُحمَّد ردَّها إلى السُلطان مُراد ثلاث مرَّات، فأُجيب إلى ذلك في المرَّة الثالثة. فتفائل السُلطان مُراد من هذا الحُلم وقال بيتًا من الشعر: ثُمَّ استشار السُلطان وُزراءه وأُمراءه في هذا الأمر، فأشاروا عليه بِإطلاق سراح بكلربك الروملِّي مُحمَّد بك ميخائيل أوغلي - الذي كان السُلطان مُحمَّد الأوَّل قد نفاه إلى توقاد وزجَّ به في السجن مُنذُ ثماني سنين، بعد أن والى مُوسى چلبي الذي نازع أخاه السُلطان على العرش واستمالته بِالوُعُود والإحسان؛ حتَّى يستميل هو أُمراء الروملِّي إلى جانبه، فإنَّهُ كان أقدمهم وأعظمهم، وكانوا يُحبُّونه ويُطيعونه، فأرسل السُلطان من يأتي بِمُحمَّد بك من توقاد. ثُمَّ أشار الوزيران إبراهيم باشا الجندرلي والحاج عوض باشا على السُلطان بِأن يُرسل الصدر الأعظم بايزيد باشا الأماسيلِّي في جمعٍ من العسكر إلى دفع مُصطفى چلبي قبل أن يعبر إلى الأناضول، لأنَّ أُمراء الروملِّي كانوا يُحبُّون بايزيد المذكور؛ فيميلون إليه، وحسَّنوا هذا الرأي عند السُلطان حسدًا على بايزيد باشا لِتقدُّمه عليهما بِالجلادة والرأي وإتمام المصالح، فقصدا هلاكه بِهذه الطريقة، فمال السُلطان إلى رأيهما المُموَّه. ولمَّا علم ذلك عرُّوج وأمور باشا ابنا البكلربك تيمورطاش باشا، لم يستصوبا هذا الرأي، وكذلك بايزيد باشا؛ على اعتبار أنَّ الجُنُود العُثمانيين غير ثابتين على طاعة السُلطان، وولائهم مُتأرجح بينه وبين مُصطفى چلبي، واحتمال وقوع انشقاق في الجيش واردٌ جدًا، فعرض بايزيد باشا ذلك إلى السُلطان، الذي ألحَّ عليه في العُبُور والمسير، فلم يجد بُدًا من الامتثال لِأمره، فسار ومعهُ أخوه حمزة بك في جمعٍ من العسكر، فعبر البحر من معبر قلعة أناضولي حصار، وقيل من معبر گليپولي نظرًا لِإغلاق الروم حُدودهم أمام العُثمانيين. وفي تلك الفترة، اتصل الإمبراطور البيزنطي، عمانوئيل الثاني، بِالشاهزاده مُصطفى چلبي، وطلب منهُ الإيفاء بِالمُعاهدة، التي بِموجبها تُعاد گليپولي وغيرها من المواقع إلى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. غير أنَّ مُصطفى چلبي وجُنيد بك رفضا ذلك الطلب رفضًا قاطعًا، قائلين أنَّ الإسلام لا يُجيز التنازل عن أراضي المُسلمين لِصالح النصارى؛ وإنَّهُما مُضطرَّان إلى القيام بِفتح البلاد المسيحيَّة الأُخرى أيضًا. أمام هذا الرَّد غير المُتوقَّع، حوَّل الإمبراطور البيزنطي أنظاره تجاه السُلطان مُراد مُجددًا، مُحاولًا استغلال تراجُع قُوَّته بِما يصب في مصلحة الروم، فعرض عليه أن يتنازل لِبيزنطة عن مدينة گليپولي ويُسلِّمه الأميران محمود ويُوسُف، مُقابل رفع الدعم عن مُصطفى، لكنَّ السُلطان رفض العرض، وهذا يعني أنَّ السُلطان مُراد الثاني أصبح مُواجهًا لِعمِّه مُصطفى من جهة، ولِبيزنطة من جهةٍ ثانية. ولمَّا عبر بايزيد باشا البحر إلى الروملِّي، خرج مُصطفى چلبي من أدرنة في جمعٍ عظيم، وانضمَّ إليه جُنيد بك الآيديني أيضًا مع عسكره، فلقيه في موضعٍ يُقال له «صازلي دره»، فتقدَّم مُصطفى وخطب في العساكر بِإطاعته لِأنَّهُ أحق بِالمُلك من ابن أخيه، فأطاعته الجُيُوش، وانحرف مُعظمهم إليه، ولم يبقَ مع بايزيد باشا سوى أخيه حمزة وأتباعهما، فاضطرُّوا إلى الاستسلام لِمُصطفى چلبي، الذي أعدم بايزيد باشا مُباشرةً وفق إحدى الروايات، وأبقى على حياة حمزة بك، وفي روايةٍ ثانية أنَّ بايزيد باشا لم يستسلم بل قاتل مُصطفى چلبي وقُتل في المعركة، بل إنَّهُ بِموجب روايةٍ ثالثة فإنَّ بايزيد باشا لم يُقتل في صازلي دره، وإنَّما قُتل في گليپولي أثناء دفاعه عنها. وبِجميع الأحوال فإنَّ بايزيد باشا هو أوَّل صدرٍ أعظمٍ عُثمانيٍّ يُقتل في الحرب. شكَّلت هذه المُحاولة العُثمانيَّة لاستئصال مُصطفى چلبي دعوةً لهُ لِيتوجَّه إلى الأناضول ويُسيطر على بورصة ويُزيح ابن أخيه عن العرش، فانتقل مع العديد من أُمراء الروملِّي عبر مضيق الدردنيل، وهبط البر قُرب بلدة «لپسكي» في 26 مُحرَّم 825هـ المُوافق فيه 20 كانون الثاني (يناير) 1422م. معركة أولوباط. جهَّز السُلطان مُراد جيشًا كبيرًا بلغ تعداده مائة وخمسة وعشرين ألف جُندي، منهم 120,000 من الخيَّالة و5,000 من المُشاة، وخرج على رأسه لِلتصدِّي لِعمِّه مُصطفى. التقى الجمعان في شطيّ نهر أولوباط: أحدهما في أحد جانبيه، والآخر في الآخر، وكان مع مُصطفى چلبي خمسون ألف فارس وعُشرون ألف راجلٍ عزبيّ، بِالإضافة لِطائفةٍ من عسكر الروملِّي. ولا يبدو أنَّ الطرفان كانت لديهما نيَّةٌ في القتال، فأخذ ينظرُ أحدهما إلى الآخر دون أن يُشهر أحدٌ منهما السلاح، وقرَّر السُلطان مُراد اتباع الأُسلوب السياسي لاستقطاب حُلفاء مُصطفى وإضعافه، وبِخاصَّةٍ جُنيد بك وأُمراء الحُدُود، وكلَّف مُحمَّد بك ميخائيل أوغلي - الذي كان وصل من توقاد - باستمالة هؤلاء إلى صفه، فكتب إليهم بذلك وشنَّع عليهم اتباع رجُلٍ يدَّعي أنَّهُ شقيق السُلطان مُحمَّد الأوَّل، فيما لا شيء يُثبت ذلك تمامًا، فهم يتَّبعون رجُلًا مجهول النسب. اعتقد أُمراء الحُدود بدايةً أنَّ هذه الرسالة قد تكون دسيسةً من وُزراء السُلطان ولم يُصدِّقوا أنَّ مُحمَّد بك المذكور على قيد الحياة، حتَّى سار إليهم ليلًا ووقف على شط النهر وجعل يُنادي الأُمراء بِأسمائهم، وأعلمهم بِنفسه وحياته، واستمالهم إلى السُلطان مُراد، وتعهَّد عفو الأخير عمَّا سلف منهم، فمالوا إليه. كذلك، أرسل الحاج عوض باشا خطابًا إلى مُصطفى چلبي تظاهر فيه بِأنَّهُ من أتباعه، وحدَّثهُ عن خيانة أُمراء الروملِّي واتفاقهم على الغدر به بعدما اتفقوا مع السُلطان على ذلك، وأنَّ التنفيذ سيكون في الليلة الفُلانيَّة بعد أن يمُدُّهم السُلطان بِعسكره، وعلى الرُغم من وُرُود رواية تُفيد بِمُخادعة جُنيد بك الآيديني أيضًا، فإنَّ هُناك اختلافات في تفصيلاتها، لكن الشائع أنَّ رسالةً أُخرى أُرسلت إلى جُنيد بك تُعلمهُ بِالمُخطط المزعوم وتستقطبه إلى جوار السُلطان مُراد، فوقعت تلك الرسالة في يد مُصطفى چلبي، الذي تزلزل لمَّا طابق مضمونها مع ما سبق وأُرسل إليه. ولمَّا أدرك الأخير حقيقة الخطر الداهم، اختار من عسكره خمسة آلاف مُقاتل من فارسٍ وراجلٍ، وأرسلهم ليلًا لِمُباغتة الجُنُود العُثمانيين، ولمَّا عبروا النهر على جسرٍ قائمٍ، فوجئوا بِخمسمائة إنكشاريّ يقفون لهم بِالمرصاد، فتقاتل الطرفان حتَّى هُزم العزبيُّون، وأُسرت منهم جماعة عظيمة بحيث كان كُل إنكشاريّ يُطلق سراح عزبيين مُقابل رأس غنمٍ واحد. أمام هذه الحركة، عبر عوض باشا النهر في جمعٍ من الجُنُود وهُم يصيحون ويُكبِّرون، مما أثار رُعب مُصطفى چلبي وجعله يعتقد بِمجيء الأُمراء لِقتله، فاضطرَّ إلى الهُرُوب، أولًا إلى إزمير، ثُمَّ منها إلى گليپولي. وبناءً على روايةٍ أُخرى، فإنَّ مُصطفى چلبي لم يذهب إلى إزمير، وإنَّما وصل إلى گليپولي بِشق الأنفس خلال ثلاثة أيَّام؛ بل تزيد الرواية أنَّ قاضي بلدة «بيغة» تعاون معه أثناء هُرُوبه، مما أفضى إلى إعدمه لاحقًا بِأمرٍ من السُلطان مُراد. وقيل أيضًا أنَّ انسحاب مُصطفى چلبي كان نتيجة إصابته بِمرض الرُعاف، الذي استمرَّ عليه ثلاثة أيَّام حتَّى ضعف جدًا، فتفرَّق عسكره وهرب هو إلى الروملِّي. أمَّا أُمراء الروملِّي، فقد استقبلوا السُلطان وسُيُوفهم مسلولة على رقابهم في إشارةٍ إلى خُضُوعهم التَّام له، فعفا عنهم وأقرَّهم على إيالاتهم وسناجقهم، ثُمَّ شرع في تعقُّب خُطُوات مُصطفى چلبي لِلقضاء عليه. القضاء على مُصطفى چلبي. تتبَّع السُلطان مُراد خُطوات عمِّه حتَّى بلدة لپسكي لِيكتشف أنَّهُ عبر إلى الروملِّي، ولم يجد في الساحل سفينة لِلعُبُور ورائه، فأرسل إلى عامل گليپولي - وهو أحد أتباع الوزير إبراهيم باشا الجندرلي - أن يُزوِّده بِالسُفن اللازمة، فاستأجر الأخير مجموعةٍ منها سرًا، من جنويي مُستعمرة «فوچة» لِقاء خمسة آلاف دينار، وأرسلها إلى السُلطان. وبهذه الكيفيَّة تمكَّن العُثمانيُّون من العُبُور إلى ساحل گليپولي، ونزلوا في ناحية «أجه أواسي». وعلى الرُغم من قيام مُصطفى چلبي بِضرب سُفن ابن أخيه من وراء الأسوار، فإنَّهُ لم يتمكَّن من منع قُوَّاته من النُزُول في تلك المنطقة. وبناءً على ذلك، بدأ مُراد الثاني بِوضع الحصار على گليپولي، ويُروى أنَّ مُصطفى چلبي، الذي تيقَّن بِعدم إمكانيَّة مُقاومة ابن أخيه، فرَّ من گليپولي، مُتجهًا إلى أدرنة حيثُ أخذ خزينته وذهب باتجاه الأفلاق. تتبَّع السُلطان مُراد عمَّه إلى أدرنة ودخلها ثُمَّ أرسل الطلب في عقب الهارب، فلُوحق حتَّى أُدرك في ناحية «ينيجة قُزل آغاج»، ووفق إحدى الروايات فإنَّ بعض أتباعه خانوه وسلَّموه إلى الجُنُود العُثمانيين فحملوه مُعتقلًا إلى السُلطان الذي أمر بِصلبه، فصُلب على بُرج سور أدرنة، وقيل أيضًا شُنق. وقيل أدركهُ مُحمَّد بك ميخائيل أوغلي في «جامورلي» بِقُرب مدينة صوفيا، فخنقهُ بِوتر قوسه، وحمل رأسه إلى السُلطان، وهي رواية يستبعدها عدَّة مُؤرِّخين عُثمانيين. وبناءً على روايةٍ ثالثة، فإنَّ مُراد الثاني كان من جُملة المُلاحقين، وقد وجد عمَّهُ مُختبئًا وراء أدغال، فأخرجه منها بِيديه، وجلبه معهُ إلى أدرنة حيثُ علَّقهُ بِأحد أبراج القلعة مصلوبًا، وكان ذلك سنة 825هـ، وقيل كذلك أنَّ مُصطفى چلبي لم يُقتل في ذلك التاريخ وإنَّما أُعدم في سنة 829هـ المُوافقة لِسنة 1426م. وعلى هذا الشكل انتهت فتنة مُصطفى چلبي، بعد أن حكم في الروملِّي 9 أشهر، وثبُت في كُتب التاريخ العُثمانيَّة أنَّهُ كان دجَّالًا مُنتحلًا شخصيَّة مُصطفى بن بايزيد الحقيقي، على أنَّ المُؤرخين المُعاصرين يميلون إلى القول بِأنَّهُ لم يكن مُدعيًا، بل هو الشاهزاده مُصطفى فعلًا. حصار القُسطنطينيَّة. أثبتت الأحداث الأخيرة أنَّ بيزنطة لا تزال تُكنُّ العداوة لِلعُثمانيين، وأنَّ الإمبراطور البيزنطي يستغل الفُرص المُتاحة لِزعزعة كيان الدولة العُثمانيَّة وتقسيم أراضيها، فأراد مُراد الثاني أن ينتقم من نظيره عمانوئيل، وأدرك هذا الأخير سوء عمله، وشعر بِالخطر يتهدَّده، فحاول أن يُخفِّف من غضب السُلطان، فبعث إليه يُهنِّئه بانتصاره على مُصطفى چلبي، ويعتذر عمَّا بدر منه، لكنَّ مُراد الثاني لم يكترث باعتذاره، فلم يكد الوفد البيزنطي يُغادر البلاط السُلطاني حتَّى أعدَّ العُثمانيُّون العدَّة لِضرب حصارٍ على القُسطنطينيَّة وفتحها. وكان الإمبراطور الكهل قد اعتزل السياسة وترك أُمُور الدولة لِقسيمه في المُلك، وابنه، يُوحنَّا الثامن، وانكبَّ على تأليف الكُتُب، فلمَّا بلغه انتصار السُلطان مُراد ومقتل مُصطفى چلبي اضطرَّ أن يعود إلى الحياة السياسيَّة لِإصلاح الوضع قبل أن يحصل ما لا تُحمد عُقباه، لا سيَّما وأنَّ يُوحنَّا الثامن كان يُعادي العُثمانيين دون تبصُّر بِالعواقب، ولم يكن قادرًا على الدفاع عن البلاد تجاه ما قد يقوم به العُثمانيين إزاءها. زحف السُلطان مُراد، في شهر جُمادى الآخرة 825هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) 1422م، على رأس قُوَّاتٍ كثيفة تُقدَّر بِما بين ثلاثين وخمسين ألف جُندي إلى القُسطنطينيَّة وحاصرها. وقد تجهَّز الجيش العُثماني بِأدوات الحصار والمدافع الكبيرة، فكانت تلك أوَّل مرَّة تُستخدم فيها المدافع المشهورة بِالـ«شاهينيَّة» في الجُيُوش العُثمانيَّة. ذكر المُؤرِّخ البيزنطي «يُوحنَّا كنانوس»، الذي عاصر هذا الحصار، أنَّ الجيش العُثماني طهَّر المنطقة المُجاورة لِلقُسطنطينيَّة أولًا بِقيادة مُحمَّد بك ميخائيل أوغلي، ثُمَّ وصل السُلطان مُراد يوم 20 حُزيران (يونيو) على رأس القُوَّة الأساسيَّة ومعه آلات الحصار، فأقامها على الأسوار وبدأ بِالتضييق على المدينة. استمرَّ هذا الحصار نحو أربعة أشهر، أي حتَّى نهايات شهر شوَّال المُوافق لِشهر أيلول (سپتمبر)، وقد شارك فيه العالم شمس الدين مُحمَّد بن علي البُخاري مع خمسُمائة من مُريديه، ممَّا أعطى العُثمانيين دفعًا معنويًّا. أمَّا الروم، فقد دافعوا عن بلادهم على أحسن وجه، وعملوا على إصلاح الإضرار التي كانت تلحق بِالأسوار، حتَّى أنَّ النساء شاركن في الدفاع عن المدينة. ويُروى أنَّ أشد هُجُوم تعرَّضت لهُ القُسطنطينيَّة كان في يوم الإثنين 6 رمضان المُوافق فيه 24 آب (أغسطس) من السنتين المذكورتين. غير أنَّ هذا الهُجُوم أيضًا لم يُسفر عن شيء. والحقيقة فإنَّ القُسطنطينيَّة كانت قاب قوسين أو أدنى من السُقُوط بِيد المُسلمين بعد أن تهالكت أوضاعها الداخليَّة نتيجة الحصار المُستمر، ولم يُنقذها سوى تمرُّد الشاهزاده مُصطفى چلبي الأصغر الشهير بِـ«كُجُك مُصطفى»، وهو الأخ الصغير لِمُراد الثاني، إذ كان قد خرج على أخيه وشقَّ عصا الطاعة، ممَّا اضطرَّ السُلطان إلى فك الحصار والعودة إلى الأناضول لِلتعامُل مع الوضع. بناءً على هذا، نجت القُسطنطينيَّة وبقيت في حوزة الروم لِمُدَّة إحدى وثلاثين سنةٍ أُخرى، إلى أن فتحها السُلطان مُحمَّد الفاتح. وكان هذا الحصار السادس، هو آخرُ حصارٍ فرضه المُسلمون على القُسطنطينيَّة قبل فتحها. ولقد شرح البيزنطيُّون هذه النجاة بِمُعجزةٍ فحواها أنَّ السيِّدة مريم العذراء، وقفت، في أثناء الحرب، على الأسوار، وأنَّها دافعت عنها، وتحقَّقت بِذلك المُعجزة ونجت المدينة. فتنة الشاهزاده مُصطفى الأصغر (كُجُك مُصطفى). مُصطفى الأصغر، الشهير بِـ«كُجُك مُصطفى»، هو أحد إخوان مُراد الثاني، كان والده مُحمَّد قد عيَّنه واليًا على إقليم الحميد تحت إشراف مُربيه «لاله إلياس بك الشرابدار». وكان إلياس بك المذكور من أتباع سُليمان چلبي بن بايزيد، ولمَّا هُزم الأخير وآلت السلطنة إلى مُحمَّد الأوَّل، عفا عن إلياس بك وعيَّنهُ مُربيًا لابنه مُصطفى. وفي أثناء اشتغال السُلطان مُراد بِمُحاربة عمِّه مُصطفى بن بايزيد، حرَّك إلياس بك مخدومه مُصطفى الأصغر على العصيان وطلب المُلك، مُستغلًا حداثة سن الشاهزاده، البالغ من العُمر 13 سنة، وقلَّة خبرته بِالحياة وأُمُور السياسة. وأعانه في هذا التحريك الأمير الكرمياني يعقوب بك بن سُليمان، وكان قد تبنَّى مُصطفى الأصغر وأحبَّهُ حُبًّا شديدًا، فأراد نيله المُلك. وكذا وافقهُما الأمير القرماني ناصر الدين مُحمَّد بك بن عليّ بِدافع الحقد على الدولة العُثمانيَّة وإيقاظًا لِفتنةٍ جديدةٍ فيها في سبيل التوسُّع على حسابها في جنوب الأناضول. كما أنَّ الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني أغرى مُصطفى، شقيق السُلطان، بِالخُرُوج على أخيه في سبيل دفع الأخير بعيدًا عن القُسطنطينيَّة. وهكذا يبدو، في حقيقة الأمر، أنَّ مسؤوليَّة القيام بِالتمرُّد، لا تقع على عاتق الشاهزاده اليافع، وإنَّما على مُربيه وأميرا كرميان والقرمان والإمبراطور البيزنطي. وفي جميع الأحوال فإنَّ مُصطفى الأصغر توجَّه في جمعٍ من الأوباش القرمانيَّة والكرميانيَّة والحميديَّة إلى مدينة بورصة وضرب الحصار عليها، لكنَّهُ لم يتمكَّن من اقتحامها، فتوجَّه إلى إزنيق عوضًا عنها وحاصرها. فما كان من السُلطان مُراد إلَّا أن أرسل إلى إلياس بك الشرابدار سرًا يعده ببكلربكيَّة الروملِّي إن شغل أخاه إلى أن يكبسه السُلطان، وكذلك أرسل إلى علي بك صاحب إزنيق بِتسليم مُصطفى الأصغر إليه بِطريق الحيلة لِيمكُث في المدينة ريثما يصلها السُلطان، ففعلا ما أُمرا به، وأشغل إلياس بك الشرابدار مخدومه سليم الخاطر بِأنواع المشاغل، فشعر الأُمراء القرمانيين والكرميانيين بِما يدور في الخفاء، وحاولوا حمل مُصطفى الأصغر على مُغادرة المكان، فلم يُصغِ إلى قولهم، واعتمد على إلياس بك المكَّار، الذي حمله على فرسه وأدخله إزنيق وأجلسهُ في إحدى قُصُورها، ورتَّب له ديوانًا كديوان السلاطين لئلَّا يتوهَّم منه. أمَّا السُلطان مُراد فإنَّهُ فوَّض أُمُور الثُغُور الغربيَّة من الروملِّي إلى علي بك بن أفرنوس، والثُغُور الشماليَّة منها إلى فيروز بك، وسار هو في بقيَّة العسكر مُسرعًا إلى جانب إزنيق حيثُ جرت مُصادمة بسيطة قُتل فيها مُحمَّد بك ميخائيل أوغلي، لكنَّ جمع مُصطفى الأصغر تفرَّق تمامًا وهرب أكثره إلى داخل المدينة، ولمَّا وصل إليها السُلطان خرج إلياس بك الشرابدار ومعهُ الشاهزاده مُصطفى وسلَّمهُ إلى أخيه الذي أمر به فقُتل شنقًا، ثُمَّ حُمل نعشه إلى بورصة حيثُ دُفن بِجوار والده مُحمَّد الأوَّل. وقيل سُملت عيناه فمات من شدَّة السمل، وقد أُرِّخت هذه الحادثة بِسنة 826هـ المُوافقة لِسنة 1423م. وفي روايةٍ أُخرى أنَّ مُصطفى الأصغر هرب من إزنيق إلى القُسطنطينيَّة وعقد تحالُفًا مع الإمبراطور البيزنطي لم يصل الباحثين أي بندٍ من بُنُوده، ونتيجةً لِذلك تحصَّن في قوجه إيلي في الوقت الذي استعاد فيه مُراد الثاني مدينة إزنيق، إلَّا أنَّ الأُمراء تخلُّوا عنه، فوقع في أسر السُلطان الذي أعدمه في 9 ربيع الأوَّل 826هـ المُوافق فيه 20 شُباط (فبراير) 1423م. تصفية مراكز القوى في الأناضول. بعد تخلُّصه من المُطالبين بِالعرش، انهمك مُراد الثاني في تعزيز دولته وتصفية مراكز القوى في الأناضول. وكان أمير قسطموني عز الدين إسفنديار بك الجندرلي قد استردَّ چانقري وطوسيه وقلعة جك، التي أُلحقت بِالدولة العُثمانيَّة في عهد السُلطان مُحمَّد الأوَّل، وذلك بالاستفادة من انشغال السُلطان مُراد بِمُشكلة مُصطفى الأصغر. واستولى، بعد ذلك، على بولي وطاراقلي والمنطقة المُجاورة لهما. فلمَّا أدرك السُلطان تعدِّي إسفنديار بك على أطراف الممالك، توجَّه إلى قتاله على الفور وقابل جيشه بِقُرب بلدة بورلي حيثُ دارت بينهما معركة عُرفت بِمعركة «طاراقلي بورلي»، هُزم فيها أمير قسطموني، ففرَّ مُلتجئًا إلى سينوپ حيثُ طلب الصُلح، فوافق السُلطان وأمَّنه. وبِمُوجب الاتفاق الذي عقده الطرفان، في أواخر سنة 826هـ المُوافقة لِسنة 1423م، اعترف إسفنديار بك بِسيادة العُثمانيين على إمارة قسطموني، وتعهَّد بِتزويد السُلطان بِقُوَّةٍ عسكريَّةٍ عند الحاجة، وبِدفع جُزءٍ من إيرادات المناجم، وتعبيرًا عن إخلاصه وولائه زوَّجه ابنته خديجة حليمة خاتون. ويُروى أنَّ قاسم بك بن إسفنديار، المُؤيِّد لِلعُثمانيين، والذي عُيِّن حاكمًا على چانقري في عهد مُحمَّد الأوَّل، قدَّم العون إلى مُراد الثاني ضدَّ والده، عندما حمل عليه العُثمانيُّون. التفت مُراد الثاني بعد ذلك إلى الإمارة القرمانيَّة مُستغلًا التنازع الأُسري فيها بعد مقتل الأمير ناصر الدين مُحمَّد. وتفصيل ذلك أنَّ الأمير القرماني سالف الذِكر قاد حملةً على أنطالية، الداخلة ضمن نطاق الدولة العُثمانيَّة، سنة 826هـ المُوافقة لِسنة 1423م بِحُجَّة الانتقام من حاكمها حمزة بك بن فيروز الذي قتل أمير تكة عُثمان بك التابع لِلقرمانيين، والواقع أنَّهُ كان يُملي نفسه السيطرة على تلك المدينة لأهميَّتها التجاريَّة البحريَّة. تمكَّن حمزة بك من صد هُجُوم القرمانيين، وقُتل ناصرُ الدين مُحمَّد أثناء الحصار حيثُ أُصيب بِقذيفة مدفع. وبناءً على ذلك، انتقلت الإمارة إلى شقيقه علاءُ الدين عليّ، فالتجأ ابنا ناصر الدين مُحمَّد: إبراهيم وعيسى، إلى السُلطان مُراد الثاني ضدَّ عمِّهما، وتزوَّجا من أُختيه إلعالدة وإنجي. ساند السُلطان الأمير إبراهيم بن مُحمَّد لِتولِّي عرش الإمارة القرمانيَّة مُقابل حُصُول الدولة العُثمانيَّة على إمارة الحميد، التي كان القرمانيُّون قد استولوا عليها في سنة 824هـ المُوافقة لِسنة 1421م، ومُنح عيسى بن مُحمَّد إمارة إحدى سناجق الروملِّي، أمَّا علاءُ الدين عليّ، الذي أُسقط عن عرشه، فقد مُنح سنجق صوفيا؛ وبِهذا أصبحت الإمارة القرمانيَّة تحت النُفُوذ العُثماني، إلَّا أنَّ هذا التدبير والمُصاهرة التي قامت بين البيتين لم تضمن إخلاص آل قرمان لِآل عُثمان ووفاق البيتين الحاكمين. وفي سنة 828هـ المُوافقة لِسنة 1425م، عصى الأمير جُنيد بك بن إبراهيم الآيديني الدولة العُثمانيَّة، واستولى على إمارة آيدين، التي أعاده إليها السُلطان مُراد بعدما عفا عنه مُجددًا، رُغم دوره الأساسي في فتنة الشاهزاده مُصطفى بن بايزيد، وتمرُّده وعصيانه سابقًا في عهد السُلطان مُحمَّد الأوَّل. ولم يكتفِ جُنيد بك هذه المرَّة بِخلع تبعيَّته لِلعُثمانيين، بل حرَّض بيزنطة والإمارات الأناضوليَّة والبُندُقيَّة ضدَّ السلطنة، لِذلك قرَّر السُلطان مُراد استئصال هذا الأمير، فأرسل إلى بكلربك الأناضول عرُّوج بك بن تيمورطاش أن يتولَّى هذه المُهمَّة، فسار وأغار على بلاده، لكنَّ الموت أدركه فلم يُكمل مُهمَّته، فكلَّف مُراد الثاني حاكم أنقرة حمزة بك، شقيق الصدر الأعظم بايزيد باشا الأماسيلِّي الذي قُتل أثناء فتنة الشاهزاده مُصطفى چلبي، بِمُحاربة جُنيد بك ووضع حدٍ لِخطره. وكلَّف السُلطان أيضًا نسيب بايزيد باشا، المدعو خليل يخشي بك الرومي، مُطاردة الأمير الآيديني والقضاء عليه. التقت الجُيُوش العُثمانيَّة بِجيش جُنيد بك، يقوده ولده «قورد حسن بك»، قُرب مدينة آق حصار حيثُ دارت بينهم معركة انهزم فيها الآيدينيين، ووقع قورد حسن وعمِّه في الأسر، فأُرسلا إلى گليپولي حيثُ زُجَّا في السجن، أمَّا جُنيد بك، فتمكَّن من الهرب من إزمير والتجأ إلى حصن أپسالا الواقع على بحر إيجة، مُقابل جزيرة شامُس، حيثُ حاول الاتصال بِالبنادقة لِإنقاذه، لكنَّ حمزة بك وصل سريعًا وضرب الحصار على أپسالا من البر والبحر، ولمَّا يئس جُنيد بك من وُصُول المدد، وفشل في استقطاب القرمانيين لِتخفيف الضغط عنه، اضطرَّ إلى الاستسلام بِشرط عدم المس بِحياته، فأُخذ أسيرًا مع من تبقَّى من بني آيدين. ويبدو، كما يتبيَّن من الأحداث، أنَّ جُنيد بك قاوم حتَّى سنة 829هـ المُوافقة لِسنة 1426م، وبجميع الأحوال فإنَّ كُلٍ من حمزة بك وخليل يخشي بك لا يبدو أنَّ كانت لهما نيَّة الإبقاء على حياة الأمير الأسير، فقتلاه خنقًا مع أتباعه وأقاربه انتقامًا لِبايزيد باشا، وبِمقتله، تخلَّصت الدولة العُثمانيَّة من أبرز الخونة الذين خانوا عهدها أكثر من مرَّة، ولمَّا علِم السُلطان مُراد بِمقتل جُنيد بك، أمر بِإعدام أخيه وابنه قورد حسن المسجونان في گليپولي، فنُفِّذ الأمر، وبِذلك لم يبقَ أحدٌ على قيد الحياة من بني آيدين، فانقطعت سُلالتهم وآلت بلادهم إلى الدولة العُثمانيَّة، ووزَّعها السُلطان على أُمرائه. وكان أمير مُنتشا أحمد بك بن إلياس قد استغلَّ انشغال الدولة العُثمانيَّة بِمُشكلة جُنيد بك، فهرب من منفاه في الدولة الآق قويونلويَّة ونجح في استرداد عرش آبائه إلى أن هُزم جُنيد بك، فاضطرَّ إلى الهرب مُجددًا والعودة من حيث أتى، فأخذ السُلطان مُراد أراضي تلك الإمارة وجعلها سُنجقًا عُثمانيًّا، وأقطعها لِأقدم أُمرائه «بلبان باشا». الصُلح العُثماني - البيزنطي. استأنف مُراد الثاني سياسته المُعادية لِلبيزنطيين، بعد تحرُّره من المُشكلات الأناضوليَّة، وقد أثبتت التجرُبة الأخيرة أنَّ القُسطنطينيَّة لا تزال بعيدة عن مُتناول العُثمانيين، لكنَّ هؤلاء سوف يُهاجمون سالونيك ويشنُّون هجماتٍ في المورة. وتُوفي في هذه الأثناء الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني، وخلفه ابنه يُوحنَّا الثامن، وكانت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة لدى اعتلاء الإمبراطور الجديد العرش، قد تضاءلت، فلم تعد تشمل سوى القُسطنطينيَّة وضواحيها حتَّى سلمبرية، بِالإضافة إلى بعض الأراضي الضيِّقة على ساحل البحر، فعانت من قلَّة الموارد بسبب فُقدانها لِأراضيها، مع ما ينتج عن ذلك من ضُعفٍ ظاهرٍ في نواحي الحياة كافَّة، فعلى سبيل المِثال لم يتمكَّن يُوحنَّا الثامن من سك النُقُود الذهبيَّة، فاكتفى بِالفضيَّة منها. واستغلَّ السُلطان مُراد ضعف الروم الظاهر ففتح مدينة مودونة الواقعة في شبه جزيرة المورة، مما جعل الإمبراطور يُدرك عدم قُدرته على الصُمُود أمام ضغط العُثمانيين، لِذلك وافق على الخُضُوع لِلسلطنة، وأُبرم صُلحٌ بين الطرفين يوم الثُلاثاء 21 ربيع الأوَّل 828هـ المُوافق فيه 22 شُباط (فبراير) 1425م، وبِمُوجب شُرُوط هذا الصُلح، الذي احتوى مواد ثقيلة على الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، تنازل يُوحنَّا الثامن لِلعُثمانيين عن جميع القلاع الباقية تحت السيطرة البيزنطيَّة على شواطئ بحر البنطس (الأسود) وسواحل الروملِّي، واستجاب أيضًا لِمطالب السُلطان بِدفع جزيةٍ سنويَّة قدرُها ثلاثين ألف دوقيَّة ذهبًا وفق إحدى المصادر، في حين تُحددها أُخرى بِثلاثُمائة آلف آقچة. وبِهذا، فقدت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة جميع الفوائد التي جنتها بعد كارثة أنقرة التي كبحت نُمُوّ الدولة العُثمانيَّة زمنًا طويلًا. حرب البُندُقيَّة: حصار سالونيك. كان لِلإمبراطور البيزنطي الجديد يُوحنَّا الثامن أربعة إخوان: منهم تُيُودور أمير المورة، وأندرونيقوس أمير سالونيك، وقُسطنطين ودمتريوس. ويُروى أنَّ أمير سالونيك أندرونيقوس كان إنسانًا بطيئًا، كسلًا لِلغاية، ولم يكن لِسُكَّان المدينة ثقة به، لكنَّ النجاح العُثماني الأخير في إرغام الإمبراطور على التنازل عن جميع القلاع الباقية تحت السيطرة البيزنطيَّة على سواحل الروملِّي، وفتحهم مدينة مودونة، كما أُسلف، جعل السُكَّان يُدركون أنَّ لا قِبَل لهم بِالوُقُوف في وجه القُوَّات العُثمانيَّة، فسلَّموا مدينتهم لِلبنادقة كي يُدافعوا عنها. ويتفرَّد المُؤرِّخ الرومي «مقار (مقاريوس) ميليسينوس» الذي عاش خلال القرن السادس عشر الميلاديّ، بِذكر روايةً مفادها أنَّ أندرونيقوس عامل المدينة مُعاملةً تجاريَّةً غريبة، حيثُ باعها لِلبُندُقيَّة لقاء 50,000 دوقيَّة، رُغمَّ أنَّ جميع المصادر الأُخرى، بما فيها وثائق المُفاوضات بين الأمير الرومي والبنادقة، لا تأتي على ذِكر هذا الأمر ممَّا يجعله أمرًا مُستبعدًا. ويُذكر أنَّ البنادقة كانوا يتحدثون عن قيامهم بِالدفاع عن الميناء التجاري ضدَّ العُثمانيين من جهة، ويقومون في الوقت عينه بِتحويله إلى «بُندُقيَّةٍ أُخرى» من خِلال إعماره، من جهةٍ أُخرى. عدَّ مُراد الثاني هذا التصرُّف من جانب السُكَّان وأميرهم تحديًا له، لِأنَّ البنادقة كانوا من ألدِّ أعدائه، فأعدَّ جيشًا لِفتح سالونيك وحاصرها، وقد أدَّى قرار تولِّي الدفاع عن المدينة إلى تفاقم وضع البُندُقيَّة. حاول البنادقة استرضاء السُلطان العُثماني والحُصُول على اعترافه بِسيطرتهم على المدينة، فتلقَّى منهم العديد من العُرُوض السياسيَّة، لكنَّهُ كان من المُستحيل عليه أن يقبل بِالأمر الواقع، وواصل حصاره لِسالونيك. ولمَّا أصرَّ البنادقة على الحُصُول على اعتراف السُلطان، وأرسلوا له مبعوثًا دبلوماسيًّا لِيُفاوضه، ألقى القبض عليه وزجَّه في السجن، وأرسل إلى البنادقة يُعلمهم أنَّ وُجودهم في المدينة غير شرعي كونها من حق المُسلمين الذين فتحوها سابقًا وبذلوا دمائهم في سبيل ذلك، وأنَّ قواعد الحرب والغزو - السائدة في العالم آنذاك - تنص على هذا. وبحسب المُؤرِّخ البيزنطي «دوكاس» فإنَّ مُراد الثاني قال في رسالته إلى البنادقة: . وقام الأُسطُول العُثماني بِعمليَّات تدميرٍ في أرخبيل المورة ضدَّ مُمتلكات البُندُقيَّة، وبِخاصَّةٍ في أوبييه، ما شلَّ مُناورات الأُسطُول البُندُقي قبالة گليپولي. وحدث آنذاك ما خفَّف الضغط العُثماني عن سالونيك، إذ نشب النزاع بين العُثمانيين والمجريين حول الصرب والأفلاق، ما أعطى البُندُقيَّة فُرصةً لِإعادة تحصين المدينة. الحملات على الأفلاق والأرناؤوط والصرب والتوسُّع في المورة. أزعج التوسُّع الإسلامي في البلقان سيگيسموند اللوكسمبورغي، ملك المجر وألمانيا ثُمَّ إمبراطور الرومانيَّة المُقدَّسة، وكان قد فشل في الحيلولة دون تمدُّد العُثمانيين في عهد السُلطانين بايزيد ومُحمَّد، فسعى إلى تحريض الأُمراء والحُكَّام المسيحيين المُجاورين على عدوِّهم المُشترك. وفي تلك الفترة، كان حُكمُ بلاد الأفلاق قد آل إلى ڤلاد بن ميرݘه، المشهور بِـ«ڤلاد دراكول»، بعد أن انقلب على الأمير دان، حاكم تلك البلاد. ولقب «دراكول» الذي لُقِّب به هذا الأمير، يعني التنين، وقد خلعهُ عليه سيگيسموند سالِف الذِكر بعد أن انضمَّ إلى طائفة فُرسان التنين التي أسسها سيگيسموند لِلدفاع عن المسيحيَّة في وجه تقدُّم الإسلام، المُمثَّل بِالدولة العُثمانيَّة، في أوروپَّا. وكان ڤلاد المذكور كثير الخُرُوج في حملاتٍ عسكريَّةٍ لِلإغارة على الأراضي العُثمانيَّة، وفي أثناء الحصار العُثماني لِسالونيك، حرَّض الملك المجري جاره الأفلاقي لِيُغير على الأراضي العُثمانيَّة، فما كان منه إلَّا أن عبر إلى سيلسترة وتعرَّض لِبلاد المُسلمين، فأرسل السُلطان مُراد إلى حامي تلك الثُغُور فيروز بك، وأمره بِأن يجمع عسكر تلك الحُدُود ويُغير معهم على الأفلاق، فسار فيروز بك وغزا تلك البلاد وقتل كثيرًا من مُقاتلتها وعاد منها مُحمَّلًا بِالغنائم والأسرى والسبايا. أثارت غزوات فيروز بك الخوف في نفس دراكول، فندم على فعله وأدرك أنَّه غير قادر على مُقارعة الدولة العُثمانيَّة، ولم يعد لديه شك في وخامة عاقبة فعله، وفهم أنَّ عليه مُهادنة السُلطان مُراد، فرتَّب هدايا جليلة وأموالًا عظيمة، ثُمَّ سار مع ولديه إلى السُلطان بِأدرنة، فطلب العفو والأمان، وسلَّم خِراج سنتين، واعترف بِسيادة الدولة العُثمانيَّة عليه، فعفى عنه السُلطان وأقرَّهُ على بلاده، وأعاده حاملًا فرمان التولية الرسميّ. وهُناك رواية تُفيد أنَّهُ ترك ولديه رهينة لدى العُثمانيين. لكن لم يكن هذا الخُضُوع إلَّا ظاهريًّا كما تبيَّن بعد بضع سنين. ما كاد مُراد الثاني يُعيد ترتيب أوضاع الأفلاق لِصالح الدولة العُثمانيَّة، حتَّى أتاه خبر نقض قيصر الصرب، أسطفان بن لازار، حلفه مع العُثمانيين مدفوعًا من سيگيسموند، وكان هذا الحلف قائمًا مُنذُ أوائل عهد السُلطان بايزيد الأوَّل. فقبض (أي أسطفان) على أمير الثُغُور المُجاورة علي باشا بن إسحٰق، الشهير بِـ«دلو باشا»، وحبسه. لِذلك، أرسل السُلطان إلى بكلربك الروملِّي سِنان باشا كي يسير مع العسكر إلى ديار الصرب ويُغير عليها، فسار سنان باشا وفتح قاعدة تلك الديار ودار مُلكها آلاجة حصار، ثُمَّ سخَّر أكثر تلك البلاد، وحوَّل عدَّة كنائس من كنائسها إلى مساجد. ثُمَّ أرسل السُلطان إلى أُمراء الروملِّي بِأن ينضمُّوا إلى البكلربك المذكور ويُغيروا على الصرب ويأخذوا ما بيد قيصرها من بلاد، فسار الأُمراء بِجُنُودهم وسيطروا على ولاية «جان أواسي» وفتحوا قلعة «گورجنيلك» وغيرها. كان من نتيجة تلك الغزوات أن خضع أسطفان بن لازار لِلدولة العُثمانيَّة مُجددًا، فأرسل إلى عتبة السُلطان أموالًا عظيمة وهدايا، والتمس العفو، وأرسل أيضًا هدايا إلى الوُزراء والأُمراء فشفعوا إلى السُلطان فيه، فعفا عنه، وأبرم معه صُلحًا في جُمادى الأولى 829هـ المُوافق فيه آذار (مارس) 1426م، تنازل فيه أسطفان عن قسم من أراضيه حتَّى آلاجة حصار، أي حتَّى الشمال الغربي من مدينة نيش في وسط بلاد الصرب. بعد ذلك حوَّل السُلطان مُراد أنظاره ناحية بلاد الأرناؤوط لِمُعاقبة حاكم الإمارة الكستريوتيَّة، يُوحنَّا كستريو، الذي خلع طاعة العُثمانيين أثناء حصارهم سالونيك، وراسل البنادقة يطلب منهم الصفح عنه وعن ابنه جرجس (إسكندر بك) الذي اعتنق الإسلام وحارب في صف المُسلمين، طالبًا منهم السماح له ولِولده أن يعودا تحت حُكم جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، تمامًا كما كان الحال قبل فتح العُثمانيين لِبلادهم. وفي سبيل إظهار حُسن نيَّته لِلبنادقة، أرسل يُوحنَّا كستريو جميع الفرمانات التي بعثها إليه السُلطان مُراد إلى مجلس الشُيُوخ البُندُقي، وكان يأمره فيها بِمُهاجمة مُستعمرات ومُمتلكات البُندُقيَّة في الأرناؤوط، وطلب كستريو من البنادقة أن يؤمنوا له الحماية والدعم العسكري فيما لو هاجمه العُثمانيُّون. ولمَّا علم السُلطان بِأمر هذه الخيانة، أرسل الأمير عيسى بك بن أفرنوس إلى الأرناؤوط وتحت إمرته قُوَّة كبيرة، فتقدَّم حتَّى سواحل البحر الأدرياتيكي وهزم يُوحنَّا كستريو وأخضعهُ مُجددًا، وألزمه على تسليم أولاده الأربعة رهائن لِضمان التزامه بِمُسالمة المُسلمين. توجَّه عيسى بك بعد ذلك إلى الجنوب، فهدم سور كورنثة الذي بناه البيزنطيُّون، بِغية منع الفُتُوحات العُثمانيَّة من التقدُّم إلى الأمام، ودخل المورة في يوم السبت 20 جُمادى الأولى 829هـ المُوافق فيه 1 أيَّار (مايو) 1426م، وفتح منطقة لاكونيا. ثُمَّ حدث أن تُوفي قيصر الصرب أسطفان بن لازار يوم 24 رمضان 830هـ المُوافق فيه 19 تمُّوز (يوليو) 1427م، فضمَّ مُراد الثاني ما كان قد فتحهُ إلى أملاكه مُتذرِّعًا بِحق الإرث، بِفعل المُصاهرة القديمة بين البيتان العُثماني والصربي، حينما تزوَّج السُلطان بايزيد بِالأميرة أوليڤيرا دسپينة، الأُخت الصُغرى لِأسطفان، مُنازعًا حُقُوق جُريج برانكوڤيچ، ابن أخ أسطفان، الذي ادَّعى وراثة الحُكم. استغلَّ ملك المجر سيگيسموند اللوكسمبورغي وفاة القيصر الصربي لِيضُمَّ إليه بعض بلاده، فزحف باتجاه الصرب واحتلَّ مدينة بلغراد مُتحججًا بِتبعيَّة القيصر الراحل لِلمجر، واعترف بِجُريج برانكوڤيچ حاكمًا على النصف الجنوبي من إقليم «ماچوا» بما فيه ڤاليڤو وكروپانية وزياچة. فردَّ مُراد الثاني بِضم آلاجة حصار ونيش، وحاصر القلعة البيضاء، واتَّخذ من المدينة الأولى قاعدة انطلاقٍ وحماية، وكذلك من قلعة گورجنيلك، الذي وقف قائد حاميتها «إرميا» في صف العُثمانيين ضدَّ أبناء جلدته. دارت بين العُثمانيين والمجريين مُحاربة شديدة تمثَّلت بِعدَّة معارك كانت نتيجتها افتتاح مدينة «كولمباز» الواقعة على شاطئ نهر الطونة (الدانوب) الأيمن، ولمَّا اشتدَّ الضغط العُثماني على المجريين اضطرَّ سيگيسموند إلى عقد هدنة مع السُلطان في سنة 831هـ المُوافقة لِسنة 1428م مُدَّتُها ثلاث سنوات، قضت عليه بِالتخلِّي عمَّا يكون لهُ من البلاد على شاطئ الطونة (الدانوب) الأيمن بِحيثُ يكون هذا النهر فاصلًا بين أملاك الدولة العُثمانيَّة ومملكة المجر. ولمَّا رأى قيصر الصرب الجديد جُريج برانكوڤيچ أنَّهُ لا يقوى على مُقاومة الدولة العُثمانيَّة، قبِل أن يدفع جزية سنويَّة قدرُهما خمسون ألف دوقيَّة ذهبًا، ويُقدِّم لِلسُلطان فرقة من جُنُوده لِلمُساعدة وقت الحرب، وأن يُزوِّجه ابنته مارا، وأن يقطع علاقاته مع ملك المجر وأن يتنازل لِلدولة العُثمانيَّة عن مدينة آلاجة حصار لِتجعلها حصنًا منيعًا تأوي إليه جُنُودها منعًا لِحُصُول الفتن. إلحاق الإمارة الكرميانيَّة بِالدولة العُثمانيَّة. تُوفي يعقوب بك بن سُليمان، آخر أُمراء بني كرميان، سنة 831هـ المُوافقة لِسنة 1428م، عن غير عقب، فأوصى أن تؤول إمارته إلى السُلطان مُراد، نظرًا لِصلة القرابة بينهما، إذا كان مُراد الثاني حفيد أُخت الأمير الكرمياني، وكان يكُنّ له احترامًا وتقديرًا كبيرًا رُغم المُشكلات التي وقعت بين الدولة العُثمانيَّة والإمارة الكرميانيَّة في السابق، ولعلَّ سبب ذلك هو كِبَر سن يعقوب بك ووقاره، إذ كان شيخًا تجاوز الثمانين من العُمر يوم وفاته. ومع أنَّهُ كان لهُ أخوان هُما إلياس وخضر، وأبناؤهما، فإنَّهُ رجَّح حفيد أخته، مُراد الثاني، لِيخلفه. ويبدو أنَّ تأثير عدم وُجُود المُقاومة لِلحُكم العُثماني لديه، كان كبيرًا على هذا الترجيح. وبِذلك، استعاد مُراد الثاني جميع ما كان قد فصله تيمورلنك من أقاليم عن الدولة العُثمانيَّة، وانمحت في سنوات حُكمه الأولى كُلٌ من إمارات آيدين وتكة ومُنتشا وكرميان، وأضحى بِإمكانه التفرُّغ لِمُشكلاته الأوروپيَّة. حرب البُندُقيَّة: استرداد سالونيك. تفرَّغ مُراد الثاني، بعد تأمين الجبهة الصربيَّة - المجريَّة، لِحصار سالونيك، فحشد حولها قُوَّاتٍ كثيفة مُزوَّدة بِالمدافع، كما ساهم الأُسطُول العُثماني في تضييق الخناق عليها بحرًا. وفي تلك الفترة، كانت المدينة قد تحوَّلت إلى مسرحٍ لِلأحداث الطائفيَّة والعرقيَّة، بين السُكَّان الأصليين الروم الأرثوذكس والبنادقة اللاتين الكاثوليك، بحيث لم يعد بِالإمكان العيش فيها بِسلام. وقد عامل البنادقة أروام سالونيك مُعاملةً سيِّئة، بل إنَّهم قاموا بِطرد بعضهم وإحلال مُهاجرين لاتين محلَّهم، وقد نقم الناس على أميرهم الذي استعان بِالبنادقة، وحمَّلوه مسؤوليَّة ما حلَّ بهم. أدَّت هذه الأسباب مُجتمعةً بِأهالي سالونيك إلى الميل إلى العُثمانيين، ضدَّ البنادقة، الذين حاولوا توسيط الإمبراطور البيزنطي يُوحنَّا الثامن بينهم وبين العُثمانيين، لِحل المسألة سلميًّا، لكنَّ مُراد الثاني لم يقبل ذلك، وشدَّد الحصار على المدينة. أمام هذا الوقع، أرسلت البُندُقيَّة أُسطُولًا بِقيادة أمير البحار «أندريا موكينيگو» لِنجدة المدينة، فاشتبك مع الأُسطُول العُثماني في معبر گليپولي، وانهزم شرَّ هزيمة، بل إنَّ العُثمانيين تمكَّنوا من شطر سفينة أمير البحار المذكور إلى قسمين وأغرقوها، فانتقموا بِذلك لِلهزيمة التي تعرَّض لها الأُسطُول العُثماني قبل أربعة عشر عامًا، في أوَّل معركةٍ بحريَّةٍ مع البنادقة. ويُذكر أنَّ الانتصار البحري هذا رفع معنويَّات الجيش المشغول بِالحصار في سالونيك، وأعطى الجُنُود أملًا في النجاح بِفتح المدينة. ويُقال أنَّ السُلطان مُراد كان - على الرُغم من ذلك - مُتكدِّرًا من امتداد أيَّام الحصار، فاستشار الأُمراء في ذلك، فأشار علي بك بن أفرنوس أن يُنادي السُلطان بِالتنفيل واليغما، أي أن يُجعل لِلجُند ما يغنموه في الغزوة، لِإعطائهم سبب إضافي يدفعهم إلى القتال، فنُودي بِذلك بين العسكر، فهجموا على الأسوار وصعدوا إليها بِالسلالم، ولم ينظروا في القتل والجرح والضرب طمعًا في المال والغنيمة، ففُتحت المدينة عنوةً بعد ثلاثة أيَّامٍ من الهُجُوم المُتواصل، في 4 رجب 833هـ المُوافق فيه 29 آذار (مارس) 1430م، ودخلتها القُوَّات العُثمانيَّة، وفرَّت منها الحامية البُندُقيَّة، وقتل الجُنُود العُثمانيُّون كُل من شهر السلاح من الروم، وأصابوا سبيًا كثيرًا، واغتنموا أموالًا عظيمة. وفي اليوم الرابع، دخل السُلطان مُراد المدينة وأمر بِرفع الآذان في كنيسة مريم العذراء، وهي كنيسة المدينة المركزيَّة، وصلَّى فيها إيذانًا بِجعلها مسجدًا جامعًا لِلمُسلمين، فأصبحت أولى مساجد المُسلمين في المدينة، بعد ذلك أعطى السُلطان الأمن والأمان لِجميع السُكَّان، وأمر الجُنُود بِترك البيوت لِأهلها وعدم إخراجهم منها، وافتدى العديد من الأسرى والسبايا من ماله الخاص وأعادهم إلى ديارهم، كما أعاد توطين بعض الأُسر في الأناضول، ونقل عددٌ آخر من الأُسر المُسلمة والمسيحيَّة من مقدونيا وأسكنها في المدينة، وخصَّص القسم المُرتفع منها لِإسكان المُسلمين لِسُهُولة الدفاع عنه. وحتَّى تُحافظ البُندُقيَّة على ما تبقَّى من ثُغُورها البحريَّة في اليونان والأرناؤوط، عقدت مُعاهدة صُلحٍ مع مُراد الثاني في 15 ذي الحجَّة المُوافق فيه 4 أيلول (سپتمبر) اعترفت بِموجبها بِسيطرة العُثمانيين على سالونيك وبِحُريَّة التجارة في جُزر الأرخبيل. فتح يانية. رغب السُلطان مُراد، بعد فتح سالونيك، أن يفتح ما بقي من بلاد الصرب والأرناؤوط والأفلاق قبل أن يُعيد الكرَّة على القُسطنطينيَّة حتَّى لا يكون لها من هذه البلاد نصير. فوجَّه اهتمامه أولًا إلى بلاد الأرناؤوط، وتحديدًا إمارة إپيروس البيزنطيَّة التي كانت تحكمها في تلك الفترة أسرة «توكو» الإيطاليَّة. وكان أمير البلاد «كارلو بن ليوناردو» الشهير بِـ«كارلو توكو الأوَّل» قد تُوفي سنة 833هـ المُوافقة لِسنة 1430م، فحلَّ محلُّه ابن أخيه «كارلو توكو الثاني»، غير أنَّ أولاد كارلو الأوَّل غير الشرعيين، بدأوا بِالنزاع فيما بينهم على التركة. ويُذكر أنَّ الشعب ضاق ذرعًا بِتلك المُنازعات، وأصبح لا يُبالي بِالأُسرة الإيطاليَّة. وبناءً على ذلك، فقد أرسل أهل يانية مُمثلين لهم إلى مُراد الثاني، وسلَّموا له مفاتيح المدينة، مُشترطين عدم التعرُّض لهم في دينهم ولا عوائدهم وحُقُوقهم الشخصيَّة، فوافق السُلطان على ذلك، وأرسل البكلربك سنان باشا إلى المدينة، فتسلَّمها يوم الثُلاثاء 1 صفر 834هـ المُوافق فيه 9 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1430م، كما يُروى، وسلَّم الأهالي فرمانًا سُلطانيًّا يمنحهم الأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ودينهم وكنائسهم، وبِذلك افتُتحت المدينة صُلحًا ودخلت في حوزة المُسلمين. ويعتبر بعض الباحثين أنَّ هذا الحدث يدُل على مدى التأثير الإيجابي الذي تركته الإدارة العُثمانيَّة وعدلها في البلقان. لكن على الرُغم من ذلك، بدأت في الأرناؤوط حركات المُقاومة ضدَّ العُثمانيين، بِسبب المصالح الخاصَّة لِبعض الأُسر الحاكمة، بِدعمٍ وتشجيعٍ من البنادقة، وقد توسَّعت بعض تلك الحركات إلى أن اتخذت صفةً شعبيَّةً عامَّة في بعض المناطق، وأصبحت مُشكلة كبيرة وعارمة في وجه العُثمانيين، استمرَّت حتَّى نهاية عهد السُلطان مُحمَّد الفاتح. ويُذكر أنَّ الأميران الأرناؤوطيَّان «جرجي أرانيتي» و«أندريس طوبيا دوقاقين» وغيرهما من أُمراء المناطق المُمتدَّة بين أفلونية وإشقودرة حاولوا استمالة إسكندر بك بن يُوحنَّا كستريو لِينضم إليهم في الثورة ضدَّ العُثمانيين، لكنَّ الأخير رفض وبقي على ولائه لِلسُلطان مُراد. حرب المجر. عادت البابويَّة إلى تخوِّفها من المد الإسلامي في القارة الأوروپيَّة لمَّا تبيَّن أنَّ الدولة العُثمانيَّة رجعت إلى قُوَّتها السابقة على نكسة أنقرة، فقرَّر البابا إيجين الرابع استغلال الثورات القائمة في بلاد الأرناؤوط ليُحاول حشد حلفٍ مسيحيٍّ جديدٍ ضدَّ العُثمانيين، فاستجاب لهُ الملك سيگيسموند، الذي كان ينزلُ بِضيافته آنذاك في مدينة روما، بعد أن تقلَّد تاج لومبارديا الحديدي وأصبح ملكًا على إيطاليا إلى جانب البلاد الكثيرة التي كان يحكمها، وكان ما يزال يُملي نفسه بِإخراج المُسلمين من أوروپَّا، أو تحجيم النُفُوذ العُثماني على الأقل. لِذلك، عاد إلى تحريض قيصر الصرب وأمير الأفلاق على الدولة العُثمانيَّة، كما راسل أمير القرمان إبراهيم بك بن مُحمَّد وعقد معهُ اتفاقًا سريًّا بأن يُهاجم العُثمانيين في الأناضول في الوقت الذي يُهاجمهم فيه المجريُّون والصربيُّون والأفلاقيُّون في الروملِّي. ويُمكنُ تعليل قُبُول الأمير القرماني الدُخُول في اتفاقٍ من هذا القبيل بِرغبته في إعادة الإمارة القرمانيَّة إلى وضعها السابق، حيثُ لم يبقَ لها استقلالٌ فعليّ، بل اضطرَّت إلى التخلِّي عن بعض الأراضي لِلعُثمانيين والخُضُوع لهم. وفي سنة 835هـ المُوافقة لِسنة 1431م، أرسل السُلطان بكلربك الروملِّي سنان باشا مع طائفة الآقنجيَّة إلى بلاد الأرناؤوط لِقمع الثائرين بها، فأغاروا على الإمارات العاصية وأصابوا فيها غنائم وسبي كثير، ثُمَّ عادوا إلى خدمة السُلطان في أدرنة. وفي ذات السنة تُوفي يُوحنَّا كستريو والد إسكندر بك، فضمَّ السُلطان أملاكه إليه، وأرسل إسكندر المذكور واليًا إلى تلك البلاد مكان أبيه، ومعه 5,000 فارس، فعمل إسكندر بك على المُحافظة على العلاقات التي كانت قائمة سابقًا بين والده وجُمهُوريَّتا راگوزة والبُندُقيَّة، ولكن تحت الراية العُثمانيَّة، وبِذلك هدأت أوضاع بعض بلاد الأرناؤوط، والتفت مُراد الثاني إلى ملك المجر وحُلفائه. استشار السُلطان الأُمراء والساسة في الجهاد على المجر قبل أن يستفحل خطرها أكثر من هذا، فاتفقت الكلمة على أن يُرسل أولًا أحدًا من الأُمراء مع طائفةٍ من العساكر لِيستعلم المداخل والمخارج، فعُيِّن لِذلك علي بك بن أفرنوس، وسار في عسكر الروملِّي حتَّى دخل حُدُود بلاد المجر، فلم يظهر المجريُّون لِقتاله ممَّا حمل قسمٌ كبيرٌ من العسكر على التفرُّق لِلنهب والسبي، ولم يبقَ مع علي بك سوى جمعٌ قليلٌ من الجُنُود، فغافلهم سيگيسموند وكبسهم في جمعٍ كبير، ووقعت بين الطرفين معركة قصيرة انكسر فيها العُثمانيُّون، واضطرَّ علي بك إلى الهرب والخلاص، فنجا في جمعٍ قليل، وقتل المجريُّون أكثر من كان معه، وأسروا المُتفرِّقين. أمضى السُلطان شتاء تلك السنة في أدرنة، وشرع في جمع جيشٍ لِلانتقام من سيگيسموند، وبينما هو مشغولٌ بِذلك حتَّى بلغه هُجُوم إبراهيم بك القرماني على الأراضي العُثمانيَّة بِحُجَّة سرقة حصان. وذلك أنَّ ابن أمير ذي القدريَّة سُليمان بك كان قد هيَّأ فرسًا جيِّدًا من السُلالة التُركمانيَّة المعروفة بِالأصالة والنجابة والحيويَّة وقُوَّة الاحتمال، لِلإهداء إلى السُلطان مُراد، فطلبهُ منهُ الأمير القرماني كي يختصَّهُ لِنفسه، فاعتذر سُليمان بك بِأنَّهُ قد أعدَّهُ لِلإهداء إلى السُلطان العُثماني، فرأى إبراهيم بك الفُرصة سانحة لِفتح باب الحرب بينه وبين العُثمانيين، وأرسل جمعًا من السُرَّاق فسرقوا الحصان، وعلم سُليمان بك بِذلك فأعلم السُلطان مُراد به، فأرسل السُلطان إلى الأمير القرماني يطلب منه إرجاع الحصان، لكنَّ الأمير رفض وأغلظ في الجواب، ثُمَّ أعلن العصيان وسار واستولى على إقليم الحميد، وأسر الوالي إلياس بك الشرابدار، وبلغت هذه الأحداث مسامع السُلطان وهو مُتجهِّز لِلمسير إلى جهاد المجريين. وفي أثناء ذلك بلغه أيضًا أنَّ قيصر الصرب عاد وعصى وانضمَّ إلى سيگيسموند وتوجَّها إلى الأراضي العُثمانيَّة وعاثا فيها، وحاصرا قلعة گورجنيلك، فأرسل السُلطان البكلربك سنان باشا إلى دفع المُهاجمين، وأرسل معهُ جميع أُمراء الروملِّي والآقنجيَّة وأصحاب التيمارات والزعامات. أدرك سنان باشا الجيش المجري - الصربي وقد ضرب الحصار على قلعة گورجنيلك سالِفة الذِكر، فانقضَّ عليهم وقاتلهم قتالًا شديدًا حتَّى كسرهم وأجبرهم على الفرار عبر نهر الطونة (الدانوب)، فغرق منهم الكثير من الجُنُود، ولم يتمكَّن سيگيسموند من عُبُور النهر إلَّا بِمشقَّةٍ عظيمة، فهرب في جمعٍ قليل من قُوَّاته، واغتنم المُسلمون بِغنائم كثيرة. بعد دفع الصربيين والمجريين، توجَّه السُلطان في سنة 838هـ المُوافقة لِسنة 1435م إلى الأناضول، وتجهَّز لِلمسير إلى مُعاقبة إبراهيم بك القرماني على عصيانه وتحالفه مع القوى المسيحيَّة المُعادية لِلعُثمانيين، فأعدَّ جيشًا عرمرمًا واتحد مع أُمراء ذي القدر، وتوجَّه إلى بلاد القرمانيين. وكان السبب الذي أدَّى إلى اتحاد بني ذي القدر مع العُثمانيين في هذه الحملة، كون القرمانيين قد قاموا، قبل فترةٍ وجيزةٍ، بِالاستيلاء على مدينة قيصريَّة التابعة لِبني ذي القدر، ويُروى أنَّ أمير ذي القدريَّة، ناصر الدين مُحمَّد بك، أرسل ابنه سُليمان سالِف الذِكر، إلى السُلطان مُراد الثاني، وعقد اتفاقًا معهُ على السير سويًّا على القرمانيين. تختلف المصادر في تحديد النتائج المُترتبة على هذه الحملة، فتذكر المصادر العُثمانيَّة بِشكلٍ عام، أنَّ السُلطان مُراد أخذ جميع بلاد إبراهيم بك القرماني بما فيها عاصمته قونية التي أقام بها واتخذها مركزًا لِلعمليَّات العسكريَّة، فهرب إبراهيم بك واحتمى في هضبة «طاش إيلي» في قيليقية، فأتبعهُ السُلطان بِجمعٍ لِتسهيل الطُرق إلى الهضبة المذكورة وإلقاء القبض عليه، إلَّا أنَّهُ بِالنظر إلى تشفُّع زوجة إبراهيم بك، إلعالدة خاتون، التي هي أُخت مُراد الثاني، في الموضوع، أُعيد الأمير القرماني إلى بلاده لِقاء تسليم ابنه لِيُقيم في البلاط العُثماني، والتزامه بِدفع بعض التعويضات. وقيل أيضًا أنَّ إبراهيم بك خاف أن يقع في يد العساكر العُثمانيين الذين يتتبعونه، فأرسل العالم المُتصوِّف «أولو عارف أفندي»، وهو من أحفاد المُلَّا جلال الدين الرومي، إلى حُضُور السُلطان شفيعًا، فقبل السُلطان شفاعته، وردَّ مُلك ابن قرمان إليه؛ بعد استرداد ما أخذه من بلاد الحميد. وقيل كان الشفيع المولى نُورُ الدين حمزة بن محمود القرماني. وبجميع الأحوال، أرسل مُراد الثاني كتاب العهد والأمان إلى إبراهيم بك بِيد المُؤرِّخ شُكر الله بن أحمد بن زين الدين زكي، ثُمَّ عاد إلى بورصة بعد استقرار الصُلح، وأقرَّ إلياس بك الشرابدار على إقليم الحميد. وبناءً على إحدى الروايات فإنَّ مُراد الثاني استرجع مدينة قيصريَّة لِبني ذي القدر خِلال هذه الحملة، لكن على الرُغم من ذلك، يُروى أنَّهُ مع عقد الصُلح بين مُراد الثاني وإبراهيم بك، وجلاء القُوَّات العُثمانيَّة عن وسط الأناضول، فإنَّ سُليمان بن مُحمَّد ذو القدر قد اشتغل فترةً طويلةً بِحصار قيصريَّة، إلَّا أنَّهُ لم يُوفَّق في استرجاعها. ويُذكر أنَّ منطقة آق شهر، التي كانت تتبع الإمارة القرمانيَّة، أُلحقت بِالدولة العُثمانيَّة في هذه الحملة. تحرَّك مُراد الثاني، بعد انتصاره على القرمانيين، إلى الصرب للانتقام من قيصرها جُريج برانكوڤيچ لِنقض عهده واتفاقه مع المُخالفين. ولمَّت تيقَّن برانكوڤيچ أنَّهُ لا قِبلَ لهُ في مُقاومة العُثمانيين، أرسل أموالًا عظيمة وهدايا جليلة إلى الأُمراء، فشفعوا فيه، وتنازل لِلسُلطان عن المزيد من الأراضي وأعلن خُضُوعه التام مُجددًا. كذلك، عاود أمير الأفلاق ڤلاد دراكول إعلان خُضُوعه وتبعيَّته لِلدولة العُثمانيَّة، وتعهَّد بِالخدمة مع جيشه في الحملات العُثمانيَّة. وبِتلك الصُورة جُرِّدت مملكة المجر من حُلفائها في الأناضول والروملِّي، وبقيت وحيدة. بعد ما قام مُراد الثاني بِتأديب المُتحالفين مع الملك المجري سيگيسموند، وأعادهم إلى الطاعة، قرَّر الانتقام من هذا الملك الذي أصبح وحيدًا، لا سيَّما وأنَّهُ أغار على أطرف آلاجة حصار عند اشتغال السُلطان بِالقرمانيين. لِذلك أرسل السُلطان علي بك بن أفرنوس على رأس عسكر الروملِّي إلى بلاد المجر، والتحق به كُلٌ من جُريج برانكوڤيچ وڤلاد دراكول، وعبروا نهر الطونة (الدانوب) في سنة 840هـ المُوافقة لِسنة 1436م، فوصلوا إلى طمشوار، وأغاروا على إقليم الأردل (ترانسلڤانيا) وغنموا منها غنائم عظيمة، وقتلوا مُقاتلة أهلها، وسبوا الكثيرين منهم، وحاصروا مدينة هرمنستاد وأغاروا على مدينتيّ «مدياش» و«شوسبورغ»، ثُمَّ عاد علي بك إلى أدرنة، بعد خمسةٍ وأربعين يومًا قضاها في الغزو، وهوَّن أمر فتح تلك البلاد عند السُلطان، فأمر الأخير باجتماع العسكر، وسار معهم في شهر ربيع الأوَّل سنة 841هـ المُوافق فيه شهر أيلول (سپتمبر) سنة 1437م، إلى جهاد المجريين، وحضر معه في هذه الغزوة قيصر الصرب وأمير الأفلاق مع عساكر بلادهما، فوصل هذا الجمع إلى حصن زملين المنيع، المُواجه لِمدينة بلغراد، واتخذهُ السُلطان قاعدةً انطلقت منها الحملات العسكريَّة وفتحت ست قلاع مجريَّة، ولم يقدر سيگيسموند على الظُهُور والمُقاومة كونه كان مريضًا يحتضر. ورجع السُلطان بعد ذلك إلى أدرنة عن طريق الأفلاق، وقيل أنَّ تلك الحملات على المجر تمحَّضت بِسبعين ألف أسير. فتح سمندريَّة. الواقع أنَّ مُراد الثاني كان، حتَّى ذلك الحين، يسعى إلى تدعيم سُلطته بِقمع الثورات الداخليَّة، وتقوية مناطق الحُدُود أكثر ممَّا كان يسعى إلى التوسُّع، بِشكلٍ ملحوظ، وذلك بِفعل الظُرُوف الدُوليَّة السائدة آنذاك. فهو مُحاط بِالإعداء من كُل جانب: جُمهُوريَّة البُندُقيَّة ومملكة المجر والإمارة القرمانيَّة والدولة التيموريَّة، كما وُجد اتجاهٌ عُثمانيّ، من جانب بعض القادة والسياسيين، وعلى رأسهم الوزير الثاني «صاروچه باشا»، مُعادٍ لِسياسة التوسُّع بعد فشل سياسة بايزيد الأوَّل التي أثَّرت سلبًا على الدولة والمُجتمع العُثماني. غير أنَّ الظُرُوف تبدَّلت في سنة 841هـ المُوافقة لِسنة 1437م، فقد ركنت البُندُقيَّة إلى الهُدُوء بعد أن أرهقها صراعٌ دام سبع سنوات، وحرصت على المُحافظة على مصالحها التجاريَّة وتمسَّكت بِالسِّلم. وفي 10 جُمادى الآخرة 841هـ المُوافق فيه 9 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1437م، تُوفي سيگيسموند ملك المجر وإمبراطور الرومانيَّة المُقدَّسة، فبدا موته كأنَّهُ أضعف المجر في لحظةٍ حرجة، وكان مُراد الثاني قد أخضع الإمارة القرمانيَّة. أمَّا شاهرُخ بن تيمورلنك، أمير الدولة التيموريَّة، فقد رحل باتجاه الشرق تاركًا آسيا الصُغرى، فتعزَّز الاتجاه التوسُّعي بين القادة والسياسيين. استغلَّ مُراد الثاني الظُرُوف السياسيَّة، المُشار إليها، وقرَّر التوسُّع باتجاه الشمال، فقاد حملةً في سنة 841 - 842هـ المُوافقة لِسنة 1438م ضدَّ إمارة الأردل (ترانسلڤانيا) ومملكة المجر، وسانده جُريج برانكوڤيچ الصربي وڤلاد دراكول أمير الأفلاق، فتصدَّت لهُ القُوَّات المجريَّة بِقيادة قائدٍ صلب العود هو يُوحنَّا هونياد أمير الأردل، لكنَّ مُراد الثاني استطاع التغلُّب عليه، وشجعَّتهُ هشاشة المُقاومة المجريَّة على التوغُّل في بلاد المجر. وفي تلك الفترة، انتُخب ألبرت الثاني ملك ألمانيا ملكًا على المجر، وقام هذا الخلف بِالتعجيل في سياسة سلفه سيگيسموند، التي كانت تستهدف العمل ضدَّ العُثمانيين، فاتصل بِكُلٍ من جُريج برانكوڤيچ وڤلاد دراكول وبدأ التمهيد لِعقد تحالُفٍ مجريٍّ - صربيٍّ - أفلاقيٍّ، ضدَّ العُثمانيين. وبلغت أخبار هذه المُؤامرة مسامع السُلطان مُراد عن طريق إسحٰق بك بن فيروز، أمير سنجق إسكوپية الحُدُودي، الذي عرفها بِدوره عن طريق الجواسيس، فأرسل إلى السُلطان يقول: . بناءً على هذا، أرسل مُراد الثاني إلى القيصر الصربي والأمير الأفلاقي يدعوهما إلى الطاعة والخدمة، وطلب من برانكوڤيچ أن يُسلِّمه مفاتيح مدينة سمندريَّة التي اتخذها عاصمةً له بعد تنازله عن آلاجة حصار كما أُسلف، فرفض القيصر الصربي وثار في وجه الدولة العُثمانيَّة، وحصَّن مدينته بِالميرة والرجال، ما دفع السُلطان إلى التوجُّه إلى الصرب لِإخضاعه، فما كان من برانكوڤيچ إلَّا أن فرَّ من أمام الزحف العُثماني، وترك الدفاع عن عاصمته لِإبنه الكبير «جرجير»، والتجأ إلى الملك المجري ألبرت الثاني. ولمَّا وصل السُلطان بِجيشه ضرب الحصار حول سمندريَّة طيلة ثلاثة أشهر ثُمَّ فتحها يوم الخميس 16 ربيع الأوَّل 842هـ المُوافق فيه 5 أيلول (سپتمبر) 1438م، وقبض على جرجير المذكور وعدد من الأُمراء الصربيين وفقء أعينهم دون أن يقتلهم، وأرسلهم أسرى إلى قلعة توقاد أو ديموتيقة، وزجَّ بهم في السجن. أمَّا أمير الأفلاق ڤلاد دراكول، فنظرًا إلى تيقُّنه بِعدم مقدرته على الصُمُود بِوجه القُوَّات العُثمانيَّة، لم يجد ملاذًا من أن يتقدَّم إلى الجيش العُثماني، ويلجأ، مع ولديه، إلى مُراد الثاني دخيلًا لِلشفقة عليه، فعفا عنه مُجددًا ولم يقتله، لكنَّهُ أمر بسجنه عقابًا له على التواصل مع ملك المجر، فسُجن هو في قلعة گليپولي وولداه في قلعة أغريبوز. ولمَّا وصل خبر سُقُوط سمندريَّة بِيد المُسلمين، قام ألبرت الثاني على رأس جيشٍ وسار لِتخليص المدينة وطرد العُثمانيين منها، فتصدَّى لهُ إسحٰق بك بن فيروز وعُثمان چلبي بن أمور بن تيمورطاش، المُكلَّفان بِالحملة على المجر، ودارت بين الطرفين معركة شديدة عُرفت بِـ«وقعة تكَّة دوبري»، انهزم فيها الجيش المجري هزيمةً نكراء، وهرب ألبرت الثاني ناجيًا من موتٍ مُحقق، ووقع الكثير من الأسرى بِيد العُثمانيين، واغتنموا بِغنائم عظيمة، وكان المُؤرِّخ درويش أحمد عاشقي الشهير بِعاشق باشا زاده من جُملة المُقاتلين في الجيش العُثماني في هذه المعركة، وصوَّر هذا الانتصار ومقدار الغنائم بِقوله: . بعد تمام النصر، حوَّل السُلطان مُراد الأراضي الصربيَّة المفتوحة إلى سُنجُقٍ مركزه سمندريَّة، وعُرف باسمها، مما يعني أنَّ القيصريَّة الصربيَّة أُزيلت من الوُجُود، وكان من نتيجة هذا الانتصار أيضًا أن تخوَّف ملك البُشناق «أسطفان تڤرتكو» من مُجاورة العُثمانيين لِبلاده واحتمال أن يُقدموا على فتحها أيضًا، فاضطرَّ أن يقترح رفع الجزية التي كان يدفعها سنويًّا إلى العُثمانيين بِغية تخليص وضعه، فرفع المبلغ من عشرين ألف دوقيَّة إلى خمسةٍ وعشرين ألفًا. حصار بلغراد. تُوفي ألبرت الثاني ملك ألمانيا والمجر في يوم الثُلاثاء 18 جُمادى الأولى 843هـ المُوافق فيه 27 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1439م؛ بِسبب مرض الصفراء الذي انتقل إليه من الجيش. فحصل، بناءً على ذلك، أزمة على الحُكم في المجر استمرَّت سنتين. ومن المعروف أنَّ ألبرت الثاني كان نسيب سيگيسموند، فلمَّا تُوفي، وأُعلنت ملكيَّة ابنه، الذي وُلد من زوجته أليصابت اللوكسمبورغيَّة، وأُطلق عليه اسم «لاديسلاس»، قام في وجهه الملك البولوني ڤلاديسلاڤ الثالث، مُدعيًا أنَّ الحُكم له، حيثُ استند إلى بعض المُؤيِّدين له. استغلَّ مُراد الثاني هذا التنازُع القائم في المجر وهاجم مدينة بلغراد، الموقع الأمامي لِلمجريين، وضرب عليها حصارًا مُركَّزًا بِجيشٍ قوامه 35,000 مُقاتل، وذلك خِلال شهر نيسان (أبريل) 1440م. نصب العُثمانيُّون مناجيقهم ومدافعهم على المدينة، بما فيها المدافع التي غنموها من سمندريَّة، وقصفوها قصفًا شديدًا. تولَّى الدفاع عن المدينة راهبٌ راگوزي يُدعى يُوحنَّا، وسانده في ذلك حوالي 500 رجل من الحامية، بِالإضافةٍ لِعددٍ من المُرتزقة الكرواتيين والطليان والبوهيميين، واستخدموا المدافع التي كان القيصر الصربي جُريج برانكوڤيچ قد نصبها في القلعة بِالإضافة إلى البنادق، لِلرد على القصف العُثماني. وعلى الرُغم من نجاح العُثمانيين في الدُخُول إلى المدينة، في أحد الأوقات، فإنَّ المُدافعين عنها ردُّوهم. دام الحصار العُثماني لِلمدينة ستَّة أشهر لم يتمكَّن السُلطان خِلالها من اقتحامها، ولمَّا تيقَّن أنَّ فتحها يحتاج إلى زمانٍ مديد، رفع الحصار عنها وسيَّر السرايا إلى وراء نهر صوه (ساڤا) وأغاروا على تلك البلاد وعادوا منها بِالغنائم، وعند عودتهم فتح السُلطان قلعة نوابرده، وكان إقليمها غنيّ بِالحديد والفضَّة، ممَّا أعطى لِهذه الغزوة أهميَّة اقتصاديَّة كبيرة، وكان اغتنام العسكر فيها بِحيثُ لم يتيسَّر لهم مثله في أحدٍ من الغزوات. الحملة الصليبيَّة الطويلة ووقف التقدُّم العُثماني. الواقع أنَّ فشل العُثمانيين أمام بلغراد يرمز إلى بداية تراجُع الاندفاع العُثماني، إذ شجَّع ذلك الإمبراطور البيزنطي يُوحنَّا الثامن على طلب المُساعدة من الغرب الأوروپي لِمُواجهة المد الإسلامي. لقد عظُم عليه سُقُوط سالونيك في أيدي العُثمانيين، وأفزعهُ تقدُّم مُراد الثاني وانتصاراته في البلقان، وهاله تخاصم الجنويين والبنادقة في هذا الظرف الحرج، لِذلك توجَّه نحو البابا والغرب الأوروپي لِلتباحث في كيفيَّة التعاون بين النصارى لِلصُمُود في وجه المُسلمين. وكتب يُوحنَّا الثامن إلى البابا يعرض عليه توحيد الكنيستين الشرقيَّة والغربيَّة لِقاء التعاون العسكري لِلدفاع عن القُسطنطينيَّة وأوروپَّا الشرقيَّة، فقبِل البابا ذلك ووعد الإمبراطور بِأن يُنجده بِالقُوَّات والعساكر لِتخليص بلاده من خطر المُهاجمين عليها، وأرسل لهُ مراكب ونفقة لِلطريق. ولمَّا رجع الجواب استدعى الإمبراطور رؤساء الكهنة والعُلماء والفلاسفة وبطاركة دمشق وبيت المقدس وأنطاكية، ولمَّا اجتمعوا في القُسطنطينيَّة سافر الإمبراطور والبطريرك المسكوني «يُواصف الثاني» وباقي رُؤساء الكهنة والعُلماء والفلاسفة ما ينوف عن الثلاثُمائة بحرًا إلى البُندُقيَّة، حيثُ اجتمعوا بِالبابا وأبدوا استعدادهم لِقُبُول توحيد الكنيستين وفقًا لِرغبته. والواقع أنَّ الدعوة كانت قويَّة، آنذاك، في الدوائر الدينيَّة والسياسيَّة في أوروپَّا نحو اتحاد الكنيستين الشرقيَّة والغربيَّة، ولِهذا اتجهت الأنظار نحو عقد مجمع أساقفة في مدينة فرارة في سنة 842هـ المُوافقة لِسنة 1438م، ثُمَّ انتقل المجمع إلى مدينة فلورنسة في السنة التالية، حيثُ وعد البابا إيجين الرابع بِدعوة مُلُوك أوروپَّا لِإنقاذ القُسطنطينيَّة بعد أن عجزت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة عن مُقاومة العُثمانيين. وافق الجميع، في هذا المُؤتمر، على مبدأ إرسال حملةٍ صليبيَّةٍ أُخرى لِإخراج المُسلمين من الأراضي الأوروپيَّة وتخليص القُسطنطينيَّة من أخطارهم، وشاع في أوروپَّا أنَّ حملةً صليبيَّةً جديدة، تُساهم فيها الدُول الأوروپيَّة، يُمكن أن تُحقق هذا الهدف، لِذلك اتسمت الحُرُوب بين الدولة العُثمانيَّة ودُول أوروپَّا في هذه المرحلة بِالصليبيَّة. وفعلًا، دعا البابا مُلُوك وأُمراء أوروپَّا لِلمُساهمة في هذه الحملة، فاستجاب لِدعوته ألفونسو الخامس ملك أراغون والنبلطان (ناپولي)، وهو أقوى شخصيَّة أوروپيَّة في حوض البحر المُتوسِّط، وڤلاديسلاڤ الثالث ملك المجر وبولونيا، ويُوحنَّا هونياد أمير الأردل (ترانسلڤانيا)، وانضمَّت إلى الحملة قُوَّاتٌ سكسونيَّة وألمانيَّة وبوهيميَّة ولاتينيَّة وفرنسيَّة وبُشناقيَّة وأفلاقيَّة. وسارت هذه القُوَّات لِقتال العُثمانيين، فيما سُمي بِـ«الحملة الطويلة»، وأرسل البابا الكردينال يوليان سيزاريني إلى المجر لِإعطاء دفع معنوي إلى الحملة. وكان يُوحنَّا هونياد سالف الذِكر قائدًا شُجاعًا باسلًا، شديد التعصُّب لِلمذهب الكاثوليكي، وأخذ على عاتقه إخراج المُسلمين من البلقان، وجعل هذا هدفه الوحيد في الحياة، ودرس تكتيكات الحرب العُثمانيَّة بِصُورةٍ جيِّدة، ونظرًا لِلشجاعة التي أبرزها في المعارك السابقة، فإنَّ الملك المجري ڤلاديسلاڤ الثالث أقرَّهُ على إمارة الأردل، وجعلهُ قائدًا عامًّا لِلقُوَّات المجريَّة في الوقت عينه. الهزائم العُثمانيَّة في الأفلاق. وفي الحقيقة، أظهر أهل الأفلاق الانقياد لِملك المجر وعامله يُوحنَّا هونياد، بعد أن أصبحوا بلا حاكمٍ بعد أن حبس السُلطان مُراد أميرهم ڤلاد دراكول، كما أُسلف، فأرسل إليهم الملك المجري حاكمًا من قِبله، ولمَّا علِم السُلطان بِذلك أرسل سريَّةً من الآقنجيَّة مع أمير الإسطبلات يزيد بك إلى بلاد الأفلاق، فسار يزيد بك وكسر المُخالفين وفرَّق جمعهم، وألقى الحصار على مدينة هرمنستاد، لكنَّهُ لم يُراعِ الحزم والاحتياط، فترك قسمٌ من جيشه يُغير على الأطراف وبقي هو في جمعٍ قليل يُحاصر المدينة المذكورة، وكان يُوحنَّا هونياد آنذاك مُتحصنًا بِالجبال مُترصدًا لِلفُرصة، فوصل إليه في هذه الأثناء مددٌ من الملك المجري، وبلغهُ أيضًا خبر غفلة يزيد بك وتفرُّق أصحابه، فانتهز الفُرصة وسارع إلى مُلاقاة الجيس العُثماني لِفك الحصار عن المدينة، فبُوغت يزيد بك على حين غفلة، وانقضَّ المجريُّون على العُثمانيين وانتصروا عليهم وقتلوا منهم ما يقرب من عشرين ألف جُندي بِحسب بعض المصادر (على أنَّ هذا الرقم قد يكون مُبالغًا فيه)، وكان يزيد بك نفسه من بين القتلى، ولم ينجُ من المُتفرِّقين إلَّا من كان قريبًا من حُدُود ديار الإسلام، فلاحقهم هونياد حتَّى طردهم إلى ما وراء نهر الطونة (الدانوب)، ثُمَّ أمر بِإعدام الأسرى العُثمانيين الواحد تلو الآخر على مرأى منه وهو جالسٌ إلى مائدته. بعد ذلك، عبر هونياد إلى الأفلاق وأحرق ضفَّتي نهر الطونة ثُمَّ رجع إلى بلاده. ويُذكر أنَّ هونياد اكتسب لقب «المُخلِّص لِلوطن» في هذا الانتصار الأوَّل الذي حقَّقه ضدَّ المُسلمين، كما أنَّ قيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ أدلى بِدلوه وساعد هونياد مُساعدةً فعَّالة، فأرسل لهُ هذا الأخير رأس القائد العُثماني هديَّة. ولمَّا علم مُراد الثاني بِما أصاب جيشه، أرسل جيشًا آخر تعداده ثمانين ألف جُندي بِقيادة شهاب الدين شاهين باشا الخادم، ومعهُ أُمراء الروملِّي وعساكرها، وضمَّ إليه ستَّة من أُمراء سناجق الأناضول أيضًا مع عساكرهم، وسار إلى الأفلاق حيثُ اصطدام بِالجيش الصليبي عند بلدةٍ يُقال لها «وازاج»، فدارت بين الطرفين موقعة هائلة انهزم فيها العُثمانيُّون مرَّة أُخرى ووقع القائد شهاب الدين باشا في الأسر، وقُتل العديد من الأُمراء والقادة أبرزهم: عُثمان چلبي بن أمور بن تيمورطاش، وفيروز بك بن يعقوب، ويعقوب بك بن دورمزق، وخُضر بك، وعُمر بك وغيرهم. كانت النتيجة النفسيَّة لِهذا الانتصار واضحة، فقد بدا أنَّ الأمل في تجديد الحرب الصليبيَّة وطرد المُسلمين من الأراضي الأوروپيَّة، أقل حماقة، لِذلك، حشد الحُلفاء جيشًا كثيفًا قاده يُوحنَّا هونياد، الذي عمَّت شُهرته العالم المسيحي وعُدَّ أكبر مُدافعٍ عن المسيحيَّة ضدَّ الإسلام، ورافقهُ الملك ڤلاديسلاڤ الثالث، وانضمَّ إليه جُريج برانكوڤيچ رغبةً باستعادة إمارته الصربيَّة التي أزالها مُراد الثاني. عصيان إبراهيم بك القرماني مُجددًا. بينما كان الوضع مُتأزمًا إلى درجةٍ لم يسبق لها مثيل في الروملِّي، بدأت في الأناضول تحرُّكات مُضادَّة لِلعُثمانيين. إذ لمَّا شاع خبر انكسار الجُيُوش العُثمانيَّة أمام المجريين، عاود الأمل إبراهيم بك القرماني بالاستقلال والتوسُّع، فأرسل إلى الملك ڤلاديسلاڤ الثالث يُحرِّكه على العُثمانيين ويقولُ له: ، وهذا يعني أنَّ إبراهيم بك دخل لِلمرَّة الثانية في حلفٍ مع القوى المسيحيَّة المُناهضة لِلعُثمانيين. وسُرعان ما أرسل الأمير القرماني صهره حسن بك بن درغوث في جمعٍ من الأوباش فأغاروا على نواحي بولوادين، وبُيُوت جبل عُمر، وبك بازاري، واستولى على آق حصار وآق شهر وبك شهر وغيرها من البلدات العُثمانيَّة. ولمَّا وصل الخبر إلى السُلطان عبر إلى الأناضول في سنة 846هـ المُوافقة لِسنة 1442م، فتوجَّه إلى بلاد قرمان، وأذن لِلعسكر في الإغارة على تلك البلاد ونهبها وتدميرها وُصُولًا إلى قونية، ولم يكن قد صدر من العُثمانيين حتَّى هذا الوقت أي غارة مُدمِّرة على بلاد الإسلام، لكنَّ حركة إبراهيم بك وطعنه المُتكرِّر بِالمُسلمين أبناء ملَّته أثارت غضب السُلطان مُراد وجعلته يعقد العزم على الانتقام منه وتأديبه. وما أن وصل السُلطان إلى قونية حتَّى تبيَّن له أنَّ الأمير القرماني غادرها وهرب إلى هضبة «طاش إيلي» على عادته. وعندما انتشر خبر غدر إبراهيم بك في الأمصار، أفتى شيخ الإسلام في الدولة المملوكيَّة ابن حجر العسقلاني وقاضي قُضاة الحنفيَّة بِالقاهرة سعد الدين بن مُحمَّد الديري، بِوُجُوب قتل الأمير القرماني إن لم يتُب ويستغفر بِسبب ضربه العُثمانيين من الخلف أثناء جهادهم أعداء الإسلام والمُسلمين. اضطرَّ إبراهيم بك تحت وطأة الضغط المعنوي إلى الجُنُوح إلى الصُلح، فأرسل وزيره سُرور بك ومُفتيه صاري يعقوب، وسيَّر معهم زوجته إلعالدة خاتون أُخت السُلطان مُراد، لِلشفاعة والاستعفاء، فقبل السُلطان شفاعة شقيقته وعفا عن زوجها في هذه المرَّة أيضًا، ولكن تحت طائلةٍ من الشُرُوط القاسية، أهمها إعادة الأراضي العُثمانيَّة التي استولى عليها، ودفع تعويضاتٍ عن ما خرَّبه من بلاد، وقُبُول التبعيَّة العُثمانيَّة. كما حلف يمينًا على أن لا يعود إلى مُحاربة السُلطان مُراد، الذي قفل وعاد إلى بورصة. معركتا نيش ويالواچ. أثناء انشغال السُلطان مُراد بِمُلاحقة وقتال الأمير القرماني، تحرَّكت الجحافل الصليبيَّة وسارت في شهر شوَّال 846هـ المُوافق لِشهر شُباط (فبراير) 1443م باتجاه الأراضي العُثمانيَّة، فاجتازت الطونة عند سمندريَّة وبدأت بِالتقدُّم في البلاد الصربيَّة، وكان جُريج برانكوڤيچ دليلًا لِلعسكر، فساروا وخرَّبوا أولًا نواحي آلاجة حصار، ونيش، وشهر كوي، وأسروا أهلها، ثُمَّ توجَّهوا إلى صوفيا، وأرادوا أن يعبروا من ممر «دربند إزلادي» إلى جانب مدينة فيلپَّة، ثُمَّ إلى أدرنة، فيُسخِّروا جميع بلاد الإسلام. ولمَّا بلغ ذلك السُلطان بادر إلى جانب صوفيا فيمن وُجد عنده من العسكر، وكان في جيشه مجموعة من نُخبة القادة، أبرزهم: بكلربك الروملِّي قاسم باشا الأرناؤوطي، ومحمود باشا الجندرلي، أخا الصدر الأعظم خليل باشا، وطُرخان بك، وإسحٰق بك بن فيروز، وعلي بك بن تيمورطاش، وعيسى بك بن أفرنوس، وحاكم توقاد بلبان باشا، وإسكندر بك. وصل العُثمانيُّون إلى دربند إزلادي قبل عُبُور الصليبيين، وحتَّى تُمنع قُوَّات العدُوِّ من الانتقال إلى هذا الطرف من الجبل، وُضعت الاستحكامات اللَّازمة على الممر، وأٌغلق بِصُخُورٍ كبيرة، ثُمَّ أمر السُلطان بِتحويل مسار المياه إلى المعابر والمسالك، فتجمَّدت ليلًا من شدَّة البرد، إذ كان الوقت شتاءً، فانسد المعبر وأصبح هُناك جدارًا ثلجيًّا بِوجه الصليبيين، فلم يقدروا على العُبُور واضطرُّوا إلى الرُجُوع لِقلَّة الزاد، ولمَّا رجعوا أرسل السُلطان في عقبهم عسكرًا مع كُلٍ من البكلربك قاسم باشا وبلبان باشا ومحمود باشا. وكان يُوحنَّا هونياد لمَّا رأى عدم إمكانيَّة اجتياز المعبر سالِف الذِكر توجَّه إلى آخر هو معبر «دربند نيش» نظرًا لِكونه أوسع من سابقه، وكمن لِلعُثمانيين فيه، فغفل هؤلاء عنه وأسرعوا السير في عقب الصليبيين إلى أن وصلوا إلى دربند نيش، فخرج الكمين عليهم، وأحاط الصليبيُّون بهم، وجرت في هذا الموقع معركة شديدة في يوم الثُلاثاء 2 رمضان 847هـ المُوافق فيه 24 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1443م انتصر فيها الصليبيُّون ولم يُفلت من المُسلمين إلَّا جمعٌ قليل، ووقع آخرون في الأسر بما فيهم محمود باشا الجندرلي، الذي كان زوج حفصة خاتون، أُخت السُلطان مُراد. تقدَّم الصليبيُّون بعد انتصارهم وسيطروا على بُلغاريا وسُهُول تراقيا واحتلُّوا مدينة صوفيا، وحدث أن واصل يُوحنَّا هونياد تقدُّمه، فعبر جبال البلقان واقتفى أثر العُثمانيين حتَّى لقيهم في يالواچ ما بين صوفيا وفيلپَّة، حيثُ دارت المعركة الأخيرة في الحملة الطويلة، يوم الخميس 11 رمضان 847هـ المُوافق فيه 2 كانون الثاني (يناير) 1443م، وكان النصر فيها حليف الصليبيين أيضًا، وقد استبسل الجيش العُثماني في هذه الموقعة وأبدى مُقاومةً كبيرة، وتمكَّنوا من التغلُّب على قُوَّات قيصر الصرب برانكوڤيچ، لكنَّ الكفَّة مالت لِلحُلفاء في نهاية المطاف بِسبب ثِقل المعدَّات العُثمانيَّة، ووقع قاسم باشا الأرناؤوطي في الأسر، مُنضمًّا إلى محمود باشا الجندرلي. ويُذكر أنَّ هونياد قام بِإعدام مائة وسبعين أسيرًا عُثمانيًّا على الفور، ولم يقتل الباشوان سالِفا الذِكر، فأخذهما معه بغية التشهير بهما في الاستعراض الانتصاري لِلجيش. وبحسب المُؤرِّخ الرومي «لاونيكوس خالكونديلاس»، فإنَّ الهزائم العُثمانيَّة المُتكرِّرة شجعَّت بعض القادة والأُمراء ذوي الأُصُول المسيحيَّة على هجر العُثمانيين والتخلِّي عن السلطنة، والعودة إلى بلاد آبائهم، وكان في مُقدِّمة هؤلاء إسكندر بك. صُلح سكدين. بعد الانتصار الصليبي، بدا أنَّ أملاك العُثمانيين في أوروپَّا أضحت غنيمة سهلة في يد يُوحنَّا هونياد، وكان من المُتوقَّع أن يُتابع زحفه إلى أدرنة حيثُ بات الطريق إليها مفتوحًا بعد هذه الانتصارات، ولكنَّهُ لم يفعل وتوقَّف عن الزحف، رُبَّما بِسبب صُعُوبة اجتياز المسالك في فصل الشتاء، أو لعلَّهُ كان يخشى من أن يكمن لهُ العُثمانيُّون ويتربَّصوا به بعد اقترابه من مراكزهم الحيويَّة، والرَّاجح أنَّ تعدُّد القيادات في الجيش الصليبي كان يُوحي بِالتروِّي في اتخاذ قراراتٍ خطيرةٍ ضدَّ العُثمانيين. وفي الحقيقة فإنَّ معركتي نيش ويالواچ كانتا نفختا روح الحماس الديني في جميع أنحاء أوروپَّا، واندفع أعداء السلطنة يتحدونها، فاستغلَّ الأمير البيزنطي قُسطنطين، حاكم شبه جزيرة المورة وقسمٌ من إقليم تساليا، استغلَّ انشغال مُراد الثاني بِمُحاربة الصليبيين ومن ثُمَّ انكساره، فسيطر على مُجمل شبه جزيرة بلبونس، وأصلح أسوار هيكساميليون، وأجبر حاكم آتيكة، الذي كان يدفع الجزية لِلعُثمانيين، على الاعتراف بِسيادته، كما نسَّق مع اللاتين أعداء العُثمانيين. وفي الوقت نفسه كان إسكندر بك قد أشهر عصيانه ويقوم بِحركةٍ انفصاليَّةٍ تستهدف فصل بلاد الأرناؤوط عن الدولة العُثمانيَّة، وجاءت وفاة وليّ العهد الشاهزاده علاءُ الدين عليّ - خِلال هذه الفترة - لِتُتوِّج المصائب التي ابتُلي بها مُراد الثاني، فقد كانت وفاة الشاهزاده اليافع كارثة الكوارث بِالنسبة لِلسُلطان، الذي طلب الصُلح مع الصليبيين بِمُجرَّد دفنه ابنه، فأُجيب إلى طلبه من قِبل المجلس السياسي المجري عند انعقاده في مدينة سكدين. والحقيقة أنَّ عرض مُراد الثاني لِلصُلح على القوى الأوروپيَّة جاء بِشُرُوطٍ مُغرية، بعد توسُّط جُريج برانكوڤيچ الذي أمل في استرداد دولته، وفي 24 صفر 848هـ المُوافق فيه 12 حُزيران (يونيو) 1444م أُبرمت مُعاهدة الصُلح بين العُثمانيين والصليبيين، وصدَّق عليها مُراد الثاني وڤلاديسلاڤ الثالث، وتضمَّنت ما يلي: وبالتصديق على المُعاهدة، أُرسلت نُسخٌ منها إلى أدرنة وبودا، وأقسم الملك المجري على الإنجيل والسُلطان مُراد على القُرآن على عدم مُخالفتهما شُرُوط هذا الصُلح ما داما على قيد الحياة. وهكذا تأسست القيصريَّة الصربيَّة مُجددًا على أن تكون منطقة عازلة بين الدولة العُثمانيَّة ومملكة المجر. تنازُل السُلطان عن المُلك وعودته إليه. شعر مُراد الثاني بِالتعب، ورُبَّما كانت المُشكلات الداخليَّة والخارجيَّة وموت ابنه علاء الدين عليّ، الذي كان يُعدُّه لِخلافته، قد تركت لديه شُعُورًا حادًا بِالسَّأم، فرأى أن يعتزل السياسة، وتنازل عن العرش لِابنه الفتى مُحمَّد، البالغ أربعة عشر عامًا من العُمر، إذ كان أكبر أولاده الذُكُور وأرشدهم، فأرسل إليه كتابًا يستدعيه إليه، وكان في إقطاعة مغنيسية، فوصل إلى خدمة والده وتسلَّم السلطنة، وكان ذلك بعد حوالي شهرين من توقيع مُعاهدة الصُلح مع الصليبيين. بِهذا، أصبح السُلطان مُراد أوَّل سُلطانٍ يتخلَّى عن العرش بِمحض إرادته، ثُمَّ سافر إلى جانب مغنيسية لِلإقامة بعيدًا عن هُمُوم الدُنيا وغُمُومها، وسار معهُ جمعٌ من خواصه، منهم إسحٰق بك بن فيروز وحمزة بك الشرابدار، فاعتزل فيها لِلعبادة وانتظم في سلك الدراويش، وبقي في خدمة السُلطان الجديد الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي، وشهاب الدين شاهين باشا الخادم، والوزير الثاني صاروچه باشا، وقاضي العسكر المُلَّا خسرو مُحمَّد أفندي. وكان مُراد الثاني ينوي العيش في مغنيسية حتَّى يأتيه الأجل، وبناءً على إحدى الروايات، فإنَّ واردات سناجق آيدين وصاروخان ومُنتشا خُصَّ بِهما مُراد الثاني لِتكون راتبًا تقاعُديًّا له، وبِمُوجب رواية أُخرى، فإنَّهُ خُصَّ بِواردات سنجق صاروخان فقط. كان الأثر المُباشر لِقرار اعتزال السُلطان مُراد يتمثَّل في تجدُّد الحرب، ذلك أنَّ الوضع في العاصمة أدرنة كان مُضطربًا، فقد واجه الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي، الذي كان السُلطان يثقُ به، مُعارضة وُزراء آخرين أكثر ميلًا إلى مُحمَّد، كما أنَّ القيادات المسيحيَّة المسؤولة عن شن الحرب الصليبيَّة عادت ونظرت إلى الموقف بِعين المصلحة الخاصَّة، بِغض النظر عن تلك المُعاهدة التي عُقدت بين مُراد الثاني وڤلاديسلاڤ الثالث، وتزعَّم هذه الحركة الكردينال يوليان سيزاريني، بِإيعازٍ من البابا الذي عطَّلت هذه المُعاهدة طُمُوحه، وغرَّر الكردينال المذكور بِملك المجر وغيره من المُلُوك الأوروپيين وأفهمهم أنَّ عدم رعاية الذمَّة والعُهُود مع المُسلمين لا تُعدُّ حنثًا ولا نقضًا كونهم كفرة (أي المُسلمين)، ومن ثُمَّ فإنَّ البابا يُبطلُ قسم ملك المجر ويجعلهُ في حلٍّ منه. كان الاعتقاد السائد في الدوائر الأوروپيَّة المُعادية لِلعُثمانيين، أنَّ موقف هؤلاء أضحى حرجًا لِلغاية بعد اعتزال مُراد الثاني وتسلُّم ابنه الفتى مُحمَّد زمام الأُمُور، ولا خبرة لهُ في الشُؤون السياسيَّة، وأنَّ دولتهم أضحت مُنهكة، وباتت أطرافها مُعرَّضة لِلاقتطاع من جانب أُمراء الحُدُود، وفي مُقدِّمتهم الأمير القرماني الذي أرسل إلى ملك المجر يُحرِّكه على السُلطان والممالك العُثمانيَّة ويحُثُّه على انتهاز الفُرصة، بِالإضافة إلى ذلك، فقد كانت تُوجد آنذاك قُوَّاتٌ أوروپيَّة مُعسكرة في البلقان يُمكن الاستفادة منها، فضلًا عن أنَّ استمرار العمليَّات العسكريَّة يُمكن أن يُعد حافزًا لِمُلُوك أوروپَّا لِتقديم مُساعدات جديدة وجديَّة. تدخَّل البابا إيجين الرابع بِنفسه وأخذ يُحرِّض ملك المجر، الذي كان ما يزال حتَّى ذلك الحين مُترددًا في الإخلال بِقسمه الغليظ، على نقض المُعاهدة، فأرسل يقُولُ له: ، وشارك البيزنطيُّون البابويَّة في تحريضها، وقد أملوا في طرد العُثمانيين من أوروپَّا واستعادة أملاكهم السابقة؛ ما أدَّى إلى تنكُّر بعض زُعماء ومُلُوك أوروپَّا لِتلك المُعاهدة التي وقَّعها ڤلاديسلاڤ الثالث، مُقتنعين أنَّ المُعاهدة مع الكُفَّار لا قيمة لها، وأنَّ المصلحة المسيحيَّة العُليا هي التي يجب أن توضع فوق كُل اعتبار. اقتنعت القيادات المسيحيَّة المُعسكرة في البلقان بِهذا التفسير، وتحرَّكت مشاعر ملك إنگلترا هنري السادس وملك فرنسا شارل السابع، وحُكُومات البُندُقيَّة وجنوة وفلورنسة، على الرُغم ما بينها من نزاعات؛ لِلمُساهمة في هذه الحرب الصليبيَّة. ويبدو أنَّ بعض الزعامات في البلقان رفضت المُشاركة في هذا التحالف، كما فعل جُريج برانكوڤيچ الذي أبى الحنث بِاليمين المعقود بين المُتحاربين، وشاركه بعض الزُعماء المحليين، بل إنَّ القيصر الصربي منع إسكندر بك من اللِّحاق بِحُلفائه المجريين، في حين تُشير مصادر أُخرى أنَّ برانكوڤيچ كان من جُملة المُشاركين في الحملة. وقضت الخطَّة العسكريَّة أن يُبحر الأُسطُول البُندُقي باتجاه المضائق ويستولي على مدينة گليپولي، في الوقت الذي يزحف فيه الجيش البرِّي جنوبًا، ويُؤمِّنُ اتصالًا مع هذا الأُسطُول في المدينة المذكورة التي تُصبح قاعدة الانطلاق باتجاه القُسطنطينيَّة، وبِذلك تكون هذه القُوَّات الصليبيَّة قد حقَّقت هدفين في الوقت نفسه وهُما عزل السُلطان عن قواعده في آسيا الصُغرى وفتح طريق القُسطنطينيَّة. أدَّت كُل هذه المُعطيات والتدخُّلات لدى الملك المجري إلى تخلِّيه عن المُعاهدة، بعد أن مرَّ عليها خمسون يومًا، وهكذا تقدَّمت القُوَّات المُتحالفة، التي يقودها ظاهريًّا ڤلاديسلاڤ الثالث ويُحرِّكُها فعليًّا يُوحنَّا هونياد، باتجاه الأراضي العُثمانيَّة مُتجنبةً مضائق طريق أدرنة الخطرة، وتوجَّهت صوب بحر البنطس (الأسود) عن طريق ڤيدين ونيقوپولس، وبعد أن انضمَّ إليها ڤلاد دراكول أمير الأفلاق وصلت إلى مدينة وارنة (ڤارنا) الواقعة على شاطئ البحر سالِف الذِكر، في 26 رجب 848هـ المُوافق فيه 9 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1444م، وتحرَّك الأُسُطول البُندُقي في الوقت نفسه باتجاه المضائق. كانت العمليَّات العسكريَّة الأولى تُشيرُ إلى نجاحٍ مُتوقَّعٍ لِقُوَّات التحالف، وبِخاصَّةً أنَّ سُفُن البُندُقيَّة تمكَّنت من السيطرة على المضائق مانعةً القُوَّات العُثمانيَّة، في آسيا الصُغرى، من العُبُور إلى الجانب الأوروپي لِلمُشاركة في الحرب. وكان جمعٌ من الصليبيين قد أغار على نواحي نيقوپولس فخرَّبها، وكان واليها مُحمَّد بك بن فيروز من القادة المشهود لهم بِحُسن الانضباط والكفاءة القتاليَّة، فعقب الصليبيين في جمعٍ من الآقنجيَّة وأسر كثيرًا منهم، وأرسل الأسرى مع خبر وُصُول جُيُوش الأعداء إلى السُلطان مُحمَّد. كان الخطر أكبر من قُدُرات السُلطان الفتى، وأدرك وُزراؤه وقادته أنَّ المعركة هي معركة مصير، فاتخذوا قرارًا في اجتماعٍ لِمجلس شورى السلطنة أبلغهُ الصدر الأعظم إلى مُحمَّدٍ بن مُراد، ونصُّه: . بناءً على هذا، أرسل السُلطان مُحمَّد في دعوة والده، فذهب وفدٌ من الساسة إلى مُراد الثاني، في عزلته في مغنيسية، وطلبوا منه أن يعود إلى الحُكم ويقودهم، إنقاذًا لِلدولةِ من خطرٍ كبيرٍ مُحدقٍ بها. غير أنَّ مُرادًا - تحاشيًا لِكسر سُلطان ابنه - رفض وأبلغهُ أنَّ الدفاع عن دولته من واجبات ذاته السُلطانيَّة، فكتب إليه مُحمَّد ثانيةً بِأن لا بُدَّ من القُدُوم، فقال: . أمام هذا الأمر، اضطرَّ مُراد الثاني إلى القُدُوم، ولمَّا كانت سُفُن البنادقة قد سدَّت معبر گليپولي، فقد توجَّه إلى معبر قلعة أناضولي حصار حيثُ استقبلهُ الصدر الأعظم في جمعٍ من العساكر لِدفع المانعين من العُبُور، فعبر السُلطان وانضمَّ إلى الجُنُود العُثمانيين الذين فرحوا بِقُدُومه، وترك ابنه مُحمَّد في أدرنة لِمُحافظتها، وتوجَّه في العسكر إلى قتال الصليبيين. سلطنته الثانية. الحملة الصليبيَّة الخامسة ضدَّ العُثمانيين وواقعة وارنة (ڤارنا). جهَّز مُراد الثاني جيشًا ضخمًا من أحسن الجُنُود، وصل تعداد أفراده إلى حوالي 60,000 جُندي، منهم ما بين 30,000 و40,000 مُقاتل من الأناضول، وحوالي 7,000 مُقاتل من الروملِّي، وزحف به بِاتجاه العدُو. واعتقد الأوروپيُّون، وهم يزحفون بِاتجاه الجنوب، أنَّهم سيجدون أنفُسهم في أرضٍ مُسالِمةٍ بين شعبٍ مُسالم، لكنَّ هذا الجيش الائتلافي قضى على هذه الميزة عندما أنزل العقاب بِالقُرى المسيحيَّة التي قاومته، واعتقد الكردينال سيزاريني بِأنَّ نصارى البلقان الأرثوذكس هراطقة، بِالإضافة إلى ذلك كانت الخِلافات بين قيادات الجُيُوش تزداد عُمقًا يومًا بعد يوم، بِسبب الخطَّة التي يجب أن تُنفَّذ ضدَّ العُثمانيين. التقى الجمعان بِخارج وارنة يوم الثُلاثاء 28 رجب 848هـ المُوافق فيه 11 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1444م، وبدأت المعركة بِهُجُوم يُوحنَّا هونياد على ميسرة الجيش حيثُ تخفقُ راية السُلطان، فهزمها وقتل بكلربك الأناضول قراجة باشا، فتفرَّق من بقي من العسكر في تلك الجهة، ولم يبقَ مع السُلطان سوى فرقة القپوقوليَّة، وجمعٌ من قُدماء الأُمراء، ثُمَّ هجم البوهيميُّون على جناح الميمنة، إلَّا أنَّهم رُدُّوا على أعقابهم، ولمَّا رأى ملك المجر أنَّ السُلطان بقي في جمعٍ قليل، تهوَّر وسلَّ سيفه، وانقضَّ على المركز حتَّى واجه مُرادًا وناداه بِالتُرَّهات، فأمر السُلطان عسكره بِالثبات وفتح ثغرة ينفذ منها الأعداء عند الهُجُوم عليهم. وهكذا، تُرك ڤلاديسلاڤ الثالث يتوغَّل إلى عُمق صُفُوف العُثمانيين حتَّى اقترب إلى صوب الطوغ والراية السُلطانيَّة، ثُمَّ أُعطي أمر الهُجُوم، فلم يُدرك ڤلاديسلاڤ إلَّا وقد طُوِّق بِالجُنُود العُثمانيين من كُلِّ صوب، فأخذ يُقاتلهم بنفسه مع حرسه الملكي، الذين قُتل منهم 50 رجلًا، ثُمَّ رماه أحد قُدامى آغاوات الإنكشاريَّة، واسمه «خوجة قراجة خضر آغا»، بِبلطته، فأصاب ساق حصانه، وسقط ڤلاديسلاڤ أرضًا، فانقضَّ عليه الآغا سالِف الذِكر وقطع رأسه، وحمله إلى ركاب السُلطان، فأمر الأخير أن يُنصب الرأس على رُمح ويُضرب طبل البِشارة وتُرفع راية الغلبة والظفر. أُصيب الصليبيُّون بِالهلع والفزع لمَّا شاهدوا رأس الملك مرفوعًا على رمح، فأخذ المجريُّون منهم يفرُّون من ساحة المعركة، فاستفاد مُراد الثاني من هذه الفُرصة ونادى بِالهُجُوم العام، فانقضَّ العُثمانيُّون على الفرقة البوهيميَّة وفتَّتوا صُفُوفها وهزموها شرَّ هزيمة، وفرَّ من بقي من عساكر العدوِّ إلى مُعسكراتهم، وجدَّ هونياد على تثبيتهم وتقريرهم لكنَّهُ لم يتمكَّن من ذلك، فجمع ما استطاع من قُوَّاته ولاذ بِالفرار إلى المجر، فتعقَّبته فرقة عُثمانيَّة بِقيادة داود باشا إلى أن عبر نهر الطونة بِرجاله. وفي اليوم التالي من المعركة، أي الأربعاء 29 رجب المُوافق فيه 12 تشرين الثاني (نوڤمبر)، استولى العُثمانيُّون على مُعسكر الجيش الصليبي، وحاول الكردينال سيزاريني أن يُدافع عنه لكنَّهُ هُزم بِسُهُولة وقُتل بِدوره، فقُطع رأسه ونُصب على رُمحٍ أيضًا، كما رُفعت مُعاهدة سكدين على رُمحٍ آخر وشُهرت على الكتائب العُثمانيَّة المُظفَّرة، ثُمَّ أمر السُلطان بِإرسال الرأسين والمُعاهدة لِيُشهَّر بها في أدرنة وبورصة على مرأى من الناس، وأن تُزيِّن كِلتا المدينتين. وبِالإجمال، لم يُفلت من هذه المعركة الكُبرى سوى شرذمة قليلة من الصليبيين، ووقع الآلاف منهم في الأسر، وغنم المُسلمون أموالًا عظيمة، منها مائتان وخمسون عربة مملوءة بِالأموال والأمتعة النفيسة وأواني الذهب والفضَّة. ولمَّا تمَّ الأمر وعاد الهاربون من الجيش العُثماني، أمر السُلطان بِقتل بعضهم وتشهير آخرين بِثياب النساء وزيِّهن، ثُمَّ شفع فيهم الوُزراء والأُمراء الثابتون المُقرَّبون، فعفا عنهم السُلطان شُكرًا لله الذي نصر العُثمانيين. أرسل مُراد الثاني مُبشِّرين إلى السلاطين والأُمراء المُسلمين يُعلمهم بانتصاره الأخير، فعمَّت الاحتفالات أرجاء العالم الإسلامي، وكان المُبشِّر المُرسل إلى السُلطان المملوكي سيف الدين جقمق هو «عزب بك» من خواص السُلطان مُراد، وأرسل معهُ خمسة وعشرين أسيرًا صليبيًّا، فسُرَّ السُلطان المملوكي سُرُورًا عظيمًا، وأمر في الجُمُعة الأولى من وُصُول الخبر إلى القاهرة بِذكر اسم السُلطان مُراد - مُجاملةً - بعد اسم الخليفة العبَّاسي أبو الربيع سُليمان المُستكفي بِالله، في الخِطبة، وبِالدُعاء لِأرواح العُثمانيين الذين قضوا نحبهم، في كافَّة الأقطار المملوكيَّة، وأُقيمت الاحتفالات في مصر. وكان من نتيجة المعركة أن عادت بلاد البلقان مرَّة أُخرى إلى الحُكم العُثماني، وخُطَّ مصير الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، إذ لم يبقَ لها بدايةً من هذا التاريخ سوى تسع سنواتٍ من العُمر، وأصبح من المُؤكَّد أنَّ العُثمانيين لا يُمكن قلعهم من أوروپَّا الشرقيَّة، كما كان موت ڤلاديسلاڤ الثالث دون وارث أحد أهم وقائع التاريخ الأوروپي، فقد انفصلت إثر ذلك مملكتا بولونيا والمجر عن بعضهما وحرصتا، مُنذُ ذلك التاريخ، على عدم الظُهُور أمام الدولة العُثمانيَّة كدولةٍ واحدة، كما أُخرجت بلاد المجر لِعشر سنواتٍ على الأقل من عِداد الدُول التي تستطيع النُهُوض بِعمليَّاتٍ حربيَّةٍ هُجُوميَّةٍ ضدَّ العُثمانيين. تمرُّد الإنكشاريَّة. استُقبل السُلطان مُراد استقبال الفاتحين بِمُجرَّد عودته إلى أدرنة، لكنَّهُ لم يلبث فيها طويلًا، ورجع إلى عُزلته في مغنيسية وفق أكثر الروايات شُيُوعًا، دون أن يستثمر انتصاره الكبير، لكنَّ الأحداث السياسيَّة المُستجدَّة حتَّمت عليه العودة إلى العمل السياسي مرَّة أُخرى، ويبدو أنَّ لِذلك علاقة - وفق إحدى الروايات - بِالمدى الذي وصلت إليه العلاقة بين السُلطان مُحمَّد الثاني والصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي من توتُّر، بِالإضافة لِتجدُّد الأخطار الأوروپيَّة، أو بِسبب خطأ وقع من السُلطان الفتى وأثار غضب الإنكشاريَّة. تقول إحدى الروايات أنَّ العلاقة بين الصدر الأعظم والسُلطان مُحمَّد تفجَّرت على الأرض، في ظل الخِلاف الذي نشب بين الشيخ درويش الحُرُوفي، أحد زُعماء الطائفة الحُرُوفيَّة الشيعيَّة الذي تقرَّب من السُلطان اليافع وحاول استمالته إلى مذهبه فشُمل بِحمايته، وبين كُلٍ من المُفتي فخر الدين العجمي والصدر الأعظم. وممَّا زاد العلاقة تأجُجًا، الاختلاف في وجهات النظر بِشأن الصُلح الذي عقدته الدولة العُثمانيَّة مع جُمهُوريَّة البُندُقيَّة والمُماثل في بُنُوده لِلصُلح الذي عُقد في سنة 833هـ المُوافقة لِسنة 1430م، ما دفع الصدر الأعظم إلى تحريك تمرُّدٍ من جانب الإنكشاريَّة المُناوئين لِلسُلطان، ثُمَّ استُدعي مُراد الثاني لِلعودة مُجددًا لِتولِّي السُلطة. وبِحسب الرواية الأُخرى فإنَّ السُلطان مُحمَّد لمَّا أمسك بِزِمام أُمُور الدولة ضرب السكَّة الجديدة باسمه، وخفَّض زنة الآقچة من 5.75 إلى 5.25، ما أضرَّ بِالجُند وأثَّر بِالسُوق. واتفق أنَّهُ وقع حريقٌ هائل بِأدرنة في تلك الأيَّام، فاحترق قسمٌ مُهمٌّ من المدينة والأسواق، فقام الإنكشاريَّة، الذين لم يكونوا راضين عن وضع الآقچة، بِالتمرُّد، فهجموا على سراي شهاب الدين شاهين باشا الخادم ونهبوها، فهرب هو بِمشقَّةٍ إلى السراي السُلطانيَّة ونجا. واجتمعت الإنكشاريَّة في تلَّة «بوجوق تپَّه» مُقابل السراي المذكورة، وطلبوا زيادة مُرتَّباتهم، فأُجيبوا إلى ذلك، وضُمَّ إلى مُرتَّب كُل واحدٍ منهم نصف آقچة، فسكنت فتنتهم. رُغم ذلك، أبدى الإنكشاريُّون ازدراءً بِسُلطانهم الصغير، ومالوا إلى أبيه، فاقتنع أركان الدولة، وعلى رأسهم الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي، بِألَّا حل لِلمسألة سوى ارتقاء مُراد الثاني لِلعرش مرَّةً أُخرى كي لا تستمر هذه الأزمة، فأرسل وغيره من الوُزراء دعوةً إلى مُراد الثاني لِلحُضُور وترجُّوه رجاءً حتَّى قبل أن يعود بعد تردُّدٍ طويل، وخدع خليل باشا السُلطان مُحمَّد عندما اقترح عليه أن يعرض السلطنة على والده تطييبًا لِقلبه وخاطره، وأكَّد عليه أنَّ الأخير لن يقبلها وأنَّهُ سيُفضِّل البقاء في عُزلته، وأنَّ ذلك سيكون سببًا لازدياد حُبِّ الوالد لِابنه وتقديره إيَّاه، فصدَّق الفتى هذا الكلام ورتَّب مجلسًا عاليًا محفوفًا بِالوُزراء والوُكلاء والأُمراء، واستقبل فيه والده ما أن وصل، فقبَّل يده والتمس منه أن يجلس على تخت المُلك ويقبل بِالسلطنة ويعود هو إلى إقطاعه مغنيسية، فلم يتردَّد مُراد في القُبُول، ودعا لِولده وأعاده إلى مغنيسية، وعيَّن صاروچه باشا وزيرًا له، فلم يجد السُلطان مُحمَّد بدًّا من الامتثال لِأمر أبيه، وعلم أنَّ هذا من سعي وتدبير خليل باشا، فأسرَّها في نفسه حتَّى حين. ويُقال أنَّ مُرادًا الثاني لمَّا قدم - في أوائل سنة 1445م - ودخل العاصمة، نزل بِتلَّة «بوجوق تپَّه» حيثُ اجتمع عليه الإنكشاريَّة وبايعوه على السمع والطاعة، وأعادوه إلى السلطنة، فأجابهم في سبيل إخماد فتنتهم وإعادة الهُدُوء إلى أدرنة. ومن الجدير بِالذِكر أنَّ هذه الحركة كانت أوَّل فتنةٍ يُشعلها الإنكشاريَّة في الدولة العُثمانيَّة. مُحاولة فتح المورة. أمضى السُلطان مُراد شتاء سنة 850هـ المُوافقة لِسنة 1446م في أدرنة، وعقد العزم على التوجُّه في الربيع لِلتصدِّي لِأولئك الذين تحدُّوا السُلطة العُثمانيَّة، لِفرض هيبة الدولة من جهة ولِإشغال الإنكشاريَّة بِالحرب كي لا يرجعوا إلى إقلاق راحة الدولة من جهةٍ أُخرى. وكان الأمير البيزنطي قُسطنطين بن عمانوئيل، الذي وقف ضدَّ العُثمانيين في بلاد اليونان، المُستهدف الأوَّل. وكان الأمير المذكور قد استغلَّ انشغال العُثمانيين بِالحُرُوب البلقانيَّة، فاستولى على المُدن الموريَّة التي كانت لِلسلطنة، ولم يكتفِ بِذلك، بل استمرَّ في التوجُّه إلى شمال اليونان حيثُ استولى على بعض الأماكن في تساليا. بل تذكر إحدى الروايات أنَّهُ تجاوز حُدوده إلى درجة أنَّهُ قام بِمُطالبة مُراد الثاني بِالتخلِّي عن الأراضي الواقعة في شمال برزخ كورنثة. وكان قد أصلح أسوار هيكساميليون، كما أُسلف، التي امتدَّت على طول برزخ كورنثة وشكَّلت سدًا كبيرًا حال دون فتح المُسلمين لِلمورة. وهذا السد، الذي سمَّاه العُثمانيُّون «كرمه حصار»، كان قد استُحكم بِالعديد من الأبراج والقلاع المنيعة، كما حُفر على أطرافه خندقٌ عميق، ووقعت مدينة كورنثة خلفه، لِذلك كان فتح المورة موقوفًا على فتح تلك الأبراج والقلاع. أضف إلى ذلك، تمكَّن قُسطنطين وأخاه طوماس من استرداد بضعة مُدنٍ موريَّة كانت تحت إدارة اللاتين، باستثناء مدينتيّ كورونة ومودونة، الواقعتين في الجنوب، واللتان بقيتا في حُكم المُستعمرات البُندُقيَّة، ويُذكر أنَّ البنادقة طلبوا منهما ترك سد وحُصُون كرمه حصار لهم؛ بِغية الدفاع عنها ضدَّ العُثمانيين على وجهٍ أحسن من دفاعهما عنها. ومن جهةٍ أُخرى، فقد طلب أمير آتيكة الفلورنسي «نيرون آچايولي»، الذي أُجبر على الاعتراف بِالسيادة البيزنطيَّة كما أُسلف، حماية الدولة العُثمانيَّة، ودخل تحت تبعيَّتها. أمام هذه الوقائع، عزم السُلطان مُراد على فتح المورة وإلحاقها بِالممالك العُثمانيَّة، فدعا طُرخان بك، وكان صاحب خبرة واسعة في تلك الثُغُور من مُدَّةٍ مديدة، ويعلم مداخل تلك البلاد ومخارجها، فسيَّرهُ السُلطان على مُقدِّمة الجيش، وسار هو أيضًا مع بقيَّة العسكر في عقبه من طريق سيروز. ولمَّا وصل العُثمانيُّون إلى سد كرمة حصار، سلَّط السُلطان مُراد مدافعه على الأسوار وأمعن فيها قصفًا حتَّى أحدث فيها ثلمًا دخلت منهُ الجُنُود إلى مدينة كورنثة ففتحتها عنوةً بعد حصارٍ وقتالٍ دام أيَّامًا، وكان هذا الفتح في شهر رمضان من سنة 850هـ المُوافق فيه شهر كانون الأوَّل (ديسمبر) 1446م، واغتنم العسكر بِغنائم لم يُسمع بِمثلها، لِدرجة أنَّ الجارية الحسناء كانت تُباع بِمائة آقچة. تقدَّم العُثمانيُّون بعد ذلك حتَّى فتحوا مدينة باللوبادرة (پاتراس)، وأقاموا فيها حامية. ولمَّا تردَّت الأوضاع على هذا النحو، لم يجد أمير المورة قُسطنطين ملاذًا من اللُجوء إلى مُراد الثاني، حيثُ أمَّن على كيانه من خلال المُوافقة على الشُرُوط التي فُرضت عليه، ومنها هدم الأماكن السليمة من سد كرمه حصار، وقُبُول الحُكم العُثماني، ودفع خِراج سنوي إلى الخزينة العُثمانيَّة. والحقيقة أنَّ السُلطان مُراد كان في نيَّته أن يستمر في عمليَّة الفتح لولا ازدياد فتنة إسكندر بك في الأرناؤوط، فاضطرَّ لِلتحوُّل إلى تلك البلاد لِقمع الفتنة، فصالح الأمير البيزنطي على ما ذُكر. فتنة إسكندر بك وواقعة قوصوه الثانية. كان إسكندر بك قد استغلَّ انشغال السُلطان مُراد بِمُحاربة الصليبيين وانكسار العُثمانيين في بضعة وقعات، كما أُسلف، فكشف عن نواياه الحقيقيَّة وأظهر ما ما يكُنُّه صدره، فانسحب مع 300 من جُنُوده الأرناؤوطيين، بُعيد هزيمة العُثمانيين في معركة نيش بِأُسبُوعٍ واحد، وقيل قبل نُشُوب المعركة بِفترةٍ وجيزة، واستولى على مدينة آقچة حصار من أعمال الأرناؤوط الشماليَّة، وألزم باشكاتب السُلطان على أن يمضي لهُ أمرًا بِتوجيه إدارة المدينة المذكورة إليه، وأخذ هذا الأمر المُزوَّر بعد أن قتل مُمضيه خوفًا من إفشاء سرِّه وسار إلى تلك المدينة ودخلها بعد أن أبرز الوثيقة إلى صاحب القلعة، ثُمَّ قتل كُل المُسلمين فيها، واستدعى إليه رُؤساء قبائل الأرناؤوط، واجتمع بهم في كنيسة القدِّيس نقولا في بلدة ليجه، التي كانت تحت إدارة البنادقة، وأظهر لهم مشروعه وهو استخلاص البلاد من يد العُثمانيين، فوافقه أغلبهم على ذلك وأمدُّوه بِالمال والرجال، فسار معهم وطرد الحاميات العُثمانيَّة من مُعظم أنحاء البلاد، وبسط نُفُوذه على شمالها. بعد ذلك ارتدَّ إسكندر بك عن الإسلام إلى المسيحيَّة، وعاد إلى اسمه السابق أي جرجس كستريو، رُغم أنَّهُ بقي مشهورًا باسمه الإسلامي. وفي يوم الإثنين 12 ربيع الأوَّل 848هـ المُوافق فيه 29 حُزيران (يونيو) 1444م، التقى إسكندر بك بِعلي بك بن أفرنوس في أوَّل معركةٍ له ضدَّ القُوَّات العُثمانيَّة، في قرية «تورفيوللي» بِجوار مدينة دبرة، ومع أنَّهُ خسر في هذه المعركة نحو أربعة آلاف مُقاتل، فإنَّهُ نجا من الموت؛ وعدَّ الأرناؤوطيين هذه النجاة انتصارًا. وفي 9 رجب 849هـ المُوافق فيه 10 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1445م، تقدَّم جيشٌ عُثمانيٌّ آخر تراوح تعداده بين 9,000 و15,000 جُندي بِقيادة فيروز باشا، لِقتال إسكندر بك الذي وسَّع نطاق غاراته حتَّى بلغت أطراف مقدونيا، فأدرك الجواسيس الأرناؤوطيين هذا التحرُّك العسكري وأعلموا إسكندر بك، فما كان منه إلَّا أن استدرج العُثمانيين إلى وادي يعقوبجه وسدَّ مُعظم معابره، ثُمَّ انقضَّ عليهم بِرجاله فقتل منهم نحو 1,500 رجُل من بينهم فيروز باشا. وفي 7 رجب 850هـ المُوافق فيه 27 أيلول (سپتمبر) 1446م، دفع السُلطان بِجيشٍ آخر لِقتال إسكندر بك وإعادته إلى الطاعة، لكنَّه انتصر عليه أيضًا. ولمَّا فرغ السُلطان مُراد من المورة، واستتبَّ الأمن في بلاد اليونان، جمع جيشًا جرَّارًا وتوجَّه بِنفسه لِقمع الثائر الأرناؤوطي بعد أن تجاوز الحد في العصيان والتمرُّد، واستصحب معهُ في هذه الغزوة ولده الشاهزاده مُحمَّد، فسار واستردَّ من إسكندر بك بعض المُدن المُهمَّة، مثل «قوجه جق»، ثُمَّ حاصرة قاعدته آقچة حصار شهرين، وقاتل المحصورين أشدَّ قتال، ثُمَّ قطع مياههم، فاشتدَّ الأمر عليهم وطلبوا الأمان من السُلطان، وسلَّموه المدينة سلمًا. ولم يتمكَّن السُلطان من القبض على إسكندر بك لِهُروبه واعتصامه في الجبال، كما لم يتعقَّبه أو يسترجع باقي البلاد التي استولى عليها بسبب ما بلغه من عودة الاضطرابات مع بلاد المجر. كان يُوحنَّا هونياد، الذي أصبح وصيًّا على عرش مملكة المجر لِصغر سن ملكها لاديسلاس، قد أغار على بلاد الصرب انتقامًا من العُثمانيين لِيُعيد لِنفسه بعض ما فقد من الشرف في واقعة وارنة، وقرَّر توجيه ضربته في ذاك الوقت بِالذات للاستفادة من المُشكلة الأرناؤوطيَّة، فطلب المُساعدة من الأوروپيين ووُفّق في تشكيل قُوَّةٍ من الألمان والإيطاليين والمجريين والبوهيميين والأفلاقيين، كما انضمَّ إليه بعض الأرناؤوطيين، وكان إسكندر بك نفسه قد تعهَّد بِالالتحاق بِالجيش الصليبي الجديد، على رأس قُوَّةٍ، إلَّا أنَّ الحركة السريعة التي قام بها الجيش العُثماني وإجبارهم إسكندر بك على الهُرُوب والالتجاء إلى الجبال، لم تمنح أي فُرصة لِتحقيق ذلك. توغَّل هونياد في بلاد الصرب حتَّى وصل إلى سهل قوصوه (كوسوڤو)، وأمل أثناء توغُّله بِمُساعدة الصربيين له، غير أنَّ جُريج برانكوڤيچ رفض الاستجابة إلى نداء التعاون والمُساعدة الذي وُجِّه إليه، وظلَّ أمينًا على قسمه الذي أعطاه لِمُراد الثاني سابقًا، وحذَّره من قيام حلفٍ صليبيٍّ ضدَّه، فارتدَّ السُلطان إلى صوب صوفيا واستنفر أُمراء الروملِّي، وكذلك أرسل إلى أُمراء الأناضول يأمرهم بإرسال الجُنُود إلى الجانب الأوروپي، ومن الجدير بِالذكر أنَّ الأمير القرماني إبراهيم بك بن مُحمَّد أرسل قُوَّات مُساندة لِلعُثمانيين دون أن يُطلب منه ذلك. وصل عدد أفراد الجيش العُثماني إلى حوالي 60,000 جُندي، بينما تراوح عدد أفراد الجيش الصليبي بين 22,000 و30,000 جُندي، وقضت خطَّة الحاكم المجري التوغُّل بعيدًا في عُمق الأراضي العُثمانيَّة لِتأمين اتصال مع حليفه إسكندر بك كي يتلقَّى مُساعدته، ورُبما لِكي يقطع المُمتلكات العُثمانيَّة في أوروپَّا إلى شطرين، وأرسل إلى أمير الأفلاق ڤلاد دراكول كي يُغير مع عساكره على أطراف نيقوپولس، فاتفق واليها مُحمَّد بك بن فيروز ومُصطفى بك بن حسن وعيسى بك بن أوزغور، فبيَّتوا عسكر الأفلاق (هاجموهم ليلًا) وأكثروا فيهم القتل والأسر، وتفرَّقت بقيَّتهم، فأرسل مُحمَّد بك جماعة من الأسرى مع رؤوس القتلى إلى ركاب السُلطان، فتفائل بِذلك السُلطان وفرح، وارتحل من صوفيا إلى جانب العدو حتَّى لقيهم في سهل قوصوه. فوجئ هونياد بِالقُوَّات العُثمانيَّة قد وصلت قبل أن تصل قُوَّات إسكندر بك، فاضطرَّ إلى دُخُول المعركة، التي دامت ما بين يومين إلى ثلاثة أيَّام. مرَّ اليوم الأوَّل، الذي صادف الخميس 18 شعبان 852هـ المُوافق فيه 17 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1448م، بِبعض المُصادمات. أمَّا في اليوم الثاني، أي الجُمُعة 19 شعبان المُوافق فيه 18 تشرين الأوَّل (أكتوبر)، فقد وقعت معركة كبيرة بدأت في ضُحوة ذلك اليوم وامتدَّت إلى الغُرُوب ولم تنقطع، فتحارب الفريقين إلى الصباح ثُمَّ إلى نصف النهار، فانكسر الأفلاقيُّون والمجريُّون انكسارًا عظيمًا، ولاذوا بِالفرار في حالةٍ بائسة، ولم يجد يُوحنَّا هونياد أمامه سوى الهرب لِلنجاة بِحياته من موتٍ مُحقق. وفي اليوم الثالث، الذي وافق السبت 20 شعبان المُوافق فيه 19 تشرين الأوَّل (أكتوبر)، دُمِّرت القُوَّات الألمانيَّة التي كانت تستند إلى المدافع، ووقع الكثير من أفرادها في الأسر. وهكذا، قُدِّر لِمُراد الثاني أن ينتصر نصرًا مُبينًا على جيشٍ صليبيٍّ في ذات الموقع الذي انتصر فيه جدُّ أبيه مُراد الأوَّل على حلفٍ صليبيٍّ آخر قبل 59 سنة. أمَّا هونياد، فقد حاول بعد المعركة أن يشُقَّ طريقه عبر نهر الطونة، فوقع في أيدي الصربيين، واضطرَّ أن يعقد صُلحًا لم يكن في مصلحته. وتجدر الإشارة إلى أنَّ حجم الآمال التي كان يُعلِّقها الصليبيُّون على وارنة أكبر بِكثير من حجم الآمال التي كانوا يُعلِّقونها على قوصوه، ولكنَّهم في كُل الأحوال قاموا بِالمُحاولة السادسة والأخيرة التي أملوا منها إخراج المُسلمين من البلقان، وذلك أنَّهم تحوَّلوا بعدها إلى موقف المُدافع وليس المُهاجم، وقد توقَّفت أوروپَّا بعد واقعة قوصوه الثانية لِعُصُورٍ طويلة عن التفكير في إخراج العُثمانيين من جنوب الطونة. نتج عن انتصار مُراد الثاني سيطرته على شبه جزيرة البلقان بِكاملها تقريبًا، وبعد أن فتح مدينة آرتا في سنة 853هـ المُوافقة لِسنة 1449م، لم يبقَ عليه سوى القضاء على إسكندر بك المُتحصِّن في الجبال الغربيَّة مع ثُوَّاره، فعاد لمُحاربته واصطحب معه وليّ عهده مُحمَّد، وحاصرا مدينة آقچة حصار لِلمرَّة الثانية في 2 ربيع الآخر 854هـ المُوافق فيه 14 أيَّار (مايو) 1450م. دام الحصار العُثماني لِلمدينة المذكورة خمسة أشهر، دافعت خلالها حامية المدينة دفاعًا شرسًا عن مواقعها. ويُذكر أنَّهُ بِالإضافة إلى الأرناؤوطيين، كان هُناك مُرتزقةٌ ألمان وفرنسيين وإنگليز وصربيين يُدافعون عن القلعة، وكان معهم ثلاثون مدفعًا تُستخدم بِإدارةٍ فرنسيَّة، وتولَّى قيادتهم قُمَّسًا نبلطانيًّا يُدعى «أورانا». قصف العُثمانيُّون أسوار المدينة بِمدافعهم، التي تزن قذيفتها قنطارين، طيلة الأشهر الخمس، لكنَّهم عجزوا عن فتحها، ولعلَّ سبب ذلك هو: موقع المدينة المُستحكم، إذ كانت تقع على تلَّةٍ مُرتفعة، وضعف الجُيُوش العُثمانيَّة التي أنهكتها الحُرُوب المُتواصلة، وقُرب حُلُول فصل الشتاء، كما وردت أنباء تُفيد باستعداد القُوَّات المجريَّة لِلقيام بِهُجُومٍ جديدٍ على الأراضي العُثمانيَّة. لِذلك، عرض السُلطان مُراد الصُلح على إسكندر بك مُقابل الاعتراف به أميرًا على بلاد الأرناؤوط لِقاء جزيةٍ سنويَّةٍ يدفعها لِلدولة العُثمانيَّة. لكنَّ إسكندر بك رفض عرض الصُلح، على الرُغم من أنَّهُ كان يُعاني من انفضاض زُعماء القبائل من حوله بِسبب سياسته المركزيَّة، كما لم ينجح في كسب تأييد البنادقة، فاضطرَّ مُراد الثاني أن يرفع الحصار في أواخر رمضان المُوافق لِأواخر تشرين الأوَّل (أكتوبر)، وعاد إلى أدرنة عاصمة ممالكه لِيُجهِّز جُيُوشًا جديدة كافية لِقمع هذا الثائر، لكنَّ الأجل كان لهُ بِالمرصاد. وفاة مُراد الثاني. تُوفي مُراد الثاني في السراي السُلطانيَّة بِأدرنة، وتختلف الروايات حول تحديد طريقة وفاته؛ فبناءً على إحداها، كان السُلطان يتجوَّل في جزيرة «كرشجي» الواقعة على نهر مريچ، وفي أثناء عودته منها راكبًا فرسه، أخذه البرد فمرض. وبِموجب روايةٍ أقوى من السالفة أنَّهُ تُوفي إثر إصابته بِمرض النزلة الوافدة. وهُناك رواية تقول أنَّ السُلطان خرج يومًا إلى الغابات والبساتين لِلتفرُّج والتنزُّه، فلمَّا عاد منها صادف على جسر «أدَّه كوي» شيخًا نورانيًّا في زي الصوفيَّة، فنظر إليه (أي إلى السُلطان) وقال له: . فتأثَّر السُلطان من هذا الكلام وبكى، وأشهد وزيريه إسحٰق باشا وصاروچه باشا على توبته وإنابته هُناك - وكانا معاه في النُزهة - ولمَّا دخل أدرنة عرضهُ صُداعٌ مُفرط واشتدَّ به المرض إلى أن تُوفي بعد ثلاثة أيَّام. وإن كان هُناك اتفاقٌ في سنة الوفاة بِشكلٍ عام، فإنَّ هُناك اختلافًا في اليوم والشهر. فبِمُوجب المصادر العُثمانيَّة، تُوفي هذا السُلطان في أوَّل أربعاء من شهر مُحرَّم بعد أن وقع طريح الفراش لِمُدَّة ثلاثة أيَّام، حيثُ مات في اليوم الثالث؛ وأوَّل مُحرَّم سنة 855هـ يُصادف يوم الأربعاء الثالث من شُباط (فبراير) 1451م، وقيل تُوفي يوم الجُمُعة 3 مُحرَّم المُوافق فيه 3 شُباط (فبراير)، وقيل غير ذلك. وتذكر بعض المصادر الغربيَّة أنَّ مُراد الثاني تُوفي يوم الثُلاثاء 7 مُحرَّم المُوافق فيه 9 شُباط (فبراير)؛ ويبدو أنَّ الأصح هو يوم الأربعاء 1 مُحرَّم المُوافق فيه 3 شُباط (فبراير)، نظرًا لأنَّهُ التاريخ المنقوش على قبر السُلطان في بورصة. وبناءً على تواريخ ميلاد مُراد الثاني، فإنَّهُ لمَّا تُوفي تراوح عُمره ما بين 47 و49 سنة، وبلغ مجموع سلطنتيه 29 سنة، وإجمالي المُدَّة من جُلُوسه لِحين وفاته: 29 سنة و10 أشهر و26 يومًا. كتب السُلطان مُراد وصيَّةً إلى ولده وهو على فراش الموت، وجمع الوُزراء لِيكونوا شُهداء عليها، وأوصاهم بِحُسن الانقياد لِوليِّ عهده مُحمَّد، ومن أبرز ما ذُكر في الوصيَّة: تعيين خليل باشا الجندرلي وصيًّا ومُرشدًا لِلسُلطان الجديد، وأن يسعى الأخير لِفتح القُسطنطينيَّة، فإنَّ هذا الهدف هو أهم أساس ينبغي العمل على تحقيقه، وطلب ألَّا تُسدَّد نفقات جنازته ودفنه من خزينة الدولة، وبيع خاتمه المُرصَّع بِحجر الياقوت الأحمر المُثقَّب بِوزن مثقال بِالإضافة لِخاتمه الألماسي، أو رهنهما إذا لم يُباعا لِتسديد نفقات الجنازة. كما طلب أن يكون سقف تُربته وقبره مكشوفًا دون قبَّة، فقال: . وبِمُوجب وصيَّتُه تُرك قبره مكشوفًا. استنادًا إلى المُمارسة سارية المفعول مُنذُ وفاة السُلطان مُحمَّد الأوَّل، أخفى الوُزراء خبر موت السُلطان مُراد عن الجيش بِفعل ما قد يُسببه الإعلان من أخطار انتقال السُلطة من عهدٍ إلى عهد. لِذلك، جرى التكتُّم على هذا الأمر ما بين 12 و13 يومًا، وبِمُوجب رواية أُخرى 16 يومًا، إلى حين وُصُول السُلطان مُحمَّد من مغنيسية إلى أدرنة، فأمر بِإرسال جُثمان أبيه إلى بورصة لِيُدفن في التُربة المُعدَّة لِأجله، التي عُرفت فيما بعد بـ«الكُليَّة المُراديَّة»، وبهذا كان مُراد الثاني ثاني سُلطانٍ عُثمانيٍّ يُخفى نبأ موته بعد السُلطان مُحمَّد الأوَّل، وآخر من دُفن في بورصة من السلاطين العُثمانيين، إذ أنَّ جميع السلاطين الذين تلوه دُفنوا في إستانبول وقليلٌ منهم دُفن في غيرها من مدائن الدولة العُثمانيَّة. أهميَّة مُراد الثاني. تتجلَّى أهميَّة مُراد الثاني في جانبين: الأوَّل هو إعادته الدولة العُثمانيَّة إلى سابق مجدها وقُوَّتها، كما كانت قبل هزيمة أنقرة على يد المغول التيموريين، مما جعله جديرًا بِالاشتراك مع والده مُحمَّد في حمل لقب الباني الثاني لِلدولة العُثمانيَّة. وقد حاول مُراد الثاني في البداية أن يتفادى الارتباط القوي بِالمفهوم الإسلامي العالي، ونظام الدولة المركزيَّة، كما فعل جدُّه بايزيد الأوَّل، وذلك بِسبب الوضع في الأناضول. أمَّا أهميَّة مُراد الثاني الأُخرى فتتجلَّى بِالجانب الثقافي، إذ سجَّل عهده نهاية الثقافة العُثمانيَّة المُتأثِّرة بِالثقافتين العربيَّة والفارسيَّة، من واقع ظُهُور أولى المُؤلَّفات المُسهبة بِاللُغة التُركيَّة التي أخذت تحل محل لُغتي الأدب العربيَّة والفارسيَّة، بل إنَّهُ أحيا التقليد الغُزِّي القديم في مُواجهة ادعاءات شاهرُخ بن تيمورلنك الذي شاء مُواصلة سياسة والده في الأناضول، فحاول الضرب على وتر تفوُّق عشيرة قايى حتَّى يُحطِّم النُفُوذ التيموري في الأناضول، ولا شكَّ بِأنَّ هذا التمسُّك بِالتقاليد الغُزيَّة التُركمانيَّة الذي انعكس حتَّى على التواريخ العُثمانيَّة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، والسعي إلى تحويل اللُغة التُركيَّة إلى لُغةٍ أدبيَّةٍ مُتقدِّمةٍ، إنَّما كان من ثمرات تلك الجُهُود وحدها. أمر السُلطان مُراد بِترجمة العديد من المُؤلَّفات والكُتُب إلى اللُغة التُركيَّة، وكان من أهم تلك المُؤلَّفات التي كُتبت بِأمر هذا السُلطان: كتاب «تواريخ آل سُلجُوق» الذي يحوي تقاليد قبائل الغُز، لِمُؤلِّفه علي أفندي اليازجي؛ وكتاب «دانشمندنامه» الذي يتناول فتح الأناضول في القرن الحادي عشر الميلادي، لِمُؤلِّفه المُلَّا عارف علي؛ وكتاب «خسرو وشيرين» لِمُؤلِّفه «شيخي»؛ وكتاب «قابوسنامه» لِمُؤلِّفه «مرجمك أحمد»؛ وغير ذلك من المصادر القيِّمة، من حيث تاريخ اللُغة التُركيَّة. وكان من أهم تلك الكُتُب أيضًا كتاب «المُحمَّديَّة»، وهو من كُتُب الأدب الديني النادرة، لِمُؤلِّفه مُحمَّد أفندي اليازجي. ومن المعروف أنَّ السُلطان مُراد كان يطلب أن تكون الترجمة إلى التُركيَّة واضحة، إذ أنَّ كتاب «قابوسنامه» الذي ترجمه «مرجمك أحمد» من اللُغة الفارسيَّة، عهد به السُلطان إلى المُترجم المذكور لمَّا رأى أنَّ النُسخ المُترجمة السابقة - التي قام بها آخرون - لم تكن على المُستوى المطلوب من الوُضُوح والبساطة. نتيجة هذه الحركة الثقافية، يعتبر بعض القوميُّون الأتراك والمُستشرقون أنَّ مُراد الثاني كان من رُوَّاد التتريك، فيقول «پول ويتك» أنَّ مُرادًا أخذ هذه الآراء «القوميَّة» في شبابه لمَّا كان واليًا على أماسية؛ فمُنذُ عهد الدانشمنديين، كانت هذه المنطقة مُحافظة على التقاليد والعادات التُركيَّة، حيثُ أصبحت أهم عامل في قيام الدولة العُثمانيَّة بعد تجميع أوصالها بِـ«الرُّوح الوطنيَّة»، التي منحتها لِلسُلطان مُحمَّد الأوَّل بعد كارثة أنقرة، ثُمَّ لقَّنت ابنه مُرادًا الثاني شُعُورًا وطنيًّا قويًّا بِحيثُ يقوم بِفتح تيَّار التتريك. شخصيَّته وصفاته. وُصف السُلطان مُراد الثاني بِأنَّهُ مربوع القامة، ومُستدير الوجه، وعريض الصدر، وأشهل العينين، ومُحمرّ اللحية. ولمَّا رآه الرحَّالة البورغندي «برتراندون دي لا بروكير» في أدرنة سنة 1432م، صوَّرهُ على النحو الآتي: . كان مُراد الثاني عالمًا وشاعرًا وموسيقيًّا، ومع عهده ظهر النموذج النمطي لِلسلاطين العُثمانيين، فقد كان الاستمتاع بِالمُوسيقى والشعر، ورعاية الفنَّانين - وخاصَّةً المُوسيقيين والشُعراء - من بين الخُصُوصيَّات التي تُميِّزُ هذا النموذج الذي سيستمرُّ قُرُونًا. ومن أبرز الأدلَّة على حُب مُراد الثاني لِلمُوسيقى والشعر هو شهادة برتراندون دي لا بروكير سالِف الذِكر، الذي قال بِوُجُود الشُعراء العازفين في السراي السُلطانيَّة بِأدرنة، وأنَّ السُلطان كان يُحب الاستماع إلى ملاحم البُطُولة التي يُلقيها الشُعراء العازفون على مسمعه. اتخذ مُراد الثاني اسم «مُرادي» الفنِّي اسمًا مُستعارًا له في قصائده، وبِحسب ما ورد في «مُذكرات لطيفي» فإنَّه نادرًا ما كان يُلقي الشعر، ولكنَّهُ استمع بِتقديرٍ وانتباهٍ لِلقصائد التي كانت تُلقى مرَّتين في الأُسبُوع؛ حيثُ يجتمع الشُعراء والعُلماء، ويُعيِّن مُناقشين يُناقشون موضوعًا كُل أُسبوع. ويقول الدكتور مُحمَّد حرب أنَّ مُراد الثاني «وإن كان مُقلًّا وكان ما وصل الباحثين من شعره قليلًا، لكنَّ فضله على الأدب والشعر لا يُجحد، لأنَّ نِعَمَهُ حلَّت على الشُعراء الذين كان يدعوهم إلى مجلسه يومين في كُل أُسبوع لِيقولوا ما عندهم، ويأخذوا بِأطراف الحديث والأسمار بينهم وبين السُلطان، فيستحسن أو يستهجن، ويختار أو يطرح، وكثيرًا ما كان يسُدُّ عوز المعوزين منهم بِنائلة الغمر أو بِإيجاد حرفةٍ لهم تدُرُّ الرزق عليهم حتَّى يُفرِّغوا هُمُوم العيش ويتوفروا على قول الشعر، وقد أنجب عصره كثيرًا من الشُعراء»، ووصل به الأمر أن كان الشُعراء يُرافقونه في جهاده. وطوال فترة تولِّيه الحُكم، توافد المُوسيقيُّون إلى البلاط العُثماني من كُلِّ حدبٍ وصوب، فعلى سبيل المِثال، قدَّم أُستاذ الموسيقى الكبير عبد القادر بن عيني المراغي نسخة من كتاب نظريَّته الموسيقيَّة «مقاصد الألحان في تأليف النغم والأوزان» هديَّةً إلى مُراد الثاني، وهي موجودة اليوم في جناج «أريوان» في سراي طوپ قاپي. حوَّل مُراد الثاني قصره إلى نوعٍ من الأكاديميَّة العلميَّة، إذ كان تحصيله العلمي مُمتازًا، وكان المُؤرِّخ والأديب والرحَّالة الشهير شهاب الدين ابن عربشاه أحد أساتذته، ويُفهم من بعض المصادر أنَّهُ كان يمتلك مكتبة شخصيَّة، جمع فيها الكثير من الكُتُب القيِّمة المنسوخة، وفي مُقدِّمتها الملاحم القوميَّة والدينيَّة القديمة نظرًا لِدورها السياسي والاجتماعي، كما اهتمَّ بِالكُتب السياسيَّة من كلاسيكيَّات الثقافة الإسلاميَّة. وكان مُراد الثاني من أكابر المُهتمين بِالإعمار، فأنشأ عدَّة جوامع وكُليَّات ومدارس في بورصة وأدرنة، ومن أبرز الإنجازات المعماريَّة التي تمَّت في عهده: جامع دار الحديث، ومسجد الشُرُفات الثلاث (بُني ما بين سنتيّ 1438 و1447م) ومدارسه، وجسر أوزون كوبري على نهر أركنة الذي استغرق تشييده 16 سنة وافتُتح سنة 1443م، وكان طوله 392 مترًا. ومن الجدير بِالذِكر أنَّ أغلب مشاريع مُراد الثاني المعماريَّة شُيِّدت بِأموال الغنائم التي عادت بها الجُيُوش العُثمانيَّة من حُرُوبها مع الأوروپيين. يقول كبير الفلكيين عن ملابس مُراد الثاني أنها كانت مثل أثواب أجداده، مُذكِّرًا بِأنَّهُ لم يُبدِ اهتمامًا بِأن يكون مُختلف الهندام. وكتب الرحَّالة برتراندون دي لا بروكير الذي قابل السُلطان مُراد عندما كان بِصحَّةٍ جيِّدة أنَّهُ يرتدي فراء وسترة من المُخمل الأحمر، ويعتمر قُبَّعة من الفراء وهو يجلس على فراء عرشه. وقد استمرَّت عادة وضع السلاطين لِقُبَّعات الفراء على رؤوسهم حتَّى عهد السُلطان مُحمَّدٍ الفاتح. أمَّا بِالنسبة لِتديُّن مُراد الثاني، فمن المعروف أنَّهُ كان تقيًّا مُخلصًا في إسلامه، وعاش طيلة سلطنته حياةً مُستقيمة وجديَّة ونزيهة، وقال عنهُ يُوسُف آصاف: ، وكان يُرسل لِأهالي الحرمين الشريفين وبيت المقدس من خاصَّة ماله في كُلِّ عامٍ ثلاثة آلاف وخمسُمائة دينار. رُغم ذلك، يقول ابن تغري بردي أنَّ مُرادًا الثاني انغمس في بعض الملذَّات، لكنَّهُ كان دائم الاستغفار: . تزامن انتشار الطريقة المولويَّة بين العُثمانيين إلى جانب الطريقة الزينيَّة في عهده، وقد ساعدت علاقة مُراد الثاني القريبة من الحاج بيرم وليّ وإعفاؤه الدراويش البيرميَّة من الضرائب، ساعدت بانتشار الطريقة البيرميَّة في الأناضول. كما ذكر الراهب الدومينيكاني الأب جرجس المجري الذي كان أسيرًا لدى العُثمانيين بين سنتيّ 1435 و1458م، أنَّ لِمُراد الثاني علاقة قويَّة بِالدراويش، ومن الأشعار الصوفيَّة المنسوبة لِمُراد الثاني، قوله: . ويُروى أنَّ مُراد الثاني كان مُقتنعًا بِأنَّ الحاج بيرم وليّ من أولياء الله الصالحين، وأنَّ من أسباب تنحيه عن العرش، بِالإضافة لِإصابته بِالإرهاق والتعب والسأم ورغبته بِالتفرُّغ لِلعبادة والطاعة، رغبته بِأن يشهد فتح القُسطنطينيَّة، إذ أخبرهُ الحاج بيرم المذكور أنَّ شرف هذا الفتح لن يكون من نصيبه، وإنَّما من نصيب ابنه مُحمَّد والشيخ آق شمس الدين، فكان هذا دافعًا إضافيًّا له كي يتخلَّى عن عرشه. أمَّا بِالنسبة لِتعامل مُراد الثاني مع غير المُسلمين من أبناء رعيَّته، فقد ذكر المُؤرِّخ البيزنطي «پرنس دوكاس» الذي عاصره: ، وقال المُستشرق النمساوي جوزيف ڤون هامر: . تلقبه بِلقب «خليفة». يقول المُستشرق البريطاني طوماس آرنولد أنَّ السلاطين العُثمانيين تسمُّوا بِلقب «خليفة» قبل فتح الشَّام ومصر بِزمنٍ طويل، وسبب تلقبهم بِهذا يرجع إلى أنَّ الكثير من الأُمراء المُسلمين قليلي الأهميَّة في العالم الإسلامي كانوا ينتحلون هذا اللقب الفخم مُنذُ أن سقطت بغداد بِيد المغول وقُتل آخر خُلفاء بني العبَّاس أبو عبد المجيد عبدُ الله المُستعصم بِالله سنة 656هـ المُوافقة لِسنة 1258م، فلا يُستغرب عندها - برأيه - ألَّا يرفض سلاطين آل عُثمان الأقوياء هذا المديح. ويُقال أنَّ أوَّل سُلطانٍ عُثمانيٍّ لقَّب نفسه بِخليفة المُسلمين كان مُراد الأوَّل، وأنَّ ابنه بايزيد استعمل هذا اللقب أيضًا، ثُمَّ انتحله ابنه مُحمَّد، واستمرَّ بعده مُراد الثاني في التلقُّب بِالخِلافة، فكان الأُمراء يختمون كُتُبهم إليه بِعبارة: «ضاعف الله القدير أيَّام سلطنته وزاد في سنيّ حياته وخِلافته إلى يوم الدين». وكتب شاهرُخ بن تيمورلنك إلى السُلطان مُراد فسمَّاه «صاحب الجلالة كُرسيّ السلطنة وملجأ الخِلافة»، ولقَّب حاكم ماردين السُلطان مُراد الثاني بِانَّهُ «سُلطان سلاطين الأتراك والعرب والعجم ونجم الخِلافة وظل رحمة الله». هذا ويجدر بِالذكر أنَّ المسكوكات النقديَّة المضروبة في البلاد العُثمانيَّة زمن هذا السُلطان لا يظهر عليها نقش لقب الخليفة، وإنما أسماء مُراد وأبيه مُحمَّد وجدِّه بايزيد والدُعاء لهُ بِدوام المُلك. كما أنَّ مُرادًا الثاني كان يُدين بالاحترام والولاء لِلخلافة العبَّاسيَّة في القاهرة، التي حصل منها على لقب «سُلطان المُجاهدين» و«سياج الإسلام والمُسلمين»، نتيجة انتصاراته الكبيرة على الصليبيين، ولا يبدو أنَّهُ كان في نيَّته مُنازعة الخليفة العبَّاسي زعامة المُسلمين الروحيَّة. زوجاته وأولاده. تزوَّج مُراد الثاني أربع نساءٍ خِلال حياته وأنجب منهُنَّ جميع أبنائه وبناته، وكانت بعض زيجاته لِأغراضٍ محض سياسيَّةٍ، بينما كان بعضها الآخر تقليديًّا. أمَّا زوجاته وأولاده فهم: في الثقافة الشعبيَّة. ظهرت شخصيَّة السُلطان مُراد الثاني على شاشة السينما في فيلمين رئيسيين، الأوَّل هو فيلمٌ ألباني - سوڤيتي مُشترك يعود لِسنة 1953م، وعنوانه «المُحارب العظيم إسكندر بك» ، وقد جسَّد فيه المُمثل الأرمني «واهرام پاپازيان» دور السُلطان؛ أمَّا الفيلم الآخر فهو الفيلم التُركي العائد لِسنة 2012م، وعنوانه «فتح 1453»، وقد جسَّد فيه المُمثل «إيلكر قورد» دور مُراد الثاني.